استعمل قادة الثورة كل الوسائل لإسماع صوتهم في الخارج، والتّصدّي لحملات التشويه والتعتيم التي قامت بها وسائل الإعلام الاستعمارية، وبذلك ظهرت الإذاعة الثورية التي كان لها دور في إسماع صوت الثوار في الجبال ونقل انتصارات جيش التحرير للجزائريين في الداخل والخارج وللعالم.
من بين المذيعين الذين كانوا ينقلون أخبار الثورة وتطوّراتها محمد بوزيدي، الذي واجه الاستعمار بالسلاح في الجبال، بالشعر وبصوته من وراء الحدود عبر إذاعة «صوت الجزائر المكافحة».
التحق محمد بوزيدي بـ «صوت الجزائر» في تونس، لتدعيم الأخوين عيسى مسعودي والأمين بشيشي في مهمتهما الإعلامية الثورية، بعد توسيع مدة البث الإذاعي، كلف بالتعليق باللغة الدارجة في حصة «صوت الجزائر»، بصوته الجهوري والحماسي للتعبير عن انتصارات الثورة، وتطورات الأحداث السياسية وما آلت إليه القضية الجزائرية.
ولإلهاب حماس الشعب بمقالاته وتعاليقه السياسية وأغانيه المعروفة، مثل «قلبي يا بلادي لا ينساك»، و»يا أمي ما تخافيش راني نأخذ بالثار»، وهي أغاني أدّاها فنانو الفرقة الفنية لجبهة التحرير الوطني، على غرار الفنان الكبير أحمد وهبي، والشاب الهادي رجب وغيرهما.
من مواليد 1 ديسمبر 1934 في حي القصبة بالجزائر العاصمة، نشأ في أسرة فقيرة، حفظ القرآن الكريم وعمره عشر سنوات، تتلمذ على يد الشيخ محمد العيد آل خليفة في مدرسة الشبيبة الإسلامية التي علم بها، وأصبح يشرف على إداراتها فيما بعد 1928-1940.
تلقّى علم العروض وقرض الشعر وسيطر على القوافي، وحسب المصادر التاريخية، ربما يكون قد شارك في التمثيل المسرحي، وصقل موهبته الفنية، التحق بالإذاعة في 1947 عندما بلغ سن الثالثة عشرة، وشارك في البرنامج الموجه للصغار «جنة الأطفال» بإشراف رضا فلكي، المسرحي المخضرم، انضم في 1957 إلى الثورة وهو شاب ضمن مجموعة عبد الرحمان طالب الفدائية بالقصبة، وتكوّنت بينهما أخوة وصداقة وجهاد.
وقد رثى بوزيدي، عبد الرحمن طالب في قصيدة عبر في بعض أبياتها على الصداقة التي تربطهما منذ الصبى بقوله:
يا أيّها البطل الصديق تحيّتي..ودموع عيني حاجز لرثائي
أنا من ورا الأسلاك أسكب عبرتي..والثأر يغلي في الحشا ودمائي
أقسمت بالله العظيم بعهدنا..منذ الصبى وصداقتي وولائي
أن لا أضيّع في الأعادي فرصة..إلا سفكت من الدماء روائي
ألقي عليه القبض من طرف الفرنسيين خلال مداهمة جنود بيجار المجرم، والسفاح ماسو، لمنزله، وأدخل السجن بتهمة الانتماء إلى المجموعات الفدائية.
التحق في نفس السنة بصفوف جيش التحرير الوطني، بعد الفرار من السجن، كجندي مجاهد من أجل عزّة الوطن، وخلال وجوده بجيش التحرير الوطني عمل في مجال الإعلام كمحافظ سياسي للثورة لرفع مستوى إخوانه المجاهدين السياسي التعبوي، وشرح أهداف وأبعاد الثورة واختيارها طريق العمل المسلح.
وموازاة مع عمله الإعلامي والتعبوي، كان يشارك في تنظيم دروس محو الأمية لرفع المستوى التعليمي لإخوانه المجاهدين، والمشاركة في التوعية والإرشاد الاجتماعي والديني لجنود جيش التحرير الوطني، وانتقل بعدها إلى العمل في إذاعة «صوت الجزائر» بتونس، وهذا لتدعيم الطاقم المسيّر لهذه الإذاعة، ثم التحق بالإذاعة السرية إذاعة الجزائر الحرة المكافحة في الحدود الجزائرية الغربية، وشارك في تدعيم عمل زملائه، وعن طريق الأثير قام بواجبه الإعلامي لتبليغ رسالة وصوت الثورة إلى الجماهير وجيش التحرير الوطني.
كان المرحوم بوزيدي يرافق الفرقة الفنية لجبهة التحرير الوطني، بقيادة الفنان مصطفى كاتب، في ترحالها عبر العواصم العربية والأجنبية، وحين استقرّت الإذاعة السرية بالناظور، كان محمد بوزيدي من بين رجالاتها الإعلاميين البارزين بصوته القوي، وبتعاليقه السياسية النابعة من إيمان بقضية شعبه، فقد كان يؤلّف القصائد الشعرية الثورية التي يصدح بها صوت المرحوم عيسى مسعودي في البرنامج الأسبوعي الذي تبثه الإذاعة الجزائرية الحرة المكافحة من أدب الثورة.
ألّف قصائد ثورية
من بين القصائد التي ألّفها محمد بوزيدي، وألقيت في «إذاعة الجزائر الحرة المكافحة» بصوت عيسى مسعودي، قصيدة «لسنا ننسى» يوم 4 جويلية 1961 بمناسبة سقوط العاصمة في أيادي الغزاة، ونزوح الداي حسين الداي إلى الخارج، ومن بين ما تطرّق فيها مذبحة قبيلة العوفية التي ارتكبها المجرم دي روفيغو، في أفريل 1832، ومقاومة الأمير عبد القادر الطويلة يقول:
لسنا ننسى تعنّت الأقدار واقتحام العمى بلا إنذار
وصبحنا على المذابح نوفى بين نار ومدية الجزار
وأطلت على الديار فرنسا بالمنايا وجيشها الغدار
ونسانا إلى المجازر سيقت..تتلوى بقبضة الأقدار
وأهينت فلا كرامة صينت..للسبايا بمنظر الأحرار
وأبيعت أقرانهم بلحم وزنود بمعصم وسوار
ويقول عن اندلاع الثورة:
إيه يوليو وقد أتاك نوفمبر..مستميتا وباسط الأقدار
يتحدى على فرنسا قواها..ولظاها وغاسلا للعار
قل ليوليو وقد أطل نوفمبر..في وغانا كالصقيل البتار
قد حفضنا على الحدود عهودا..وانتقمنا لوعدنا بالثار
كل شهر من التراب سجل..وكتاب لأروع الأخبار
وأذيعت للشاعر محمد بوزيدي، قصيدة من وحي الذكرى الخامسة لمؤتمر الصومام بمناسبة الذكرى الخامسة لانعقاده، وكانت فرنسا تلوح بتقسيم الجزائر بدعوى أنها مقام أقليات أوروبية ويهودية وشعوب جزائرية، ورفضت الثورة هذا الادعاء، وهذا الطرح الاستعماري المنطلق من نظرية فرق تسد.
هل فاتها أنّ للجزائر وحدة..دون المنال الرعد والإسلام؟
فالثّورة العصماء جو ملهب..والشعب فيها صقرها الحوام
إن المناجم ملك شعب ثائر..ماضي السلاح وطبعه الإقدام
فالأرض والبترول للشعب نهضة..وعلى التساوي تمنح الأقسام
فالنصر يا صومام فوق سمائنا..قد لاح قاب القوس وهو سلام
إنا على الميثاق نحفظ عهد..ما قد حيينا وعمر الصومام
وأذيعت في صوت الجزائر الحرة في شهر سبتمبر 1961 قصيدة «إيفيان»، يقول بوزيدي:
إيفيان ماذا في الغيوب مخبأ..السلم؟ أم وجه الحروب الأبشع
هيهات إنا عازمون لطردهم..من أرضنا أرض الجهاد الأرفع
ويقول في قصيدة أخرى:
ماذا يخبئه القضاء لثورتي..في عالم الغيب الرهيب المنجع
وألقيت في الإذاعة السرية بتاريخ 26 جويلية 1961 قصيدة بعنوان «مهلا فرنسا»، مضمونها التمسك بوحدة الأرض واستمرار الثورة حتى تحقيق أهدافها.
الشعب أبى أن يمس قداسة..في وحدة القطر لم تتصدّع
صحراؤنا وحدودنا مضمونة..بالشعب بالجيش القوي المودع
بالحق بالتاريخ بالعرف باللغي..بالصدق قولا إننا لم ندع
وقصيدة أخرى
لن تنالي فرنسا غير عار..أبدي ودمار وخراب
لعنة التاريخ والأجيال أبقى..من حروق النار أو وشم العذاب.
وقصيدة أهداها إلى كل إخوانه الذين سهروا الليالي لكتابة التعاليق السياسية، ويراقبون شفرة العدو، ويحرسون أجهزة الإذاعة بكل يقظة ليبقى «صوت الجزائر» مسموعا لكل الجزائريين في الجبال والقرى والمدن. جاء فيها:
صوت الجزائر مثل الرعد دوّا..له المعارك أنباء وأصداء
صوت الليوث عن الأعداء غاضبة..فجيشنا بسلاح الله عداء
صوت الكرامة للأحرار نرسله..على الأثير له في الحق إيلاء
نخاطب الشعب والأكباد ناطقة..وللجوارح صوت القلب نداء
نحمس الشعب للعلياء ندفعه..نذيره فطريق الشعب أضواء
فصوتنا من صميم الشعب نرفعه..منه الصدى وإليه الصوت دواء
أصواتنا عن حقوق الشعب صارخة..كالرعد يرزم إبراق ولألاء
خضنا المعارك في الأمواج دائرة..وخضنا بسيفه القول عواء
إلى غاية نهاية القصيدة
اشتغل في الإذاعة والتليفزيون بعد استعادة السيادة، وعمل في البرامج الثقافية والفنية والسياسية، ففي الإذاعة تكفّل بـ «حديث المساء»، وهو برنامج يومي اجتماعي ينتقد فيه كل الظواهر السلبية في المجتمع، وهي الشعوذة والسحر والدجل، وألّف للتلفزيون فيلما طويلا حول هذه الظاهرة بعنوان «السحارة» في 1968، ومثل فيه الدور الرئيسي بكل براعة.
وكان يغطّي أهم الأحداث الوطنية بصوته الجهوري وحماسه الثوري، ألّف قصائد في المناسبات الوطنية والأحداث العربية، منها ما أذيع عبر الأثير ومنها ما نشر في الجرائد الوطنية كجريدة «الشعب» وأسبوعية «المجاهد».
قدّم في الشاشة الصغيرة برنامجا يوميا بإشراف جبهة التحرير الوطني وهو «حزب جبهة التحرير يخاطبكم»، يشرح فيه ضرورة إعادة هيكلة الإدارة وتطهيرها من بقايا المفاهيم الاستعمارية.
تقاعد بوزيدي في 1984 من العمل الإعلامي بالإذاعة والتلفزيون، بعد أكثر من عشرين سنة من العطاء، انضم إلى الإدارة المركزية لحزب جبهة التحرير الوطني وتبوأ منصب مدير فرعي للتوجيه والإعلام.
توفي المجاهد بوزيدي في أوت 1994، بعد مرض طويل ألزمه الفراش، نال أوسمة وشهادات تقدير واعتراف داخل الجزائر وخارجها اعترافا بجهوده الأدبية والفكرية، وفي ميادين الجهاد على رأسها وسام العشير من رئيس المجلس الأعلى للدولة في 1992، ونال الجائزة الأولى في المهرجان الأول للأدباء العرب في بغداد سنة 1965 على قصيدته «بغداد»، وهي ملحمة لتمجيد الثّورة الجزائرية.