من مفارقات العصر الرّقمي، أن معلوماته التي تعرف سيولة غير مسبوقة في التاريخ، صارت هي نفسها عرضة للحجب بتلك السّيولة، وأنّ “الانتشار” الواسع لا يدوم – في معظم حالاته – سوى عبر مدّة محدودة من الزمن، فالعالم جميعه يلقي بالمعلومات، وكل معلومة تجبّ ما يسبقها، إلى درجة أنّ ذاكرة الإنسان لم تعد قادرة على استيعاب ذلك الكمّ الهائل من الأحداث المنوّعة، وأصبح المتلقي مكتفيا بـ”الآني” و”العاجل” و”السّريع” و”الملخّص”، أو ما يلقى القبول الأوسع.
لقد كان الواحد من النّاس قبل استقرار العصر الرّقمي، يحفظ، عن ظهر قلب، جميع أرقام الهواتف التي يحتاجها، بل يحفظ المعلّقات، والأناشيد، ويستحضر الذّكريات حلوّها ومرّها، ولعلّه يحدّثك عن مقال صدر بصحيفة في اليوم الفلاني، ومقولة وردت بكتاب في الصفحة العلاّنية، فلما صار الهاتف نقّالا، واكتسب الذّكاء، صار الإنسان لا يذكر حتى رقم هاتفه الخاص، بل صار لا يستطيع استحضار المناسبات الهامة في حياته الشّخصية، ما لم تؤشر عليها واحدة من منصّات التواصل التي حلّت محلّ ذاكرته، واستقرت في موضع عقله، فلا يرى ما حوله إلا من خلالها، لتتحوّل الحياة الهادئة إلى صخب متواصل، لا يمكن تجنّبه ولا تجاوزه، ولعلّ يكون كافيا، هنا، أن نذكر ذلك العطب الذي أصاب “فايسبوك” لمدّة لا تفوق أربعا وعشرين ساعة، لتنهار معه الحياة بجميع أشكالها، ويحسّ الناس بالفراغ القاتل، فلا يتنفّسون الصّعداء إلا بعد إصلاح المنصّة الزرقاء.
لسنا ننكر على العصر الرّقمي أنّه سهّل حياة الناس بأسلوب جيّد، غير أنّنا لا يجب أن نركن إلى السّهل، ونتخلى عن الإنسان فينا، فالأفضل هو الإفادة مما يتيحه العصر، دون نسيان طبيعة الإنسان..