تُبلي الدبلوماسية الجزائرية بلاء حسنا، وسط تحديات صعبة وتحولات مهمة في بنية العلاقات الدولية، يميزها تعديل دول وأنظمة في مواقفها التقليدية، وتقلص الدعم السياسي والدبلوماسي لقضايا حيوية تتعلق بالقضايا العربية الرئيسة.
بالرغم من هاته التحديات، استطاعت دبلوماسية الجزائر بحيويتها وفعاليتها، رفع الكثير من التحديات وتحقيق انتصارات مهمة، تجلت بقوة في إنجاح مسار المصالحة الفلسطينية، وتذليل عقبات عقد القمة العربية، وتحقيق توافق استثنائي في ختام أشغال القمة. وهو ما يعكس قوة الميكانيزمات الاستراتيجية التي وظفتها الجزائر كدولة معتدلة لتحقيق لم الشمل العربي، بدءاً بلمّ شمل الفصائل الفلسطينية وبناء توافق استثنائي من شأنه أن يدفع القضية الفلسطينية قدُما نحو تحقيق إنجازات ملموسة على الأرض.
قال مدير مؤسسة “يبوس” للاستشارات والدراسات الاستراتيجية برام الله سليمان بشارات، إن الدبلوماسية الجزائرية تعتبر من أذكى الدبلوماسيات في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية. فقد استطاعت أن تختار التوقيت المناسب لإعادة تحريك ملف القضية الفلسطينية وإعادته إلى الواجهة السياسية من جديد، في ظل انشغال دولي وإقليمي بقضايا وملفات أزمة الطاقة والأزمة الروسية- الأوكرانية وتداعياتها، وسط استفراد الاحتلال الصهيوني بالقضية الفلسطينية.
وأضاف بشارات، أن المهارة الدبلوماسية ظهرت باختيار التوقيت المناسب لتفعيل ملف المصالحة الفلسطينية، من خلال أدواتها الهادئة والبعيدة عن الكاميرات لجمع التنظيمات والأحزاب الفلسطينية عبر محطات، ليتم تتويج ذلك من خلال توقيع البيان التوافقي النهائي.هذا الجهد، كُلل بالإعلان عن لجنة متابعة برئاسة الجزائر وعضوية السعودية ومصر، لتكون بمثابة جامعة للشمل العربي تحت عنوان دعم القضية الفلسطينية.
وأكد بشارات، أنه، وعلى عكس حالة الانكفاء الداخلي لدى العديد من الدول المحورية في المنطقة وانشغالها بالقضايا الداخلية، استطاعت الدبلوماسية الجزائرية أن تستعيد زمام المبادرة في أخذ موقف واضح يعزز دورها التاريخي الداعم للقضية الفلسطينية، ورفضها التخلي عنها، بالرغم من الضغوط الدولية المباشرة وغير المباشرة التي تمارس على الدول التي تدعم القضية الفلسطينية.
من جانبه، قال أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية البروفيسور عبد اللطيف بوروبي، إن الدبلوماسية الجزائرية تمضي نحو توظيف المبادئ لخدمة المصالح المشتركة والسلم الإقليمي والدولي، عبر تبني طرح قائم على أساس عقلاني براغماتي لآليات تنفيذها، من منطلق أن مبدأ الوساطة يأتي من العمل على أن نكون على مسافة واحدة من جميع أطراف النزاع، مهما كانت توجهاتهم، وهو البديل الأمثل من أجل تحقيق وساطة ناجعة وفعالة تساهم في الحفاظ على السلم والأمن الدوليين، خاصة في ظل الجهود الإقليمية والدولية التي تبذلها الجزائر.
في ذات الصدد، قال بوروبي إنه ومنذ تولي الرئيس عبد المجيد تبون سُدة الحكم، تبنت الدبلوماسية الجزائرية نوعا معينا من الدبلوماسية والمتمثلة في الاقتصادية، خاصة في ظل توجه استراتيجي نحو الدول الإفريقية، من خلال وكالة التنمية والتعاون الدولي الموجهة لدول الساحل الإفريقي المستحدثة في هذا المنهج، إضافة إلى انضمام الجزائر إلى منطقة التجارة الحرة الأفريقية، والبحث عن بعث الروح في السوق العربية المشتركة الحرة، وتنفيذ اتحاد جمركي عربي، وهذا لا يخرج عن إطار إرساء تعاون دولي، واعتماد متبادل لتحقيق التنمية وفق جهود إقليمية ودولية، من خلال تجاوز الفاعل الحكومي والعمل على إعطاء دور للمجتمع المدني المسؤول عن تطبيق هذه الاستراتيجيات في الواقع الميداني، ويحول دون التدخل في الشؤون الداخلية للدول في ظل إشراكه في ذلك.
وحول القمة العربية في دورتها 33، أشار بوروبي إلى أن الجزائر تبنت مفهوما موسعا للأمن متعدد الأطراف، والذي تجسد في القمة العربية الأخيرة، إذ تم البحث عن التوافق السياسي وتجاوز الخلافات والبحث عن مقاربة اقتصادية مُدعمة لهذا التوجه، والتذكير بمركزية الحلول السلمية في أي طرح لإدارة الأزمات الدولية.
وأشار المتحدث، إلى أن استقراء التاريخ كحجة ودليل عن نجاح استراتيجيات إدارة الأزمات الدولية من قبل الجزائر، كاف حتى نخرج من الأسلوب الدعائي، ونستشهد بالتاريخ كمقاربة واقعية لفهم توجهات السياسة الخارجية الجزائرية، حيث أن هذه المحددات لا تخرج من إطار توظيف الوساطة في حلحلة الأزمات الدولية منذ الحرب العراقية- الإيرانية 1975، وأزمة الرهائن الأمريكان في إيران 1979، وأزمة لبنان والحرب الإريترية- الأثيوبية في 2000، ومسار المصالحة والوساطة في أزمة مالي منذ 2015 ولم شمل الفصائل الفلسطينية والكل الفلسطيني في 2022، ومن ثم هذه الصورة النمطية الجيدة عن نجاحات الدبلوماسية الجزائرية تعني أن الأسس التي قامت عليها، ومنها المبادئ التي تحددها، فعالة ولها المصداقية الكاملة في ظل الالتزام بالشرعية الدولية.