ترفع الجزائر سقف رهاناتها الدبلوماسية وفق متطلبات مشهد جيو- سياسي استثنائي بأبعاد متعددة، تُـمليه متغيرات كثيرة في واقع العلاقات الدولية، من تصاعد للأزمات وتفاقم ظاهرة الاستقطاب، تُنبئ بإفراز نظام دولي جديد تتغير فيه موازين القوى. في المقابل، يتجلى بوضوح إدراك الجزائر حجم هذه التحديات وتثبيتها “البوصلة” على ما يشهد العالم من تقلبات..
تراقب الجزائر عن كثب، وبحنكة دبلوماسية، ما يحدث من متغيرات وتقلبات مفتوحة على كل الاحتمالات، في سياقها الإقليمي، القاري والدولي، تُترجم على أرض الواقع في خطوات وتحركات حثيثة على أصعدة كثيرة، تأدية لدورها الوازن والمؤثر حيال القضايا الراهنة لضمان مصالح البلاد وحمايتها من أي تهديد.
رهانــات.. ونجاحات متتاليــة
الرهان على احتضان قمة عربية وإنجاحها، في دورة شهد لها الجميع بأنها استثنائية في التنظيم والقضايا المطروحة، بحكم الظرف الدولي الصعب، تحت عنوان “لمّ الشمل العربي”، لم يُكن خيارا اعتباطيا ولا مجرد شعار يُتغنى به، وإنما ينبئ عن تصور يحمل رؤية إستراتيجية للجزائر – كما يؤكد باحثون في العلاقات الدولية- خاصة مع رهانات المشهد الدولي وتحدياته المستقبلية بمستوياتها الثلاثة.
من هذا المنظور، حرصت الجزائر على احتضان القادة العرب في قمة “لمّ الشمل” في الفاتح والثاني من نوفمبر الجاري، بعد انقطاع القمة عن الالتئام لثلاث سنوات، سبقتها جهود دبلوماسية مركزة، كللت بالنجاح في شكل انعقاد أول قمة بعد فتور، وبحضور نوعي ومميز، وأيضا في مضمونها، لاسيما ما تعلق بالقضية الفلسطينية أمّ القضايا، وإرجاعها إلى صلب اهتمامات الشأن العربي، والتوصّل إلى توافق عربي تجاه قضايا وملفات مطروحة، سياسيا واقتصاديا وأمنيا، في خطوات دونت في البيان الختامي، و«إعلان الجزائر”.
نجاح قمة “لمّ الشمل”، برأي أستاذ العلوم السياسية والعلاقات دولية، إدريس عطية، في تصريح لـ “الشعب”، سبق انعقاد الدورة بأسبوعين – ويقصد هنا نجاح الجزائر في لمّ شمل الفصائل الفلسطينية بتوقيع مصالحة تاريخية لإنهاء حالة الانقسام، وهو مؤشر مهم للغاية له دلالات ومهد لإنجاح قمة إعادة ترتيب “البيت العربي”.
جوهر مسألة “لمّ الشمل العربي”، وفق عطية، يرتبط ارتباطا وثيقا بالتوصيف الذي قدمه وزير الشؤون الخارجية والجالية الوطنية بالخارج رمطان لعمامرة، في وصفه للقمة بأنها: “قمة التجديد والتجدد”، والمقصود هنا – يضيف المتحدث – تجديد نظام إقليمي عربي في ظل التغيرات التي يشهدها النظام الدولي، وما يُنتظر أن يُفرزه من نظام عالمي جديدة تبرز فيه قوى جديدة، بما في ذلك إعادة ترتيب الموازين “وبالتالي طرحت الجزائر مشروع نظام إقليمي عربي بتصورات مستقبلية”.
بُعد نظر ورؤية إستراتيجية
سقف نجاح الدبلوماسية الجزائرية، في المدة الأخيرة، يُترجم “التحرك الحثيث، وبأدوات دبلوماسية فعالة، في توقيت جد مناسب”، بحسب عطية، الذي أشار إلى توافق خطى الجزائر مع مساعيها لبلوغ مستوى متطلبات الظرف الدولي الراهن الذي يشهد إعادة هندسة للعلاقات الدولية.
وقبل أسابيع من ملف المصالحة الفلسطينية وقمة “لم الشمل العربي”، وإدراكا منها لحجم التحديات المقبلة غير المسبوقة دوليا وإقليميا في عالم يشهد توترات متصاعدة، تجلى تحرك دبلوماسي حثيث في اتجاهات تُعدها الجزائر بمثابة ركائز في ملف سياستها الخارجية الثابتة والمتعلقة بصناعة الأمن والسلم العالميين، إذ قدمت الجزائر ترشيحها للعضوية غير الدائمة في مجلس الأمن الدولي، حظي بتزكية الاتحاد الإفريقي وجامعة الدول العربية ومنظمة التعاون الإسلامي.
قبل ذلك، نالت الجزائر إشادة مجلس الأمن في قرار صادر، شهر أوت الماضي، نظير جهودها في مساعدة الأطراف المالية على تنفيذ اتفاق السلم والمصالحة في مالي، المنبثق عن “مسار الجزائر”، إذ تم التذكير في هذا القرار الذي صُوت عليه بالإجماع، بالطابع المهم لأحكام اتفاق السلم والمصالحة في مالي المنبثق عن مسار الجزائر، ويبرز دعم مجلس الأمن الكامل لهذا الاتفاق، ومتابعة تنفيذه عن كثب، واتخاذ إجراءات ضد كل من يعرقل تنفيذ الالتزامات إذا تطلب الأمر.
وبالعودة إلى آخر إنجازات الدبلوماسية (القمة العربية)، تتجلى صورة تحديات ورهانات في الكلمة الافتتاحية لرئيس الجمهورية، عبد المجيد تبون، أثناء أشغال القمة العربية، حيث تطرق الرئيس إلى الواقع الدولي الاستثنائي، وتصعيد الأزمات التي تلقي بظلالها على الأمن الغذائي، ليدعو المجموعة العربية إلى بناء “تكتّل اقتصادي عربي منيع يحفظ المصالح العربية المشتركة ويُحدّد الأولويات”.
تركيز الرئيس تبون على تفعيل الدور الاقتصادي للعرب، يشمل مقاربة جزائرية جادة لمجابهة التحديات المنتظرة؛ لذلك كانت هناك إشارة إلى ضرورة انتقال العرب من وضع التأثر إلى التأثير في المشهد الدولي. كما أنها دعوة تحمل، وفق خبراء، رؤية متبصّرة لتوحيد الصف وتجميع الجهود، من أجل تحصين المجموعة العربية.
ما تحققه الجزائر اليوم من نجاحات، لم يأتِ من العدم. فالمتابع للمشهد الدبلوماسي، منذ مجيء الرئيس عبد المجيد تبون، يلاحظ متغيرات جديدة منحت الدبلوماسية الجزائرية فعالية خاصة في أداء دور محوري، وأبانت عن قوة في الطرح، وكفاءة في حلحلة النزاعات، تتضح صورتها في تشريح ما يعرفه المجتمع الدولي من تحولات سريعة.