فريق جبهة التحرير الوطني لكرة القدم لم يكن وليد الصدفة، بل كان مشروعا درس بدقة من طرف قادة سياسيين محنّكين عملوا على إعطاء دعم للثورة التحريرية بمختلف الأساليب من أجل إسماع صوت الثورة التحريرية في الخارج.. وهو إيجاد فرع رياضي تمثل في ميلاد الفريق الذي سيكون له صدى كبيرا عالميا، بالنظر للخطة المحكمة التي تم اعتمادها من طرف قادة جبهة التحرير الوطني.. من أجل لمّ شمل أبرز اللاعبين الذين كانوا ينشطون في أكبر الأندية الفرنسية في تلك الفترة وبعضهم كانوا معنيين بالمشاركة مع المنتخب الفرنسي في كأس العالم، الأمر الذي جعلنا نقف عند مآثر هذا الفريق الرمز ونحن في غمرة الاحتفالات المخلدة للذكرى 68 لاندلاع أكبر ثورة خلّدها التاريخ.
بما أنّ أغلب اللاعبين الذين كانوا ينشطون في الدوري الفرنسي تربّوا في الجزائر وعاشوا أغلب فترات طفولتهم تحت ويلات الاستعمار الغاشم قبل أن يشقوا طريقهم نحو عالم الكرة التي كانت بمثابة الحلّ الأنسب لهم من أجل الخروج من الأزمة المالية التي كان يعيشها الجزائريون الذين سلبوا من أدنى شروط الحياة.. هؤلاء اللاعبين لم يتردّدوا في تلبية نداء الوطن الأم وعقدوا العزم على أن يقدموا الدّعم لقضية بلادهم وإسماع العالم، ما كان يحدث في الجزائر من دمار وانتهاك للحريات، على حساب الامتيازات المادية التي كانوا يتمتعون بها.. كل ذلك لأنّهم يشعرون بروح المسؤولية، حيث التحقوا بفريق جبهة التحرير الوطني الذي أراد من خلال المسؤوليين في تلك الفترة أن يكون بمثابة سفير لفكّ الحصار على الثورة، ومن جهة أخرى من أجل إسماع كلّ العالم بالثورة التحريرية المجيدة، الأمر الذي تجسّد في أرض الواقع بمساعدة دول صديقة ومؤيّدة للقضايا العادلة، حيث ذاع صيت المجموعة منذ اليوم الأول لهروبهم.
مجموعة شباب حركوا العالم وهزّوا صحافة المستعمر بتاريخ سيبقى راسخا في ذاكرة الفرنسيين، أي يوم 13 أفريل 1958، الذي سيظل شاهدا على تأسيس فريق جبهة التحرير الوطني الذي خطط له جيّدا، لأنّهم وبتنظيم محكم من طرف قادة الثورة الذين نسّقوا كما يجب لكلّ الخطوات حتى ينجح المشروع، وبالفعل جاء ميلاد فريق جبهة التحرير الوطني بمجموعة تتكون من 10 لاعبين، في بداية المهمة، ليرتفع التعداد إلى 32 بعد مرور أشهر قليلة، وشملت التشكيلة كلّ من عبد الرحمان بوبكر، عبد الرحمان ابرير، مصطفى زيتوني، عبد العزيز بن تيفور، سعيد براهيمي، عبد الحميد كرمالي، محمد معوش، عبد الحميد زوبة، رشيد مخلوفي، أحمد وجاني، سعيد عمارة، مختار لعريبي، قدور بخلوفي، علي فداح، شريف بوشاش، حسين بوشاش، عبد الحميد بوشوك، محمد بوريشة، حسين بورطال، حسين شبري، دحمان دفنون، علي دودو، حدادا، خالدي، عبد الكريم كروم، عبد القادر معزوزي، مقران واليكان، عمار رويعي، عبد الله هدهود، عبد الرحمان سوكان، محمد سوكان.
المهمة لم تكن سهلة لأنّها كانت تتطلب سرية ودقة كبيرة لتفادي أيّ تسريب حتى لا يفشل المخطط، ولهذا تم تكليف كلّ من محمد بومزراق ومحمد معوش، وطلب من الثنائي التنسيق مع اللاعبين لأنّ كليهما كان قريبا من المحترفين في فرنسا ما سيسهل المهمة أكثر.
وبالفعل شرعا في الاقتراب منهم للانضمام لهذا المولود الجديد لأنّهم حتى وإن كانوا يتمتعون بامتيازات مادية في أنديتهم، إلاّ أنّ ذلك لم يمنع من معاناتهم من التمييز، وبدأ التخطيط لطريقة مغادرة التعداد للأندية الفرنسية.. وسارت العملية من دون أيّ خطأ إلى غاية اليوم المحدّد 13 أفريل من سنة 1958، التاريخ الذي تأسّس فيه رسميا فريق جبهة التحرير الوطني بعدما كان مجرد فكرة في مطلع الخمسينيات ليصبح مشروعا قابلا للتجسيد، وهذا بتشكيل فروع في كلّ المجالات لدعم العمل الثوري بما فيها الرياضة، لأنّها تحمل صدى كبيرا وتتمتع بشعبية واسعة في كلّ أنحاء العالم.
التجسيد….
بعد الخطوة الأولى التي تمثلت في الاتصال باللاعبين من أجل الانضمام للفريق لدعم القضية الوطنية، من خلال إطلاعهم على كلّ التفاصيل التي كانت تحدث في الجزائر، ولم تكن الأمور سهلة لأنّ فرنسا وضعت رقابة كبيرة على كلّ ما كانت تقوم به في الجزائر من أجل إفشال كلّ التنظيمات التي تتعلق بالثورة وحصارها، ما أوجب المسؤوليين على التخطيط التكتم قدر المستطاع على ما يرغبون في الوصول إليه بداية من تكليف أصحاب الخبرة والحنكة وكذا من توضع في شخصهم الثقة اللازمة، وبالتالي كان التنقل شخصيا من طرف بومزراق ومعوش لمقابلة كلّ لاعب بمفرده للتحدث معه على ما سنقوم به من عمل خدمة للقضية الوطنية حتى نساعد العمل العسكري والسياسي.
ليلة المغادرة ….
المرحلة الثانية تمثلت في التخطيط لإخراج اللاعبين من فرنسا والتي كانت وفق طريقة جدّ دقيقة في تأمين الطريق التي يتبعونها من أجل الوصول لتونس، وقال المرحوم محمد سوكان في تصريح خاص لجريدة «الشعب» قائلا «تم اختيار الجولة المناسبة التي لعب فيها أكبر عدد من اللاعبين على الحدود السويسرية والإيطالية لربح الوقت وحتى لا يتعبوا، بما أنّ المأمورية ليست سهلة بالنسبة لهم خاصة أنّهم كانوا جدّ مهمين في أنديتهم على غرار كلّ من مخلوفي، زيتوني، معوش كما أنّ العملية تزامنت مع عطلة نهاية الأسبوع وكان هذا التوقيت جدّ مهم من الناحية الإعلامية. وكانت فكرة زيتوني الذي نصح بذلك التوقيت، كما سبق الحدث التحضيرات الخاصة بمنافسة كأس العالم التي كانت مقررة في السويد سنة 1958، نظرا لوجود بعض الأسماء الجزائرية التي كانت معنية بالمشاركة على غرار مخلوفي وزيتوني ما سيحدث ضجة إعلامية كبيرة.
وبالفعل هذا ما حدث لأنّه بعد اكتشاف أمر مغادرة اللاعبين المحترفين في فترة جدّ حاسمة من البطولة وقبل يومين فقط عن المواجهة الودية التي كانت ستجمع فرنسا مع سويسرا، والتحاقهم بتونس «.
من جهته، محمد معوش قال في تصريح خاص لجريدة «الشعب «قامت السلطات الفرنسية بكلّ ما في وسعها من أجل استرجاع اللاعبين المغادرين وبدأت الصحافة الفرنسية والعالمية تتحدث عن اختفاء اللاعبين الجزائريين يوم 13 أفريل 1958، هناك من وصفتهم بالهاربين وبعد نشر صورهم في الصحف والمجلات أصبح من السهل التعرف عليهم، ونسوا اصطحابي معهم حيث كنت في انتظارهم بلوزان وبما أنني لم أفهم ما الذي جرى عدت إلى باريس بسبب عدم قدوم المجموعة، لكن بالرغم من الصعوبات إلاّ أنّ القيادة العليا في جبهة التحرير الوطني بلغت أولى أهدافها من خلال كسر الحصار الإعلامي الذي كان مفروضا في تلك الفترة، بالنظر للحديث الكبير في وسائل الإعلام عن اللاعبين الذين اختفوا في نفس اليوم والتوقيت».
ذهول الفرنسيين حول ما حصل
بالتالي كان بمثابة ضربة قاسية لفرنسا الاستعمارية خاصة في هذه الفترة الحساسة، بعدما منعت التطرق لأيّ نقطة تتعلق بهذا الجانب وفرضت حصارا كبيرا على الثورة التحريرية، ولكي لا تتسرب الأخبار حول ما يحدث في الجزائر والظلم والمعاناة التي كان يعيشها الجزائريون، وبناءا على ما قاله عبد الحميد زوبة الذي غادرنا هو الآخر، مؤخرا، بعد صراع مع المرض وكان قد خصّ الشعب بحوار مطوّل نشر سابقا، قائلا «تمكن الفوج الأول من الوصول إلى تونس في الوقت المحدّد، أما محمد معوش فقد تأخر عن زملائه بعدما تعرض للاعتقال من طرف الشرطة الفرنسية.. وبعدما سجل نقصا عدديا لأنّ التشكيلة كانت بـ 10 أسماء فقط كان من الضروري انتظار الفوج الثاني الذي بدأ في ترتيب أمور مغادرة فرنسا، في شهر جويلية 1958، والتحق بالمجموعة، يوم 2 نوفمبر من ذات العام، فيما التحق الفوج الثالث سنة 1961 وبهذا أصبح عدد اللاعبين 32».
مساعدة البلدان الصديقة
واصل المرحوم زوبة قائلا «فرنسا لم تهضم ما حدث وأبلغت بقضية مغادرة اللاعبين الجزائريين لأنديتهم والتحاقهم بتونس ..وكانت هناك دول صديقة للقضية الجزائرية في كلّ من أوروبا الشرقية وآسيا وأفريقيا لعبت معنا ولم تخشى من أيّ عقوبات وقدمت الدعم للثورة التحريرية، فتحت لنا الأبواب وبلغ عدد اللّقاءات التي لعبناها بين 1958 و1962 حوالي 80 لقاء في المجموع ..لكن هناك 62 مباراة دولية فزنا بـ 47 محطة وتعادلنا في 11 مرة.. فيما تلقينا 4 هزائم «.
زادت المباريات التي لعبها فريق جبهة التحرير الوطني في ميادين 32 دولة من رفع التحدي بالنسبة لشباب في مقتبل العمر أرادوا أن يكونوا سفراء قضية وطنهم، تم تسجيل 246 تلقت شباك الفريق 66 هدفا ويبقى رشيد مخلوفي الهداف التاريخي، وبالإضافة إلى الاستقبال الرائع فقد حظي الفريق بزيارات شخصية لبعض الرؤساء والزعماء في البلدان التي كان يتواجد بها والتي كانت ترفع من معنويات اللاعبين لأنهم حققوا الهدف المباشر المتمثل في إيصال رسالة الثورة التحريرية للعالم حتى تلقى الدعم للوصول إلى الاستقلال.
بومزراق المهندس …
للإشارة، محمد بومزراق من بين أهم المؤسسين لفريق جبهة التحرير الوطني من خلال العمل الكبير والدور الرائد الذي لعبه في التنسيق بين اللاعبين والقيادة العليا لجبهة التحرير الوطني بتونس، بحكم قربه واحتكاكه بالسياسيين واللاعبين، بالنظر لتنقلاته العديدة لأنه كان مدربا ولاعبا في نفس الوقت في مختلف الأندية الفرنسية ويعرف جيدا كيف يتنقل بين الجزائر وفرنسا والتقرب من اللاعبين من دون لفت الأنظار، والمجهودات التي قام بها من أجل إتمام المهمة بنجاح.
كان بومرزاق على دراية تامة بالمخطط الرامي إلى تشكيل فريق يمثل جبهة التحرير الوطني رياضيا في مختلف دول العالم من أجل إسماع صوت الثورة التحريرية، إلاّ أنه بقي متكتما عن الأمر بالنظر لحساسيته وخطورته في حال اكتشاف الفرنسيين لذلك حسبما أدلى به في هذا التصريح، والذي تحصلنا عليه من عبد الحميد زوبة قبل وفاته بسنة والذي قال فيه بومزراق «بدأت فكرة تأسيس فريق في كرة القدم يمثل جبهة التحرير الوطني في المحافل الدولية قبل مدة، بعدها شرع لعريبي الذي كان مدربا لنادي أفينيون بالتعاون مع بن تيفور ومولاي بالتأسيس لهذا الفريق، الذي بدأ يتجسد بعد عودتي من موسكو عقب مشاركتي في مهرجان الشباب سنة 1957 إلى أن شرعنا في لعب المباريات وبلوغنا الهدف المنشود».