يغوص أستاذ تاريخ الجزائر المعاصر بجامعة الجلفة، حسان مغدوري، في قراءة وثيقة بيان أول نوفمبر 1954، وما حملته من أبعاد إستراتيجية أسست لأرضية صلبة التف حولها الجزائريون، وأرست مبادئ كسبت اعتراف الحكومات وتعاطف شعوب العالم، وأسست لجزائر ما بعد استرجاع السيادة الوطنية..
ينطلق حسان مغدوري، في حديث مع «الشعب»، من بيان أول نوفمبر كونه أول وثيقة من مواثيق ثورة التحرير المجيدة، وجهت نداء إلى الشعب الجزائري صادر عن جبهة التحرير الوطني، إذ تُمثل الوثيقة ثمرة كفاح وتحصيل لتجربة سابقة، تحمل أبعادا إستراتيجية تُعبر عن «قمة نضج العقل الجزائري» في تلك المرحلة التاريخية الحاسمة.
عمق تاريخي وحضاري..
بداية، يقول مغدوري إنه من المهم الإشارة إلى أن الجهة التي أصدرت البيان كانت من شباب يشعر أنه قطعة من هذا المجتمع، لذلك «وُجه البيان إلى الشعب الجزائري بشكل عام، وإلى المناضلين من أجل القضية الوطنية بشكل خاص، وفي نفس الوقت هناك وعي بالجغرافيا من خلال الإشارة إلى سياق الشمال الإفريقي».، مثلما جاء في الفقرة الأولى من البيان:
«أنتم الذين ستصدرون حكمكم بشأننا ـ نعني الشعب بصفة عامة، والمناضلون بصفة خاصة ـ نُعلمُكم أن غرضنا من نشر هذا الإعلان هو أن نوضح لكُم الأسْباَبَ العَميقة التي دفعتنا إلى العمل، بأن نوضح لكم مشروعنا والهدف من عملنا، ومقومات وجهة نظرنا الأساسية التي دفعتنا إلى الاستقلال الوطني في إطار الشمال الإفريقي، ورغبتنا أيضا هو أن نجنّبكم الالتباس الذي يمكن أن توقعكم فيه الإمبريالية وعملاؤها الإداريون وبعض محترفي السياسة الانتهازية».
وفق مغدوري، تنبئ هذه الوثيقة التاريخية بثمرة كفاح مرير منذ 1830، ما يعني أن من حضروا لتفجير الثورة كانوا متشبعين بالثقافة التاريخية، وأحياء في الذاكرة، حيث يُشير البيان، في الفقرة الثانية، إلى حرب كانت معلنة منذ الماضي «تقودها الامبريالية»، والامبريالية مصطلح يُعبر عن روح العصر في مستوى تطوّر الرأسمالية العالمية والهيمنة آنذاك، استعملوا لغة المرحلة التاريخية.
وفي مقدمة الوثيقة، يوضح مغدوري: «ثمة إشارات تخصّ الظروف الدولية المحيطة المساعدة على السير في هذا الاتجاه»، ويضيف: «هنا نتحدث عن التوقيت المناسب، وقبل الحديث عن تونس والمغرب، هناك إشارة إلى الانفراج الدولي»..
«فنحن نعتبر قبل كل شيء أن الحركة الوطنية ـ بعد مراحل من الكفاح ـ قد أدركت مرحلة التحقيق النهائية. فإذا كان هدف أي حركة ثورية ـ في الواقع ـ هو خلق جميع الظروف الثورية للقيام بعملية تحريرية، فإننا نعتبر الشعب الجزائري في أوضاعه الداخلية متحدا حول قضية الاستقلال والعمل، أما في الأوضاع الخارجية فإن الانفراج الدولي مناسب لتسوية بعض المشاكل الثانوية التي من بينها قضيتنا التي تجد سندها الديبلوماسي وخاصة من طرف إخواننا العرب والمسلمين». (الفقرة الثانية من بيان أول نوفمبر).
في قراءة تسلسلية لأفكار ومحتوى الوثيقة – يتابع المتحدث – ينبّه البيان الشعب الجزائري آنذاك إلى أن جيراننا (في تونس والمغرب) ليسوا أكثر جرأة منا، وليسوا أكثر استعدادا للتضحية من الجزائريين، لكن الإشكالية التي وقعت فيها الحركة الوطنية، وهي التي كانت أول من بادر إلى التعبئة ضد الاستعمار الفرنسي عبر تأسيس نجم شمال إفريقيا في فرنسا سنة 1926، جعل تفجير الثورة يتأخر مقارنة مع تونس والمغرب..».
ويواصل قائلا: «دخل الجزائريون في متاهات سياسية وحساسيات وصراعات شخصية، في مرحلة أصبحت تدفع بالجزائر إلى مسائل هامشية على حساب القضية المصيرية، وهي الاستقلال الوطني، لذلك يحذّر البيان من أن هذه الصراعات يخشى أن يصبح علاجها مستحيلا»، وهو ما عُبر عنه في وثيقة نوفمبر بـ: «إن المرحلة خطيرة. أمام هذه الوضعية التي يخشى أن يصبح علاجها مستحيلا، رأت مجموعة من الشباب المسؤولين المناضلين الواعين التي جمعت حولها أغلب العناصر التي لا تزال سليمة ومصممة، أن الوقت قد حان لإخراج الحركة الوطنية من المأزق الذي أوقعها فيه صراع الأشخاص والتأثيرات لدفعها إلى المعركة الحقيقية الثورية إلى جانب إخواننا المغاربة والتونسيين».
أبعاد سياسية ودبلوماسية
في المقابل، يتحدث مغدوري عن العقل الجديد في المجتمع الجزائري بقوله: «ركّز البيان على الشباب، ليس بصفتهم فئة عمرية، ولكن بصفتهم روحا جديدا يتولى قيادة المستقبل، وهذا ما اقتضته المرحلة»، إلى جانب أهمية التوقيت «الاستعمار كان يفرح بالأزمة الحاصلة بين أجنحة الحركة الوطنية، اعتقادا منه أن الحركة تسير في اتجاه تعميق الخلافات والصراعات، لذلك يشير البيان إلى ضرورة إخراج الحركة الوطنية من المأزق الذي أوقعت فيه لتحييدها عن المعركة الحقيقية».
ويضيف محدثنا قائلا: «ومن حنكة مفجري ثورة نوفمبر، تقديم أنفسهم على أنهم مستقلين عن كل طرف و»جبهة التحرير الوطني غطاء يحوي كل الجزائريين دون صفة حزبية أو سياسية، المهم الانخراط في المشروع الوطني، وينبهون أنه يجب القفز على كل الاعتبارات التافهة والمغلوطة، كون أن بعض المناضلين كانوا يعتقدون أنه من الإجحاف التخلي عن بعض رواد الحركة الوطنية».
وفي سياق الفكرة ذاتها، يُشير مغدوري إلى عبقرية هؤلاء الذين هندسوا البيان، والصدى العميق لمستوى النضج الفكري والوعي الذي كان يحمله الإنسان الجزائري بصفة عامة، وهذا ما يجسّد مقولة العربي بن مهيدي: القوا بالثورة إلى الشارع يحتضنها الشعب».
من جانب آخر، يمكن استنباط جوانب إستراتيجية تضمنتها وثيقة بيان أول نوفمبر، وفق أستاذ التاريخ المعاصر، ومنها:
– تقديم ضمانات للشعب الجزائري: “أنتم من سوف يحكم على ثورتنا.. ”
– الحياد عن كل جهة، والانحياز لفكرة واحدة فقط هي الوطن.
– تحديد الهدف المركزي وهو الاستقلال
– والتحسيس بالمتغيّرات المحيطة إقليميا ودوليا..
وفي هذا الشقّ، يقول الأستاذ الجامعي إن الثورة أدركت أهدافها حينما تأسست فكرة «الجزائر يبنيها الجميع»، وكل من ينخرط في المشروع الوطني سيجد مكانه دون اعتبار لانتسابه، ومن عبقرية هذه الوثيقة أنها لم تمارس الإقصاء إطلاقا.
من أبعاد وثيقة بيان أول نوفمبر أنها حملت أهدافا مستقبلية تتمثل في بناء دولة ببعدها التاريخي والعصري، من خلال التركيز على العمق الحضاري الإسلامي، ومواكبة العصر، وهذا يتجسّد في عبارة «دولة ديمقراطية اجتماعية».
عن هذا – يقول مغدوري – إن الشباب الذين فجروا الثورة لديهم من الثقافة الفكرية والفلسفية والسياسية ما يسمح بقيادة المرحلة.. «فكرة بناء دولة ديمقراطية اجتماعية عبارة عن رسالة مشفّرة إلى العالم الغربي الذي طالما اتهمنا بالتخلف والرجعية، لقطع الطريق أمام هذه الاتهامات الجزافية كان خطاب وثيقة أول نوفمبر بهذه الطريقة».
توحي فكرة «بناء دولة ديمقراطية اجتماعية» برسالة دبلوماسية تُطمئن العالم بأن الثورة تحمل أهدافا نبيلة وتحاول الاندماج ضمن المجتمع الإنساني الدولي المعاصر الذي يؤمن بالقيم الحداثية التي بلغها الإنسان المعاصر – يقول مغدوري – وهذا ما يمكن أن نصفه بأنّه «دبلوماسية الفكر».
وعن عرض أهداف الثورة في البيان، يقول محدثنا إنه يُظهر انفتاح الثورة الجزائرية على القيم التي تمجّد الإنسان دون اعتبارات عرقية ودينية، من خلال الالتزام باحترام جميع الحريات الأساسية دون تمييز عرقي أو ديني، وهي نقطة – يضيف مغدوري – تحمل كذلك فكرة دبلوماسية رفيعة المستوى تتضمن شعارات تتغنى بها كل شعوب العالم، ما يفسّر التفاف شخصيات من مختلف دول العالم حول ثورة التحرير “لا لسبب، إلا لأنها أقرت في وثيقتها الأساسية احترام جميع الحريات الأساسية”.
الحركة الوطنية..
ومن ضمن الأهداف الداخلية للثورة التي دوّنت في بيان أول نوفمبر: التطهير السياسي بإعادة الحركة الوطنية إلى نهجها الحقيقي والقضاء على جميع مخلفات الفساد وروح الإصلاح التي كانت عاملا هاما في تخلفنا الحالي، وكذلك تجميع وتنظيم جميع الطاقات السليمة لدى الشعب الجزائري لتصفية النظام الاستعماري.
هي جوانب تجمع بين تطهير الحركة الوطنية وإرجاعها إلى نهجها الصحيح، والتوجّه نحو بناء الجزائر بطاقات سليمة تساهم في المشروع الوطني بصرف النظر عن انتماءاتها ومكانها، وفق مغدوري.
وفي الشقّ المتعلق بالأهداف الخارجية لثورة التحرير، جاء تدويل القضية الجزائرية، وهو هدف تجلى بوضوح في دبلوماسية المؤسسات التي ستظهر، خاصة بعد تأسيس الحكومة المؤقتة في سبتمبر 1958، وظهور دبلوماسية الوفود التي أدت دورا هاما في المؤتمرات، بداية من مؤتمر باندونغ في 1955 ثم في أكرا.. إلخ.. وأشار إلى أن الثورة اعتمدت دبلوماسية شبه أفقية تنطلق من استغلال الطاقات الشعبية وترتفع إلى مستويات أعلى.
وتابع يقول: «يهدف مفجرو الثورة من تدويل القضية الجزائرية إلى كسب الاعتراف والتعريف بالقضية الجزائرية بالخارج من خلال استغلال كل الطاقات، والانخراط في رابطات ومنظمات طلابية ونقابات وتأسيس هياكل كلها تشتغل في إطار هدف واحد، فالثورة الجزائرية قبل أن تقنع الحكومات أقنعت الكثير من شعوب العالم وهذه عبقرية الثورة، انطلقت من القاعدة نحو القمة وليس العكس، لهذا كان عندها أتباع.
ويواصل في هذا الشأن: «الذين وضعوا البيان كانوا يدركون معادلة القوانين الدولية، ولهذا أشاروا إلى ميثاق الأمم المتحدة، أرادوا القول إنهم لن يكونوا متمردين على القانون الدولي، وهذا قمة الالتزام، وهو ما سيحرج فرنسا التي تعتقد أنها دولة عريقة، ونهج لحقوق الإنسان..».
الجانب العسكري ووسائل الكفاح في وثيقة بيان أول نوفمبر، كان ممّا ركز عليه مغدوري، وأشار إلى استعمال مصطلح جوهري وهو: «العمل المحض»، ويُقصد به العمل الذي يحقّق التقدّم لإحراز الهدف بصرف النظر عن شكله: “الإقرار بأن الكفاح سيكون طويلا ومهمة شاقة وثقيلة، ويُشيرون إلى أنه لا يمكن برمجة الاستقلال.. لكن النصر سيتحقّق لا محالة”.
وثيقة مشرّفة
وتتجلى عبقرية مفجري الثورة، وعمق أبعاد هذه الوثيقة التاريخية، في الفقرة التي تضمّنت رسائل مشفّرة إلى الشعب الفرنسي والمجتمع الدولي عموما، تُنبئ عن قراءة ثاقبة للمستقبل، حيث جاء في البيان:
“وفي الأخير، وتحاشيا للتأويلات الخاطئة وللتدليل على رغبتنا الحقيقة في السلم، وتحديدا للخسائر البشرية وإراقة الدماء، فقد أعددنا للسلطات الفرنسية وثيقة مشرّفة للمناقشة، إذا كانت هذه السلطات تحدوها النية الطيبة، وتعترف نهائيا للشعوب التي تستعمرها بحقها في تقرير مصيرها بنفسها.”
هذه الفقرة تُفيد – يقول مغدوري – أن هؤلاء لا يريدون الحرب: «كانوا يدركون أنه لما تضيق الدائرة على السلطات الفرنسية، عليها أن تجد المخرج.. ديغول باشر المفاوضات مع الجزائريين مرغما تحت ضغط فعالية الثورة، وضغط دبلوماسي ومبادئ رفعتها الثورة»، ويتحدّث عن كبرياء وغطرسة فرنسا التي تعتبر أن الجلوس إلى طاولة الحوار مع جبهة التحرير يمثل إهانة، ورفعا لهذا الحرج جاءت عبارة: “نقدم وثيقة مشرفة للمناقشة، أي أننا سوف لن نهينكم»، وهنا، تحدّث أستاذ التاريخ المعاصر عن ضمانات قدمتها وثيقة أول نوفمبر إلى الشعب الجزائري والمناضلين: «نجاح أي مشروع يقتضي تقديم ضمانات، ولا يوجد ضمان أكثر من أن تضحي من أجل الوطن، التضحية أغلى ضمان وأقصى ما يمكن أن يقدمه الإنسان”.
ويختم محدثنا قائلا: “وثيقة بهذا العمق من الأفكار والرؤى والإستراتيجية الثاقبة، لم تترك جانبا إلا ومحّصته، أمام ظاهرة استعمارية معقدة، وواقع تاريخي يمتد لأكثر من قرن، ومع ذلك، أحاط البيان بكل الجوانب المتعلقة بحياة الدولة”.