احتفت الجزائر بيوم الدبلوماسية، المخلد لذكرى انضمامها للأمم المتحدة كدولة كاملة العضوية.
وتتزامن المناسبة هذه المرة، مع ظروف دولية خاصة، تفرض الاستلهام من الرصيد الحافل، من أجل بعث العمل الدبلوماسي النشيط برؤية مستجدة.
في 8 أكتوبر 1962، ارتفع العلم الجزائري في سماء نيويورك، ليرفرف خفاقا أمام مبنى الأمم المتحدة، إلى جانب أعلام مائة وثماني دول أخرى.
كان ذلك بعد 4 أشهر من استرجاع السيادة الوطنية، وعقب ساعات قليلة من مصادقة الجمعية العامة الأممية بالإجماع، على لائحة انضمام الجزائر المرفوعة لها من قبل مجلس الأمن الدولي.
صور وفيديوهات ذلك اليوم التاريخي، استحضرت، أمس، وبقوة على مواقع التواصل الاجتماعي، أين يظهر الرئيس الراحل أحمد بن بلة والوفد المرافق، في قمة الفخر وهم يقفون تحت الراية الوطنية، بعد تثبيت «الانضمام إلى العائلة الكبيرة للأمم المتحدة»، مثلما قال في كلمة شكره لأعضاء الجمعية الأممية.
هذا اليوم، بحد ذاته، يكشف عن معدن الدبلوماسية الجزائرية ومشغّليها، فاستكمال إجراءات الانخراط في الهيئة الأممية، في غضون 120 يوما من طرد الاستعمار الفرنسي، يؤكد فعالية العمل الدبلوماسي وقوة العلاقات الخارجية التي نسجت منذ اندلاع الثورة التحريرية.
ويذكر التاريخ، أن أسماء لامعة من المناضلين الشباب، صالت وجالت بين نصفي المعمورة، مدججة بفصاحة اللسان وقوة الحجة، بدءاً من مؤتمر باندونغ (أفريل 1955) والذي تبعه جدولة القضية الجزائرية في أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة خلال السنة ذاتها.
وطيلة سنوات الكفاح المسلح، اكتسب النشاط الدبلوماسي الجزائري مهارات عالية، جعلته يتجاوز حدود النطاق النضالي التقليدي؛ تجلى ذلك من خلال الإحاطة الوافية للقيم الإنسانية العالمية وتوظيفها المحكم من قبيل حقوق الإنسان، وحق الشعوب في تقرير مصيرها.
لقد أضاف انضمام الجزائر، إلى منظمة الأمم المتحدة، ثقلا بالغا لاتجاه «أنسنة» النظام العالمي القائم بعد الحرب العالمية الثانية، بحيث ارتفعت أسهم «القيم» كأساس تحتكم إليه علاقات الدول فيما بينها، على حساب استغلال دول لدول أخرى بشكل وحشي.
وفي الوقت الذي كان العلم الوطني يرفع في نيويورك، كانت دماء شهداء الثورة مازالت تخضب التراب الوطني في جهاته الأربع، فالتكلفة البشرية والجهد النضالي اللذان أوصلا الجزائر إلى ذلك المكان، باهظان جدا.
مدرسة عريقة في السلام والوساطة
يردد رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون، في كل مناسبة تقريبا، بأن «الجزائر دولة سلام ووساطة». ويؤكد أنها قيم ثابتة إلى جانب رفض التدخل الأجنبي واحترام سيادة الدول.
ولا تنبع عقيدة الدبلوماسية الجزائرية من فراغ، «فإذا كانت دولة تعرف معنى الحرب والبندقية، فهي الجزائر»، مثلما شدد رئيس الجمهورية في أحد حواراته الدورية مع وسائل الإعلام.
ولأن الدبلوماسية في تعاريفها الشائعة «بديل للحرب»، لم تتوقف الجزائر يوما عن تفعيلها كخيار دائم في مختلف الظروف والمواقف، مما أكسبها مكانة خاصة بين الدول.
وفي السياق، يجمع الدبلوماسيون الجزائريون، خاصة المخضرمين، أن المجموعة الدولية دائما ما تعاطت بتقدير عال جدا مع الوفود الجزائرية في مختلف المحافل الدولية، لما تحوز عليه من إرث مميز في الكفاح التحرري والنضال من أجل عالم أكثر عدلا.
وسنة بعد أخرى، أرست الجزائر نموذجها الخاص في العمل الدبلوماسي، بات يعرف بـ «دبلوماسية المبادئ»، سواء تعلق الأمر بالمصلحة الوطنية أو بقواعد العلاقات الدولية.
ولم يسجل التاريخ لحظة للجزائر انكفأت فيها على نفسها لمصلحة ضيقة، ولم تمارس يوما سياسة الكرسي الشاغر للابتزاز أو المساومة، فقد كانت من مؤسسي منظمة الوحدة الإفريقية سنة 1963 (رفقة 30 دولة فقط)، ثم من مؤسسي الاتحاد الإفريقي سنة 2002.
وبين التاريخين، رصيد معتبر من الوساطات الدولية، بدءاً من 1965، في مالي، ثم الحرب العراقية الإيرانية وتوقيع اتفاق السلام سنة 1975، فإطلاق سراح الرهائن الأمريكيين في طهران سنة 1981.
ومطلع الألفية أدت دورا محوريا في إنهاء الحرب بين إثيوبيا وإرتيريا، لتعود سنة 2015 وتعالج أخطر أزمة في تاريخ مالي، عبر مسار مفاوضات توج بتوقيع اتفاق الجزائر بين حكومة باماكو وفصائل لحركات شمال البلاد.
بالموازاة مع كونها مدرسة وساطة عريقة، كانت الجزائر دائما في طليعة الجهد العربي المشترك، فقد شاركت في حروب المشرق العربي ضد الصهاينة بالعدة والعتاد، وتدعم دون شرط أو قيد القضيتين الفلسطينية والصحراوية.
وتمارس اليوم، دورا نشيطا وفاعلا، للملمة الصفة العربي، خلال القمة العربية التي ستحتضنها يومي 01 و02 نوفمبر المقبل.
أدوات الدور الاستراتيجي
في السياق، يتزامن الاحتفال بيوم الدبلوماسية هذه السنة مع ستينية الاستقلال؛ مناسبة شهدت انبعاثا جديدة للدبلوماسية الجزائرية على الصعيدين الإقليمي والدولي، تجسد في تسجيل تفاعل صريح ومؤثر مع الأزمات في دول الجوار.
واقترحت حلولا ورفضت أجندات مريبة في كل من ليبيا ومالي، وأعلنت بصريح العبارات أنها «لن تقبل بحل يقوض أمنها القومي في هذه البلدان».
وفي تصريح لافت، أكد رئيس الجمهورية، نهاية جويلية الماضي، أن «الجزائر لن تدخر أي جهد في أداء الدور المنوط بها في جوارها».
وقال: «البعض يغتاظون، حسدا، من الدور الجزائري في المنطقة، لكن هذا الدور طبيعي واستراتيجي ولدينا الأدوات اللازمة للقيام به». ومن أبرز الأدوات المفعلة والتي ظلت خامدة ومتروكة عمدا، الموقع الجغرافي وموارد النهضة الاقتصادية.
واللافت في الدور الاستراتيجي الجزائري المتنامي، أنه ثابت على المبادئ وغير مرتبط بالاستقطابات الحاصلة على الساحة الدولية ولا مكترث بحروب المساومات والابتزاز. فهي ماضية في مسار مصالحة الفلسطينيين مع بعضهم البعض، وحريصة على وحدة الصف العربي، ومتمسكة بموقعها كبلد نافذ في حركة عدم الانحياز.
وبالرغم من الفرص التي تتيحها الظروف الدولية الراهنة، تثبت الجزائر على قواعد المنافع المتبادلة، ومثال ذلك تعاملها مع السوق الدولية للغاز، حيث تحتكم للقواعد التجارية بعيدا عن كل اصطفاف.
وحتى عندما يتعلق الأمر بالخيارات الخارجية الإستراتيجية، تضيف الجزائر الأخلاق في المحددات الرئيسية، فرد الجميل للشعوب التي دعمت الثورة الجزائرية عامل أساسي في تطويرها لعلاقاتها مع الدول والشعوب الشقيقة والصديقة، ومثال ذلك اختيارها لإيطاليا كأول شريك طاقوي في أوروبا.
ولأن الظروف الحالية شديدة التوتر والتعقيد، ترفع الدبلوماسية الجزائرية اليوم، تحدي الاستباق والاستشراف، لبناء سياسية خارجية نشطة ومتكيفة مع الأوضاع، ومن الواضح أن هذا التوجه قائم على الاستلهام من العقود الستة الماضية.
إذ دعا رئيس الجمهورية، عبد المجيد تبون، في رسالة التهنئة التي وجهها، أمس، للدبلوماسيين الجزائريين، إلى «صيانة الوديعة وحفظ أمانة الشهداء كما تمليه عليهم مهامهم».