مهما تكن متاعب المهنة، أيّ مهنة كانت، فإن “الشّغف” يبدّدها، ويمنحها حلاوة عجيبة حين يرى من يمتهنها ثمراتها وهي تنضج أمام عينيه، ويحسّ بأن رسالته الاجتماعية وصلت، ووزّعت منافعها على جميع من يحيطون به.. هنالك لا يصبح لـ«المتاعب” معنى، ويعود صاحب المهنة إلى أداء واجباته بمنتهى الإخلاص، لا يرجو سوى أن يكون أداؤه متقنا، مقنعا، نافعا..
وليس يختلف الأمر بالنسبة لمهنة “الصحافة”، ولكنّها اشتهرت باسم “مهنة المتاعب”، وجرى على الألسن هذا الاسم، حتى خيّل لبعضهم أنّ الصحفي يجابه في أداء واجبه (العماليق)، ويصارع (الأغوال)، ويخوض الملاحم العظيمة، غير أن الواقع مختلف تماما، فـ«الصحفي” يشتغل كمثل خلائق الله، ويحاول أن يكون على الدّوام ملتزما بأخلاقيات مهنته، تماما مثلما هي حال الجميع، إلا أن الاختلاف الجوهري بين المهن، هو أنّ مهنة الصحفي لا تُراكم “الخبرة”، فتجده مهما أجرى من حوارات، يرى نفسه مبتدئا مع الحوار الجديد، ومهما صاغ من ريبورتاجات واستطلاعات وتقارير وغيرها من أجناس الكتابة، فإنه يضطر إلى التعامل معها معاملة المبتدئ، لأنه لا يكاد يفيد شيئا مما تراكم في سجلّ أعماله، بحكم الجدة التي يفرضها عليه الواقع، فإذا كان هناك ما يُتعب فعلا في مهنة الصحافة، فهو عدم تراكم الخبرة، اللهم إلا في بعض تقنيات الكتابة والقراءة التي لا تضيف شيئا ذا بال في معالجة الجديد..
أما ثالثة الأثافي، فهي “الجرأة” على المهنة، ولاحظ أنّك لا ترى من يحمل المنشار إلا النجار، ولا المشرط إلا الجراح، ولا (الطالوشة) إلا البنّاء، بينما يتزاحم “الدّخلاء” و«الانتهازيون” على مهنة الصحافة، ويتراكمون، معتقدين أنّها مجرّد (تقرعيج) و(كلامولوجيا)، فيحوّلون حياة المهنيّ الحقيقي إلى جحيم.. وهذه هي أمّ المتاعب..