أثار أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية بجامعة ورقلة والخبير بالشؤون الدولية الدكتور كاهي مبروك، أبعاد مسار الدبلوماسية الجزائرية على الصعيد الإقليمي على وجه الخصوص، أي في الساحل وفي الصحراء الغربية وعربيا، ووصف أداءها بالفاعل والقوي، من منطلق ثباتها على مبادئها الراسخة ودفاعها عن مواقفها المناصرة للقضايا العادلة، ولا تخضع للمساومة والابتزاز. كما توقع أن تسفر القمة العربية المقبلة، المقرر عقدها بالجزائر، عن وضع تصور استراتيجي للنظام الإقليمي العربي، في ظل التحولات الدولية المتسارعة، ويعتقد أنها ستكون أرضية مرجعية حقيقية للقمم اللاحقة.
تبني مالي خيار المصالحة يعكس مصداقية مقاربة الجزائر
«الشعب»: تسير مالي بخطى ثابتة نحو تجسيد مصالحة شاملة منبثقة عن مسار الجزائر، وبالتالي استعادة كل الاستقرار المنشود، كيف ترون انعكاسات جهود الجزائر الدبلوماسية لإنهاء الأزمة؟
مبروك كاهي: يمكن القول إن جهود الدبلوماسية الجزائرية تجاه الدولة المالية ومساعدتها للخروج من أزمتها والعودة إلى النظام الدستوري، ليست وليدة اليوم أو متزامنة مع الأزمة الحالية. فالجزائر ومنذ الاستقلال واسترجاع السيادة الوطنية، بقيت متمسكة بدورها المنبثق من مبادئها وقيم ثورتها السامية، في إرساء دعائم السلم والاستقرار وحل المشاكل بالطرق السلمية وفق مبادئ الأمم المتحدة وقوانين الاتحاد الإفريقي، حيث لم تتخل عن مساعدة الماليين منذ أن واجهتهم أول أزمة في تاريخ بلادهم في ستينيات القرن الماضي. وبالعودة إلى الأزمة الخطيرة التي عرفتها دولة مالي في تسعينيات القرن الماضي، فإن الدولة الجزائرية وبالرغم من الظرف الصعب الذي كانت تمر به في تلك الفترة، إلا أنها لم تترك واجبها تجاه الماليين، فتحت حدودها البرية لاستقبال مئات اللاجئين الفارين من مناطق النزاع، وساهمت بشكل فعال في الوصول إلى الاتفاق الموقع سنة 1996 والذي بموجبه أنهى الأزمة.
وبموجب هذا الاتفاق والذي ساهمت فيه الدبلوماسية الجزائرية بشكل كبير وفعال، عرفت دولة مالي استقرارا نسبيا، بل وقدمت أنموذجا راقيا في الديمقراطية والانتقال السلمي والسلس للسلطة في عهد الرئيس السابق «ألفا عمر كوناري»، وتم إدماج العديد من قيادات شمال مالي أنذاك.
وللأسف، عادت بعدها بوادر الانشقاق والأزمة من جديد، ساهمت في تأجيجها رواج الجريمة المنظمة من تجارة غير مشروعة للمخدرات والسلاح، واختطاف الرهائن والفدية غير المشروعة.
قمة نوفمبر ستفرز تصورا استراتيجيا للنظام الإقليمي العربي
كما تغذت من تزايد نشاط الجماعات الإرهابية التي نقلت نشاطها لمنطقة الساحل الإفريقي، بعد سقوط نظام طالبان وتنظيم القاعدة في أفغانستان بفعل الحرب الدولية على الظاهرة الإرهابية الدموية، في بداية الألفية الجديدة. وتغذت أكثر بعد الأزمة الليبية، مع نهاية العقد الأول للألفية الحالية، الأمر الذي يعكس حجم التحدي الذي يواجه الدبلوماسية الجزائرية والجهود المبذولة لمساعدة الماليين في الخروج من أزمتهم المعقدة والمتشابكة والمتداخلة ومتقاطعة مع أجندات إقليمية ودولية تعمل لصالح مصلحتها الخاصة.
اعتراف مالي بنجاعة المقاربة الجزائرية يعد بداية لانقشاع غيوم الأزمة؟
أجدد التأكيد أن الدبلوماسية الجزائرية أكدت على ضرورة الوحدة الترابية للدولة المالية قبل كل شيء، وبأهمية الحوار الوطني للخروج من الأزمة، وهو ما تم بالفعل بالرغم من محاولات التشويش والعرقلة التي قادتها جماعات ودول وظيفية، إلا أنه وبفضل جهود الدبلوماسية الجزائرية تم التوصل لتوقيع اتفاقية أرضية الجزائر سنة 2015 من أجل المصالحة والسلم والوصول إلى إجماع مجتمعي يجمع كل الفرقاء الماليين وينهي الأزمة القائمة.
وبالرغم من هذا الاتفاق، عرفت مالي تطورات خطيرة بتزايد نشاط الجماعات الإرهابية، والتدخلات الأجنبية المباشرة في شكل تكتلات عسكرية. أيضا الانقلابات العسكرية، العقوبات القاسية من قبل مجموعة الإيكواس، وعديد التحديات الأخرى بما فيها أثر جائحة كوفيد-19 ومخلفاتها المتعددة.
الدبلوماسية الجزائرية ساهمت في إقناع السلطة الانتقالية بضرورة العودة للنظام الدستوري في أقرب وقت وتجنب التكلفة الكبيرة الناجمة عن الابتعاد عنه، وضرورة تقديم مهلة مقبولة لإنهاء المرحلة الانتقالية، وهو ما تم بالفعل فتم تحديدها بنحو 24 شهرا. ولإثبات حسن النوايا، تم أيضا تشكيل لجنة صياغة الدستور وباشرت أعمالها وأجرت عديد النقاشات الوطنية، ليتم ومع مطلع شهر أوت ولمدة خمسة أيام كاملة مشاورات الحوار الوطني بمشاركة الحكومة وفعاليات المجتمع المدني، حيث توصلت إلى توقيع اتفاق السلم والمصالحة المنبثق عن مسار الجزائر، ما يؤكد صواب ومصداقية المقاربة الجزائرية لحل الأزمة. وخلال أشغال الحوار بعث رئيس الحكومة المالية رسالة شكر للرئيس الجزائري لوقوفها الى جانب الماليين.
حلول الجزائر بمالي تنموية لعودة الاستقرار
كيف ينظر إلى مقاربة الجزائر، انطلاقا من رصيدها وتجربتها الرائدة في مكافحة الإرهاب، من أجل إرساء الأمن والاستقرار في منطقة الساحل؟
مقاربة الجزائر في مكافحة الجماعات الإرهابية في منطقة الساحل الإفريقي، ترتكز على أهمية التعاون بين دول المنطقة والتبادل اللوجيستي للمعلومات قصد محاصرة هذه الجماعات. ولعل تكتل دول الميدان الذي كانت تقوده الجزائر كانت له الفاعلية، لولا تدخل أطراف خارجية ومحاولة تعويضه بتكتلات هجينة أثبتت فشلها في مكافحة الجماعات الإرهابية، بل أثارت شكوكها في مدى جديتها. وعليه فمقاربة الجزائر المتعلقة بدول الميدان، تبقى قائمة مع إمكانية توسيعها وانضمام دول جديدة في المنطقة يعزز السلم والأمن والاستقرار.
بعث أنبوب الغاز الجزائري النيجيري سيكون ببعد تنموي على المنطقــة
من جهة أخرى، تطرح الدبلوماسية الجزائرية المقاربة التنموية من خلال إطلاق المشاريع الإقليمية في المنطقة، منها تعبيد الطريق بين مدينة تندوف الجزائرية ومدينة الزويرات الموريتانية لتعزيز التبادل التجاري بين الدولتين، أيضا الطريق العابر للصحراء والذي يشمل عديد دول الساحل ومن شأنه إنعاش الحركة التجارية والتنموية وفك العزلة وربط المناطق ببعضها البعض، فهو يحل عديد المشاكل، علما أن هذا المشروع تعمل الجزائر على إنجازه، وقد أنهت نسبة كبيرة منه، فضلا عن أن جزءا هاما جدا من الطريق يعبر الأراضي الجزائرية، ويربط دول الساحل (دول حبيسة بدون منفذ بحري) بالموانئ المتوسطية.
كما أن إعادة بعث أنبوب الغاز الجزائري- النيجيري، سيكون له بعد تنموي كبير جدا على المنطقة ويعطي الساكنة المحلية حلولا تنموية حقيقية بعيدا عن الجريمة المنظمة والجماعات الإرهابية الخارجة عن القانون.
صحيح أن أنبوب الغاز يبدأ من نيجيريا ويمر عبر أراضي دولة النيجر وصولا إلى الجزائر ومنه إلى أوروبا، إلا أنه وضمن الخطط هناك خط فرعي باتجاه مالي سوف يساهم في تغذية مصانع الكهرباء، ما يساهم في استخراج المياه الباطنية في شمال مالي للأغراض الزراعية وتلبية متطلبات الساكنة المحلية وهو ضمن الحلول الجذرية للمشاكل التنموية التي تعرفها منطقة الساحل الإفريقي.
المحافظة على متانة الجدار العربي الإفريقي
عادت الدبلوماسية الجزائرية بقوة، حيث بدأت ملامح التألق تظهر على الصعيد الإقليمي أي عربيا وإفريقيا؟
أما بخصوص عودة الدبلوماسية الجزائرية على المستوى القاري والعربي، فالدبلوماسية الجزائرية لم تغب، وأثبتت الأيام مدى رزانة وحكمة الدبلوماسية الجزائرية. ولعل خير مثال اتفاق السلم والمصالحة بمالي، الذي تم التوقيع عليه في 2015 وتم التأكيد عليه في 2022. أيضا رفض منح صفة عضو مراقب للكيان الصهيوني في الاتحاد الإفريقي، على اعتبار أنه يتنافى مع المبادئ السامية للاتحاد الإفريقي والقيم التي وضعها المؤسسون، وأهمية المحافظة على وحدة الصف الإفريقي. وحتى في أزمة سد النهضة، فالدبلوماسية الجزائرية حرصت أن تحل الأزمة على مستوى منظمة الاتحاد الإفريقي، وأكدت على ضرورة الحوار والأهم من ذلك كله وعلى لسان وزير الخارجية لعمامرة، تأكيدها المحافظة على متانة الجدار العربي الإفريقي. أيضا حل الأزمة الليبية وفق الشرعية، بالإضافة إلى قضية الصحراء الغربية وحق الشعب الصحراوي في تقرير مصيره غير القابل للتصرف وإقامة دولته على أرضه وعودة اللاجئين.
يمكن القول إن الدبلوماسية الجزائرية فاعلة ومحافظة على مبادئها وأهدافها ولا تتأثر بالظروف وتدافع عن مواقفها ولا تخضع للمساومة والابتزاز.
تحرص الجزائر أن تكون القمة العربية المقبلة جامعة، وقبل ذلك تحرص على إرساء مصالحة بين الفصائل الفلسطينية، كيف تتوقعون النتائج على ضوء خبرة الجزائر؟
تحرص الجزائر على أن تكون القمة العربية، التي سوف تستضيفها على أراضيها مطلع شهر نوفمبر القادم، قمة ناجحة وجامعة لكل الدول العربية؛ قمة التئام البيت العربي وعودة سوريا لحضنها الطبيعي واستعادة مقعدها في جامعة الدول العربية. وتسبق القمة زيارات رئاسية قام بها رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون لعديد عواصم الدول العربية، مصر وقطر والكويت وتونس. كما قام وزير الخارجية بزيارة ذات الدول ودول أخرى للتشاور بما فيها الدولة السورية مؤخرا، وتعتزم الدولة الجزائرية من خلال هذه القمة إعادة ترتيب البيت العربي ورأب الصدع.
وستدرس القمة تأثير جائحة كورونا على الاقتصاديات العربية، وبوضع خطة موحدة وكفيلة لتجاوز الأزمات والتأكيد على التضامن العربي.
أما بالنسبة للقضية الفلسطينية، فالجزائر لم تتخل عن نصرة والدفاع عنها في المحافل الدولية، فإعلان دولة فلسطين كان بالجزائر، أيضا تم استقبال رئيس السلطة الفلسطينية وتم الاحتفاء به. كما أن الجزائر جمعت الفرقاء الفلسطينيين رئيس السلطة وحركة حماس، على هامش احتفالية ستينية استقلال الجزائر.
وأكدت الجزائر ضرورة نبذ الفرقة وتوحيد الصف وإعادة تفعيل منظمة التحرير الفلسطيني، فالقمة العربية سوف تخصص الحيز الأكبر للقضية الفلسطينية بعد التطورات الخطيرة التي عرفتها، لاسيما في عهد الرئيس الأمريكي السابق ترامب. كما سيعمد القادة العرب إلى وضع تصور استراتيجي للنظام الإقليمي العربي في ظل التحولات الدولية المتسارعة.
تجدر الإشارة، إلى أنه لا يجب التركيز على نوعية الحضور، على اعتبار الظروف العصيبة التي تمر بها بعض الدول ومراعاة الظروف الصحية لبعض القادة، بقدر ما يجب التركيز على نوعية القرارات التي سوف تتخذ ويتم تبنيها، وعليه يتوقع أن تكون قمة الجزائر أرضية ومرجعية حقيقية للقمم اللاحقة.