أحيت مدينة بسكرة الجمعة ذكرى مجزرة الأحد الأسود، أوما يعرف بـ”ضربة الحد”، بعد مرور ستة وستون عاما على مجزرة الأحد الأسود التي ارتكبها جنود الاحتلال الفرنسي يوم 29 جويلية 1956.
ذهب ضحية هذه المجزرة -حسب روايات غير رسمية- ما يقارب 300 شهيد من مدنيين عزل وسط سوق المدينة وأحياء متفرقة. وتشير مصادر أخرى إلى عدد 250 شهيد. هي جريمة بقيت دون عقاب.
المكتب الولائي للذاكرة التابع للجمعية الوطنية “الجزائر لخدمة وتنمية المجتمع”، بادر بتخليد هذه الذكرى، بعد تأجيل إحياء هذه الذكرى الذي كان من المقرر إحياؤها لأول مرة بأيام للذكرى تحت عنوان “بصمة في سجل الخلود” وأرجأت بسبب تداعيات جائحة كورونا، ليتم إحياؤها هذه السنة ضمن احتفالات ستينية الاستقلال بندوة تاريخية وجداريه سيراميك تخلد ذكرى هذه المجزرة.
إدارة الاحتلال تتستر على الجريمة
حاولت إدارة الاحتلال التستر على هذه الجريمة بادعاءات كاذبة حيث نشرت جريدة “لاديباش دي كوستنطين” تغطية ميدانية مفبركة بعيدة عن الواقع، ادعت فيها أن أعدادا كبيرة من المجاهدين قُتلوا في اشتباك عنيف مع قوات الاحتلال بمدينة بسكرة، وبذلك تكون فرنسا قد وثقت هذا الحادث وفق منظورها الاستعماري.
لكن بعد 66 عاما تأتي شهادة جديدة “من أهلها” بعدما نشر مؤخرا الجندي الفرنسي جاك بريشيو، المجند بمنطقة الأوراس إبان ثورة التحرير، مذكراته بعنوان “سنة في الأوراس”، أشار فيها بكل وضوح الى تفاصيل الجريمة وأعداد القتلى من المدنيين العزل. الكتاب نشر بفرنسا هذا العام.
أحد الشهود العيان على المجزرة يتذكر أن طلقات الرصاص كانت تُسمع من مستشفى “لافيجري”، حكيم سعدان حاليا، الذي كان يشتغل به ممرضا.
حسب شهادته، أعداد كبيرة من الجرحى حولوا إلى المستشفى، بينما دفنت جثامين الشهداء قي مقابر جماعية.
يروي الأستاذ المتقاعد جوامع حسين، وهو ابن السابعة من العمر وقتها، وقائع ووقع الفاجعة التي مازال يعاني منها نفسيا، وهو يشاهد أطرافا بشرية متناثرة في الطريق. نجا من الرصاص المنهمر باختبائه وراء صندوق ورق مقوى أمام محل والده.
حدثت هذه المجزرة صبيحة يوم الأحد 29 جولية 1956 وسط مدينة بسكرة. كان محيط السوق الممتلئ عن آخره بالمواطنين. أحضرت قوات العدو كل وسائل القتل والمنفذين من قوات افريقية تابعة للفيف الأجنبي نصبت الرشاشات الثقيلة عند مخارج السوق وساحة لافيجري وعدد من شوارع المدينة. أطلق عناصرها الرصاص بشكل جنوني على كل شيء يتحرك. سقط العشرات من المواطنين من مختلف الأعمار ولم تسلم حتى الحيوانات من جنون الانتقام والكراهية.
“اليد الحمراء”
حسب مذكرات المجاهد المرحوم السعيد دبابش، (مخطوط لم يطبع مكتوب بالآلة الكاتبة)، سبق هذه المجزرة عمليات قتل دامية نفذتها منظمة “اليد الحمراء الإرهابية” التي يتزعمها الطبيب المعمر المدعو “بوراس”.
وقد قرر المجاهدون الانتقام من هذه العصابة حيث نزل إلى المدينة فوج من المجاهدين “كومندوس” للبحث عن أعضاء هذه الجماعة الإرهابية.
ويضيف الجاهد السعيد دبابش أنهم اتجهوا إلى منزل الطبيب-الإرهابي ثم إلى مرأب “ديغليون” وسط المدينة ولم يتصادفوا مع فلول هذه الجماعة التي تنشط ليلا.
انقسم المجاهدون بعد ذلك مجموعتين، الأولى تحركت صوب حديقة بن يعقوب لتعقب القتلة وهي مكان مخصص للاعتقال والتعذيب والإعدام، بينما توجهت المجموعة الثانية إلى حديقة “لندو” مقر “لاصاص”، وقد هاجمت المجموعة الأولى سيارة أحد المعمرين كانت تحمل عناصر سنغالية رفقة ضابط فرنسي.
بعد يومين من هذه العملية الناجحة -يضيف المجاهد دبابش في مذكراته- نصبت الرشاشات الثقيلة في الأماكن الرئيسية وسط المدينة، وباشرت العناصر السنغالية رفقة جنود الاحتلال وبموافقة من قادتهم بإطلاق الرصاص على كل كائن يتحرك، حصدت خلاله يد الغدر أرواح عشرات المواطنين الأبرياء الذين كانوا بالسوق صبيحة يوم الأحد، وهو يوم عطلة.
السوق يكون عادة مكتظا بالمواطنين الذين يقصدونه للتسوق او البحث عن لقمة العيش.
دماء تجري في جميع النواحي
يصف المجاهد السعيد دبابش الوضع وقتها بقوله: “كانت الدماء تجري في جميع النواحي وكان هذا الأحد يوما أسودا على جميع سكان بسكرة”.
للتذكير، هذه الجريمة البشعة في حق الأبرياء لم تنل حقها في التاريخ وإدانة المجرم حتى من الناحية المعنوية حيث بقيت جريمة بدون عقاب.
وقد حاول احد المخرجين إنتاج فيلم عن هذه الجريمة في بداية تسعينات القرن الماضي، لكن جهوده فشلت.
ويسعى الفنان المسرحي حميدة خيضر إلى تخليد المجزرة بالسينما. قرأ أمام الجمهور في هذه المناسبة نص سيناريو حول المجزرة.
وتبقى واقعة الأحد الأسود” من بين الجرائم غير الموثقة والمنسية إلا في الذاكرة الجماعية لسكان بسكرة.
الذكرى جرت بمبادرة من فرع الذاكرة للجمعية الوطنية “الجزائر لخدمة وتنمية المجتمع” ومساهمة بلدية بسكرة التي انجزت جدارية تخلد هذا الحدث.