يتطلب الحد من الأساليب التقليدية في العملية التعليمية، نهجا جديدا تتطلع السلطات العمومية إلى تعميمه في قطاع التربية، تماشيا مع التطور التكنولوجي ونفوذه الواسع في المجتمع الجزائري، إضافة إلى ما تمليه ضرورة التقليص من أعباء وتكاليف التعليم التقليدي، وحتمية التحول الرقمي على كافة الأصعدة والمجالات.
التوجه إلى الحلول التكنولوجية “حتمية” في كل المجالات
تطور استخدام التكنولوجيات والتقنيات الرقمية في السنوات الأخيرة، دفع العديد من الدول إلى تعميم استعمالها وتوسيع انتشارها، بالنظر إلى منافعها على الاقتصاد والحياة اليومية للأفراد والمجتمعات، وقد جنبت هذه الوسائل، مثلما قال الخبير في تكنولوجيات الاتصالات يونس قرار، في تصريحه لـ«الشعب”، العالم من الوقوع في “ورطة فعلية”، بعد تفشي وباء كوفيد 19، وتأثيره على مختلف أنشطة الحياة، موضحا أن الوباء مكن الجزائريين على غرار سكان المعمورة، من اكتشاف ايجابيات عديدة للتقنيات التكنولوجية خلال الفترة الماضية، وقد استعان بها الكثير في الدفع الالكتروني، تنظيم الاجتماعات وتلقي الدروس عن بعد، لما وفرته هذه التقنيات من خدمات دون حاجة إلى التنقل.
توظيف اللّوحات الرقمية حل إيجابي لتنمية مهارات المتمدرسين
وحسب الخبير قرار، يحتاج إدخال التكنولوجيا في التعليم، إلى توفير عدة شروط على غرار توفير البنية التحتية والوسائل اللازمة لذلك، ناهيك عن إعداد نظرة استشرافية على أسس علمية واضحة، يشرك فيها جميع الفاعلين والناشطين في المجال التعليمي والتكنولوجي، قد تصل إلى الاستعانة بالكفاءات الجزائرية في الخارج، بهدف تحقيق نجاح مسعى المدرسة الرقمية، لمواكبة التطور التكنولوجي المتسارع.
ويتطلب الأمر- يضيف نفس المتحدث- التفكير في أدوات الدعم المالي لمرافقة التوجه الرقمي للمدرسة، الذي يحتاج مثلما قال إلى “المرور التدريجي بعدة مراحل، منها رسكلة وتكوين الجماعة التربوية من أساتذة ومعلمين وتنمية مهاراتهم في تقنيات ضخ المعطيات التعليمية ونقلها إلى التلميذ باستعمال الوسائل والوسائط التكنولوجية الخاصة بذلك، بداية من طريقة استعمال السبورة الذكية واللوحات الرقمية، إلى تحضير وسائل تصميم المحتويات والمضامين التعليمية، فضلا عن إحاطة العملية بأدوات مراقبة لمنع الطفل من الخروج من التطبيقات التعليمية إلى تطبيقات لا علاقة لها بالدروس، وذلك ما اعتبره الخبير التكنولوجي “بالجوانب السلبية التي تستدعي المعالجة دون إهمال الجانب المتعلق بالأمن السيبرياني والوسائل التقنية للحماية المعلوماتية”.
شروط النجاح
وصف الدكتور جمال درير، المختص في علوم الإعلام والاتصال، والمهتم بالبحث في مجال توظيف تكنولوجيات المعلومات والاتصال الجديدة في الحياة اليومية للأسرة والمجتمع، توظيف اللوحات الرقمية في المدارس الابتدائية بـ “المبادرة الجيدة والإيجابية”، شريطة أن تلقى الاهتمام الكافي وتحظى بالتخطيط السليم لإنجاحها، مشيرا إلى أنه بالرغم من أن اختيار مدارس نموذجية لإدراج وتوفير اللوحات الرقمية، يعتبره البعض إخلالا بالمساواة بين التلاميذ على المستوى الوطني والمحلي، غير أن إدماج أي أسلوب تعليمي جديد ينبغي أن يكون بشكل تدريجي من حيث الأهداف المسطرة له، ومن حيث توسيعه وانتشاره عبر كامل المدارس على المستوى الوطني، وهي الخطوات التي أقرّتها وزارة التربية من أجل التوصل إلى إحلال التعليم الرقمي محل التعليم التقليدي.
ويرى الدكتور درير أن البيئة التي يعيش فيها الطفل الجزائري اليوم، وما يميزها من الانتشار الواسع للوسائط والتطبيقات الإلكترونية، تجعل الاستفادة من مختلف تكنولوجيات الإعلام والاتصال أمرا حتميا، بل وإستعجاليا، فالطفل صار محاطا بسيل من الوسائط الرقمية والتطبيقات التفاعلية، ومرتبطا بشكل قوي جدا بالهواتف المحمولة واللوحات الرقمية، حتى أضحت هذه الأخيرة بمثابة بديل عن التلفزيون وعن الألعاب التقليدية والأنشطة الترفيهية والترويحية المعروفة، ولذلك، فإن العمل على استغلال هذه الظروف وجعلها قاعدة لبناء جيل جديد يستفيد من هذه التطبيقات والوسائل والوسائط، ليس خاضعا لها فحسب، بل يعد ضرورة ملحة.
وأكد درير، أن فكرة معاداة كل ما هو جديد، ولعن التكنولوجيات والوسائط والتطبيقات الرقمية واعتبارها خطرا على الأطفال، لن تجدي نفعا، فقد حاولت المدرسة والأسرة التربوية سابقا، وفي عدة دول، أن تدير ظهرها لوسائل الإعلام التقليدية والجديدة، وسادت في السابق نظرة سلبية تجاه وسائل ووسائط الإعلام والاتصال المختلفة، لكن لم يمنع ذلك أبدا من استمرار هذه الوسائل واتساع انتشارها وتأثيرها، وهو ما أدى إلى بروز أفكار جديدة تقوم على الاستفادة من هذه الوسائل، من خلال ما يعرف بالتربية بواسطة وسائل الإعلام، والتي تجعل من هذه الوسائل الإعلامية والاتصالية وسيلة لنقل المعارف والمهارات والسلوكيات الإيجابية للتلاميذ.
وأبرز محدّثنا أن الاتجاه إلى توظيف اللوحات الرقمية في المدارس الابتدائية، يجب أن ينظر إليه من قبل جميع الفاعلين، على أنه حل إيجابي لتنمية معارف، مهارات وسلوكيات المتمدرسين، وذلك من خلال استغلال المزايا التي تتميز بها هذه الأدوات لبناء جيل متعلم يستفيد من هذه التكنولوجيات، مذكرا، أن نجاح إدراج اللوحات الرقمية في المدارس الابتدائية الذي انطلق قبل سنتين تقريبا، وتحاول الحكومة الجزائرية هذا العام توسيعه عبر مجموعة من المدارس الابتدائية التي تتجاوز 1600 مدرسة كما تم الإعلان عنه سابقا، يقتضي توفر مجموعة من الشروط لنجاحه، وإن كان الهدف الأول من هكذا مشروع مثل ما صرحت به وزارة التربية هو تخفيف وزن المحفظة التي أثقلت لسنوات ظهور التلاميذ.
تنمية المهارات التكنولوجية للمعلمين
ودعا المتحدث، إلى الحرص على تحقيق مجموعة من الأهداف الأساسية والتكميلية من خلال هذا المشروع، ولاسيما الحرص على بناء وترسيخ تربية تقنية وتكنولوجية لدى جميع المتمدرسين من خلال إكسابهم المهارات الصحيحة للاستفادة من اللوحات الرقمية، مؤكدا أن نظرة القائمين على هذا المشروع ينبغي أن تبنى على عدة اتجاهات، منها الحرص على تكوين المكونين من أساتذة ومعلمين ومفتشين، وذلك حتى تكون لهم المعارف الكافية لاستغلال هذه اللوحات الرقمية التي ستكون موضوعة تحت تصرفهم، بما في ذلك الجانب البرمجي فيها (كتحديث البرمجيات، تحيين البيانات، واستغلال الطابع التفاعلي الذي تتيحه هذه اللوحات والتطبيقات الإلكترونية التي يتم تثبيتها عبرها).
إضافة إلى الحرص على إثراء الجانب البيداغوجي، من خلال استغلال الخصائص والمزايا التي تتيحها التكنولوجيات الجديدة، فإتاحة الكتاب المدرسي رقميا عبر اللوحات الرقمية، بحسب درير “لا ينبغي أن يتوقف عند الاستخدام الستاتيكي المحدود، القائم على نقل محتوى الكتاب الورقي إلى شكل رقمي ثابت”، بل ينبغي أن يتم استغلال الجانب التفاعلي الذي تتيحه اللوحات والتطبيقات الرقمية، من خلال إتاحة تمارين وأنشطة تسمح للتلاميذ بالعمل التفاعلي المباشر كإتاحة مجموعة من الخيارات التي يتم الضغط عليها وتحديدها إلكترونيا، بشكل يجعل التلميذ يندمج في بيئة التعليم ويرغب فيها، فيكتسب مهارات تقنية، ومعارف دراسية في آن واحد.
فضلا عن ذلك، دعا جمال درير إلى المساهمة الإيجابية للأولياء في هذا المشروع، من خلال توجيه أبنائهم للاستخدام السليم لهذه الوسائط، ومتابعتهم ومرافقتهم في القيام بأنشطة تعليمية تفاعلية مباشرة، عبر الهواتف النقالة واللوحات الرقمية التي صارت متاحة عند أغلب الأولياء، وليس التخلص من الأبناء وضجيجهم في المنزل من خلال تركهم منغمسين في عالم اللوحات والهواتف المحمولة، والألعاب الإلكترونية غير الهادفة دون أي توجيه ولا رقيب.
وأوضح الباحث درير، أن الجيل الصاعد اليوم يعيش والهواتف النقالة تحيط به من كل جانب، بل والبعض منهم صار له هواتفهم الخاصة أو لوحات رقمية في المنازل، والقليل منهم من لم يتعامل أبدا مع هذه الوسائط، ولذلك، فإن إدماج هذه اللوحات في التعليم المدرسي لن يواجه صعوبة كبيرة، شريطة أن يحرص الأساتذة والمعلمين على تنمية وترقية الاتجاه الإيجابي للتلاميذ نحو هذه الوسائط، وتوعيتهم بأهميتها في الحياة اليومية، ناهيك عن المزايا التعليمية والتعلمية التي تتيحها لهم، فالتلميذ جاهز لتلقي أي معارف ومهارات، متى كان أسلوب التوجيه والتلقين سلسا ومرغبا في تلك المهارات، وإن الجانب التفاعلي الذي تمتاز به الوسائط الرقمية وما توفره من رسومات متحركة وصور وفيديوهات، كلها أدوات وتقنيات تساعد التلميذ على التلقي السريع للمعارف والسلوكيات التربوية والتعليمية الصحيحة.
قرار في الصميم
من جهته، قال الخبير في تكنولوجيا الإعلام والاتصال الدكتور الطيب مفتاح، أن قرار استغلال التكنولوجيا في التدريس صدر في وقته المناسب، تماشيا مع التحول الرقمي في الجزائر على كافة الأصعدة والمجالات بما فيها مختلف خدمات المرفق العام، مشيرا إلى أن القرار سيساهم في تخفيف حمل وثقل المحفظة المدرسية على التلاميذ والاستغناء عن بعض الأدوات التي لم يعُد في الحاجة إليها في يومنا هذا، كما يساهم في تحريك المحتوى المحلي وتمكين التلميذ من الحصول على الكُتُب المدرسية بسهولة وسلاسة تامة عبر الإنترنت دون الحاجة إلى شرائها وهذه قيمة لا تعوض بثمن ليس لمجانية الكتب الإلكترونية، بل لأنها ليست معرضة للتلف كما هي الكتب الورقية.
الإمكانات والشروط..
يعتقد الخبير مفتاح، أن الوزارة جاهزة لإطلاق مختلف مراحل رقمنة التعليم وذلك لتوفر البنية التحتية الوطنية، التي تم ترتيبها في السنين الماضية حين تقرر ربط مختلف مدارس الوطن بالوزارة عبر الألياف البصرية ومختلف خطوط الاتصالات، مشيرا إلى أن هذه البنية التحتية ستسمح بتوفير الكثير من الخدمات منها توفير الكتب الإلكترونية والتصحيح عن بُعد إن تم اعتماد “الطابلات” في الامتحان، وهذا ليس بالبعيد، كما توفر خدمة التحاضر عن بعد لإلقاء دروس إن كانت هناك حاجة لذلك، كما يمكننا توفير منصة إلكترونية للسماح لأولياء التلاميذ بمراقبة أبنائهم.
أما أهم شرط، بحسب الدكتور مفتاح، فهو مراقبة التلميذ وكيفية استخدامه لـ “الطابلات” لأغراض الدراسة، حيث يمكن تحديد الوقت ومختلف البرامج التي بإمكانه استخدامها ومنع البقية، وهذه مسؤولية تقع على ولي أمر التلميذ لا على غيره. أما مسؤولية المعلم فقد يحتاج للتأكد من أن التلميذ يكتب دروسه في “الطابلات” من عدمها، وهذه الأمور تحتاج إلى منصة متعددة الأطراف، إذ يكون فيها مجال للتلميذ ومجال لولي أمره، وآخر للمعلم للقيام بمهامهم الموكولة إليهم.
رقمنة التعليم وأمن المعلومات
دعا الخبير مفتاح إلى ضرورة الاهتمام بأمن المعلومات وتوفير ما يكفي من الحماية لمختلف منصات التعليم، دون المرور على خدمات أخرى خارج البلاد، ما يجعل المحتوى غير محلي، وهذا مثلما قال “ليس صعبا، إذ يمكننا اعتماد عدة طرق أمنية من ذلك الاعتماد على التأكد بخطوتين وكلمة المرور المؤقتة، وتحديد الدخول من الجزائر فقط وغيرها من وسائل الحماية”.
كما لا بد من اعتماد برنامج للتحول الرقمي يتم إنشاؤه من فريق متخصص في عدة مجالات من ذلك التعليم والإعلام الآلي وعلم النفس وغيره من مختلف شرائح المجتمع، للوصول إلى الأهداف السامية من رقمنة التعليم في البلاد، مشيرا إلى أن الخطوة الثانية بعد تجربة الرقمنة على مدارس نموذجية، لابد أن تشمل إنشاء مكتبة رقمية وطنية تمكن التلاميذ من توفير الكتب دون الحاجة لشرائها، كما يجب توفير عدة مساحات أخرى لمختلف الأطراف كما سلف الذكر، لتمكين الأوصياء والمشرفين من مراقبة التلاميذ ومتابعة مختلف مراحل الدراسة.
استوصوا خيرا بذوي الاحتياجات الخاصة
دعا الخبير مفتاح، باعتباره واحدا من فئة المكفوفين الذين أثبتوا جدارتهم في التحكم في برمجيات الإعلام الآلي، إلى التنسيق بين وزارة التربية ووزارة التضامن لإدماج المدارس الخاصة في رقمنة التعليم، كمدارس المكفوفين وغيرها من الملحقات، من أجل التكفل بالمتمدرسين من ذوي الاحتياجات الخاصة، وتمكينهم من الاعتماد التام على الرقمنة دون الرجوع للوراء، حيث يمكن للمتمدرس الكفيف على سبيل المثال، الحصول على الكتب المدرسية والاطلاع عليها صوتياً، دون حاجة لطبعها بطريقة البرايل، وهذه خطوة مهمة جدا تسمح للكفيف بالتركيز على الكتب دون التفكير في جودة الطباعة أو الأخطاء المطبعية التي لا تكاد تنتهي في هذه الكتب.