أبشع فساد استشرى، وعصف بمقدّرات الأمة وجهودها وبمؤسساتها العمومية، وشرّد أبناءها، في فترة بائسة تغوّل بها المفسدون، وكرّسوا منطق (البن عمّيس) في التوظيف، بما يوافق منطق البداوة البائدة، فصارت مناصب الشغل الحسّاسة حكرا على أصحاب (المعريفة) ممّن لم يعرفوا في حيواتهم سوى (عرض الأكتاف)، ولم يكتسبوا من المؤهلات سوى ما يرتبط بـ”شهادة الميلاد”، فهذه كانت أفضل من الشهادات جميعا، ولا تعدلها في القيمة معرفة ولا كفاءة، فـ”التوظيف” كان يعتمد اعتمادا كليّا على الجغرافيا.. وهكذا انتهى الأمر بالاقتصاد الوطني برمّته إلى حالة من الضياع..
قد يبدو ما نصف من “فساد” بسيطا مقارنة بـ”النهب” و”السلب” و”المضاربة غير الشّرعية” وغير ذلك من أشكال الفساد وألوانه، غير أنّ ما وصفنا يبقى الأساس الأول لكل المفاسد، والأصل لكل الموبقات، والعشّ لكلّ الرّذائل، وهو الجناية العظمى على إمكانات الوطن ومقدّراته؛ لأنه يمسّ بأقدس المقدسات.. يمسّ بالإنسان..
أما ما يبعث في قلوبنا الأمل، فليس سوى إشراقة الجزائر الجديدة التي أحدثت القطيعة التامة مع الرّداءة، وفسحت المجال لجميع أبنائها بالعدل والقسطاس المستقيم، كي يكونوا فاعلين في بناء وطنهم، ويسهموا في إعلاء كلمته، ويشاركوا في صناعة أمجاده..
حين تسخّر الدّولة إمكاناتها من أجل تكوين أبنائها في شتى التّخصصات، ثم يسبقهم إلى مناصب العمل كل كسول خامل، فهذا فساد كامل الأركان.. وحين ترفع الدّولة المؤسسات الكبرى، ثم يستولي عليها من لا يعرف (كوعا من بوع)، فهذا عين الفساد.. وحين تضيع أعمار الشباب المتعلمين الأكْفاء في البطالة؛ لأنهم ينتمون إلى منطقة لا يحبها (سي المسؤول)، فهذا الفساد بشخصه..
جاءت الجزائر الجديدة، وجاءت الوقاية من الفساد.. وهي تقال بالجزائري الفصيح.. جاك الموت يا تارك الصلاة..