تعي الجزائر مخاطر الضغوطات الجيوستراتيجية، والأزمات الاقتصادية العالمية، وتأثيراتها الممتدة على تأمين الغذاء، وعلى هذا الأساس، حرصت السلطات العليا للبلاد، على وضع خطط استباقية واستشرافية، تنأى بالبلاد عن أي مخاطر محتملة، خاصة تلك المرتبطة بتوفير الغذاء.
لذلك ستكون “المعركة” القادمة هي ضمان “قوت الجزائريين” والمواد الأولية التي تدخل في الصناعات الغذائية بسواعد وإمكانات محلية، تمكن من فك الارتباط بالأسواق الدولية، لاسيما في المواد واسعة الاستهلاك التي تمثل رقما صعبا في فاتورة الاستيراد، حيث تكلف خزينة الدولة ملايير الدولارات، في وقت تتوفر كل الإمكانات التي تسمح بإنتاجها محليا بأقل تكلفة، ويمكن تصديرها بعد تحقيق الاكتفاء الذاتي.
صحيح أن التقارير الدولية صنّفت الجزائر من بين البلدان البعيدة عن مخاطر أزمة اقتصادية، تهدد دولا بالمجاعة، بفضل تحسن الأداء الاقتصادي الكلي، ومؤشرات تطورات نمو الاقتصاد الداخلي، وتنامي احتياطات الصرف، ولكن هذا لم يمنع السلطات العليا من التحرك الاستباقي ومباشرة إجراءات وتدابير للتقليل من صدمة الزيادات الكبيرة للمنتجات والمواد الأولية، التي بلغت خمسة أضعاف، بعد انتشار الجائحة الصحية، مما أثر على إمدادات الغذاء وارتفعت تكاليف إنتاجه ونقله.
وضع عالمي مقلق وتكلفة باهظة
ترصد الجزائر سنويا، ملايير الدولارات لشراء الغذاء وتأمين احتياجات شعبها في مختلف الأوضاع والظروف، وقدر دعم الدولة لأسعار المواد الغذائية واسعة الاستهلاك (الزيت، السكر، والحليب والحبوب والسكر) بـ613 مليار دينار في سنة 2022، مقابل 318 مليار دينار سنة 2021، أي بزيادة قدرها 93٪. هذه الفاتورة مرشحة للارتفاع، في ظل استمرار آثار الجائحة العالمية الصحية، وأزمة البترول والغاز التي تعرفها بعض الدول المنتجة للمواد الغذائية، والتي أعلن قادتها عن ارتفاع محسوس لسعر الغذاء في 6 أشهر القادمة، بسبب ارتفاع تكاليف إنتاجه ونقله.
وأشار محافظ بك الجزائر صلاح الدين طالب، في أشغال الاجتماع 46 للجنة النقدية والمالية الدولية، إلى تفاقم المجاعة المزمنة وسوء التغذية بسبب ارتفاع أسعار المواد الغذائية، مما أدى إلى تعرض ملايين الأشخاص إلى الفقر، خاصة في البلدان ذات الدخل المتوسط، ومست الأزمة الغذائية البلدان الهشة والفئات الضعيفة لا غير، نتيجة تأثر الاقتصاد العالمي بالأزمة المركبة الصحية والاقتصادية، واستمرار، مثلما قال: “الاختلالات بين العرض والطلب جراء وباء كورونا، وأزمة أوكرانيا وارتفاع مستويات التضخم”.
ونبه طالب إلى استمرار القيود على الصادرات الغذائية من بعض البلدان الغنية المنتجة للمواد الغذائية والعقوبات ضد بعض المصدرين الكبار للنفط، في حين أن العالم يعاني من حالة لاأمن غذائي وطاقوي وأزمة صحية، بحسب قوله. ويحتاج الأمر إلى التجند وتعزيز التعاون العالمي لمواجهة حالة انعدام الأمن الغذائي التي يشهدها العالم، سيما بالنسبة للبلدان الأكثر هشاشة، ووضع الاقتصاد العالمي على طريق دائم ومستقر.
خارطة طريق..
للخروج بأخف الأضرار من تعقيدات السوق الدولية والظروف الصعبة، يجري العمل في الجزائر على تقليص الواردات، ضمانا للأمن الغذائي وحماية للمنتوج المحلي، خاصة وأن الجزائر مازالت مرتبطة بالسوق العالمية في تأمين احتياجاتها الوطنية، من مواد أولية ومنتجات تعتبر من أساسيات غذاء الجزائريين، ولكن هذه الخطوة تحتاج إلى “وثبة” المنتجين والفاعلين في القطاع الفلاحي، تدفع بآلة الإنتاج نحو تحقيق المزيد من “الانتصارات” في ميدان كانت الجزائر سيدة فيه، قبل الاستقلال، وبإمكانها اليوم استعادة قوتها وتحقيق اكتفائها الذاتي في منتجات يكثر استهلاكها، وتوجد الإمكانات لإنتاجها محليا، والذهاب بالفائض منها للأسواق الخارجية.
وقد رسم رئيس الجمهورية، عبد المجيد تبون، في لقائه الأخير بالحكومة والولاة، خارطة طريق المرحلة القادمة، وحدد أولويات العامين المقبلين، بأن يلتزم الجهاز التنفيذي، حكومة وولاة، بالعمل على رفع القدرات الإنتاجية للحبوب، أكثر المواد استهلاكا، وتطوير الزراعات المرتبطة بها، إلى جانب توسيع الزراعات الاستراتيجية التي انطلق إنتاجها منذ عامين، ويتعلق الأمور بالمنتجات الزيتية (السلجم الزيتي) والسكر( الشمندر السكري)، والذرة.
ولقد كان الرئيس تبون واضحا حين قال صراحة، إن تحقيق هذه الوثبة لن يكون بقرارات إدارية أو تعليمات تمنح من وراء المكاتب، بل تقتضي النزول إلى الميدان ومتابعة كل العمليات المرتبطة بالحرث والبذر، إلى غاية جني المحصول وتسليمه للتعاونيات، ويحتاج الأمر إلى العمل بأرقام ومعطيات دقيقة، تبدأ من حصر المساحات المخصصة للإنتاج، تحديد الإمكانات المتاحة، حصر كل المعيقات وإيجاد حلول لها.
ويعتقد الأمين العام لاتحاد الفلاحين الجزائريين عبد اللطيف ديلمي، أنه لن: “تكون تنمية مستدامة في القطاع الفلاحي، دون تسوية مشكل العقار الفلاحي”. وأوضح أنه بالرغم من السياسات الفلاحية التي توالت منذ الاستقلال، إلا أنها عجزت عن طي هذا الملف، ومازالت أراضي العروش، الحبوس، والأراضي التابعة للدولة دون استغلال، وحتى قانون الامتياز الفلاحي لم ينجح، بحسبه، في حل هذا المشكل العويص القديم المتجدد.
العمل دون امتلاك الوثائق – يقول ديلمي – فوت على الكثيرين، خاصة الفلاحين الصغار، الاستفادة من التمويل الفلاحي، بالرغم من أنهم يشكلون قوة فاعلة في القطاع ويساهمون في خلق الثروة، فمنح القروض يشترط توفر وثائق وضمانات، وهذا غير متاح عند معظم الفلاحين.
عوامل قوة..
يصنف الخبير الاستشاري في البيئة والتنمية المستدامة، دراجي بلوم علقمة، في حديثه لـ “الشعب”، الجزائر ضمن البلدان القلائل التي لديها أراض فلاحية ذات جودة عالية خاصة الحبوب، بحيث نجد على سبيل المثال بعض الولايات الجنوبية تنتج محصولين في نفس السنة كورقلة وأدرار، لكن على المستوى الوطني يعول بكثير على الهضاب العليا، كونها تتميز بمعدل تساقط الأمطار الأولى على المستوى الوطني، وانحصر بها إنتاج الحبوب كون عامل الماء هاما جدا، ويشكل معضلة في الجنوب.
وأشار محدثنا، إلى أن تحقيق رهان رفع مردود الهكتار الواحد، خاصة بالنسبة لمادة الحبوب، وبلوغ معدل إنتاج أكبر من 30 قنطارا في الهكتار (المعدل الحالي بين 20 و40 هكتارا) يتطلب تدخل البحث العلمي والمرافقة التقنية للفلاحين، قصد رفع نسبة الإنتاج في الهكتار الواحد، اختيار أجود بذور الحبوب وكيفية استعمال الأسمدة واحترام مواقيت بداية موسم الزرع والتي أصبحت معضلة في الآونة الأخيرة جراء تداخل الفصول بتأثير التغيرات المناخية.
وأشاد الخبير في التنمية المستدامة، بقرار السلطات العمومية إنشاء بنك للبذور، واعتبره إجراء يدخل ضمن الحفاظ على سيادة الدولة في مجال الحفاظ على نوعية وجودة البذور المحلية، في ظل الصراع الدولي القائم من أجل غزو الأسواق بالبذور المعدلة جينيا، الأمر الذي يهدد، بحسبه، “الدول في عملية اقتناء البذور إذا انقرضت البذور الطبيعية، وإبقائها في تبعية دائمة لاقتناء البذور المعدلة جينيا، وهنا بنك البذور الطبيعية والمحلية يعد قفزة توعية تحسب للجزائر إذا تم الاهتمام به بصفة خاصة وتوفير أسباب نجاح هذا المسعى”.
من جهة أخرى، توقف المتحدث عند عوامل نجاح مسعى تحقيق الاكتفاء الذاتي، خاصة في الشعب الاستراتيجية الكبرى. وأشار إلى أن تطوير الفلاحة الصحراوية أصبح حقيقة واقعية في الآونة الأخيرة، من خلال الرش الاصطناعي في ظل شح الأمطار في المناطق الجنوبية، وإدخال بديل الرش أو السقي المحوري pivot، حيث تم تسجيل إنتاج جد معتبر، وبالإمكان إنتاج محصولين في نفس السنة، خاصة في بعض الولايات التي لديها مخزون وفير من المياه الباطنية، وبالتالي على الدولة وضع الآليات ومنهجية واضحة المعالم من حفر الآبار العميقة وكيفية تخزين المياه، ومرافقة الفلاحين بالتقنيات والإرشادات الضرورية قصد تمكين الفلاحين من اكتساب الخبرات في رفع الإنتاج بالهكتار الواحد.
ويعتقد الخبير أنه في حال تم وضع استراتيجية واضحة المعالم ومنهجية مدروسة، وأنجزت الآبار العميقة في المناطق الجنوبية التي لديها مخزون من المياه الجوفية، ومرافقة تقنية ومالية للفلاحين بتلك المناطق، ستصبح الصّحراء منطقة يعول عليها لوحدها في إنتاج الحبوب وتوسيع مساحة الأراضي الموجهة لإنتاج المنتجات الاستراتيجية الكبرى بالجزائر قصد تحقيق الاكتفاء الذاتي في هذا المجال، وإدخال الطاقات المتجددة بالمناطق الجنوبية النائية لضخ مياه السقي في عتاد الرش المحوري الذي أثبت نجاعته مؤخرا.
ويبقى النقل، بحسبه، أحد المعوقات بالجنوب الكبير في ظل غياب شبكة السكك الحديدية بالجنوب الكبير، وقال: “عندما يتعلق الأمر بالنقل الثقيل، للأسف، لم تنجز لحد الآن شبكة نقل السكك الحديدية في ولايات كأدرار وإيليزي وعين صالح، وهي ولايات معروفة بالإنتاج الفلاحي، وهذا يقف عائقا أمام تسويق الإنتاج بكميات كبيرة، ويكبح طموحات الفلاحين في تقوية الإنتاج، لأن وسائل سريعة وآمنة تحفظ المنتوج من التلف غير متوفرة”.
خطوات النجاح
يتفق رئيس الاتحاد الوطني للمهندسين الزراعيين الجزائريين، منيب أوبيري، مع الخبير دراجي، في أن الوصول إلى تحقيق الاكتفاء الذاتي وتخفيض الاستيراد، يبدأ من اختيار نوعية الحبوب الملائمة، وزيادة رفع الإنتاج باستعمال الأسمدة وأنظمة الري الحديثة، والسقي التكميلي في الوقت المناسب، لإنتاج المواد الزراعية، خاصة تلك التي تشكل مادة أولية للصناعات الغذائية، كالشمندر السكري، والسلجم الزيتي، والتي يمكن أن تغطي حاجيات البلاد من السكر والزيت، ويمكن أن نصل إلى تصديرها.
ويحتاج الأمر كذلك، إلى استرجاع العقارات غير المستغلة وتجنيد كل الفاعلين من ولاة وهيئات محلية لمتابعة الزراعات المحلية وتطويرها رفقة مصالح الفلاحة، حتى نتمكن من إعداد معطيات دقيقة وتحضير قاعدة صحيحة للانطلاق منها لمعرفة كل النقائص، والتجند من أجل تصحيح الخطى والرفع من المقدرات ومستوى الإنتاج في كل الشعب خاصة الحبوب، التي نعمل على الاستغناء عن استيرادها بتاتا، حيث يجب توسيع رقعة الإنتاج والرفع من مردوده حتى نصل إلى 9 ملايين طن التي تمثل حاجياتنا السنوية من هذه المواد.
فيما يتعلق بالثروة الحيوانية، أوضح أوبيري أن عدم إحصاء هذه الثروة تكبد خسائر كبيرة لميزانية الدولة؛ لأن استيرادها يتم بأسس غير واضحة، حيث أن عدد رؤوس المواشي التي تتوفر عليها البلاد يمكن أن تغنينا عن الاستيراد، ولكن لا نملك إحصاء دقيقا، فالأرقام تشير إلى توفر نحو 3 ملايين رأس، ولكن غياب أرقام حقيقية يجعلنا نقع في أزمة اللحوم وغلائها.
أما عن طريقة تحقيق الاكتفاء الذاتي في إنتاج الحليب، فأكد المهندس الزراعي على ضرورة التوجه إلى عصرنة هذه الشعبة من خلال التلقيح الاصطناعي، الأبقار وتغذية متوازنة من خلال توفير الأعلاف الخضراء على مدى السنة، وكذلك استغلال المزارع النموذجية ودعم الاستثمارات الشبابية في هذا المجال، حتى نصل إلى معدلات إنتاج تفوق 5 ملايير متر مكعب من هذه المادة، والتي يمكن من خلالها توفير متطلباتنا من الحليب خاصة البودرة التي يوفر إنتاجها محليا خزينة الدولة الكثير من الأموال.
مقومات السيادة الوطنية
يعد بنك الجينات، أحد مقومات السيادة الوطنية. وقد شرعت السلطات العمومية في التحضير لإنشاء هذا البنك، بعد إنشاء بنك البذور، شهر أوت الماضي، وهي خطوة مهمة تحافظ على سيادة الجزائر واستقلاليتها الغذائية.
ويسمح هذا البنك، بحسب أوبيري، في الحفاظ علميا على الأصول الوراثية للبذور المحلية ومقوماتها، لأن كل بذور لديها خصائص أكثر فاعلية وتعطي نتائج ايجابية، والبذور المحلية تقاوم الجفاف والأمراض، وحتى وإن كانت مردوديتها ضعيفة فمقاومتها للجفاف والأمراض تجعلها تدوم أكثر، ويمكن تحسينها وتعديلها وراثيا بإدخال تعديلات عليها.
وأوضح أوبيري، أن بنك الجينات سيسمح بحفظ كل ما تزخر به البلاد من أنواع وأصناف مختلفة للخضروات وأصناف الأشجار المثمرة، ويجعل إنتاجيتها مستدامة، عن طريق الحفاظ على جيناتها ذات الخصائص التي تجعلها مقاومة لكل العوامل الخارجية، وبالتالي يمكن أن يستفيد منها الإنسان بطريقة مثلى.
وأكد أن دور بنك البذور وبنك الجينات، يكمن في تعزيز التنمية الاقتصادية والسيادة الغذائية، والحفاظ على الأمن الغذائي لأي بلاد لديها ثروة من البذور المحلية، فهي تحمي بها نفسها من المؤثرات الخارجية عندما يسجل نقص في الغذاء في الأسواق الدولية أو يندلع صراع عليه، أو تحدث تقلبات مناخية تؤثر على ضمان وفرة الغذاء أو البذور.
وأشار أوبيري، إلى أن قطاع الفلاحة، سيؤمّن عن طريق هذين البنكين، الاحتياجات الداخلية للبلاد، وسيكون في غنى عن استيراد البذور أو تأمينها في حال حدوث انقطاع في الأسواق العالمية، ويصبح تأمين الغذاء ذاتيا، خاصة الموارد النباتية.
أما من الناحية الاقتصادية، فينعكس على أسعار الخضر والفواكه، حيث يؤدي توفر البذور ووسائل الإنتاج، إلى استقرار السوق من حيث الكمية والنوعية والسعر، كما يمكن للبنك التعاون مع الدول النامية والفقيرة للحصول على الغذاء وسد حاجياتها، في إطار تخفيف الفقر العالمي.
يحتاج توفير مخزون من البذور المحلية إلى الكثير من العمل، يقول أوبيري، لأن أغلب البذور المحلية والمحسنة مفقودة وليست محصاة، مشيرا إلى أن كل منطقة في الجزائر لديها بذور خاصة تتأقلم مع مناخها وتربتها، وهنا المسؤولية كبيرة وتقع على عاتق جميع الفاعلين، من أجل إعادة جمعها وحفظها وتطوير جيناتها، لتعطي أحسن مردود، وهذا العمل يحتاج إلى تقنيات متطورة في المخبر، وهو أمر ليس صعبا لأن الجزائر تملك التخصصات والمخابر، يبقى فقط تضافر كل جهود المخابر، لتحقيق هذا المبتغى وإعطاء بنك الجينات دوره الحقيقي والأساسي في حماية السيادة الغذائية للبلاد، والوصول إلى الاكتفاء الذاتي وتحقيق الأمن الغذائي.