في قديم الزّمان، كان الإنسان يعيش على باب الله.. يفيق في الصباح، ويخرج من كهفه أو خيمته أو (عشّته)، كي يحصّل قوت يومه، وكان يواجه من الصعاب أقساها، ويستلّ حاجته من (فم السّبع)، ثم يعود بقوت أبنائه راضيا لا ينغّص عليه معيشته شيء..
وتطوّرت الأمور، وتضاعفت الحاجة حين توسّعت العائلة الصغيرة، وكان على الانسان أن يفكّر في أساليب جديدة تلبي حاجته، فـ«الحاجة” ضرورة يومية، ولا يمكن التهاون في طلبها، ووجد نفسه مضطرّا إلى التعامل مع الواقع؛ فجدّ واجتهد، واصطاد وزرع، ولم يخطر على باله مطلقا أن يصفق لطائر في السماء، فينزل مشويّا، أو يصفّر لسمكة، فتأتيه شهيّة يوشّحها اللّيمون، رغما عن الأساطير التي كان يحفظها ويستمتع بترديدها حين تروي ألوانا وأشكالا من هذه الأعاجيب، فالإنسان اختبر كلّ ما يحيط به، وأدرك أن السماء لا تمطر طيورا محمّرة، ولا البحر يلقي بـ«التونة” المعلّبة، والأرض – هي الأخرى – لا تخرج عدسها وبصلها بـ«الأمنيات”، فالأمر متعلق بما يُبذل من “جهد”، وليس بـ«قرقعة أصبعين” كما تدّعي الأساطير..
وعاش الإنسان منذ قديم الزمان، لم يشكّ مطلقا بأن “العمل” قيمة عليا، وظل يضاعف الجهد، كلما تضاعفت الحاجة، إلى أن حقّق ما نتعارف عليه اليوم بـ«الحضارات”، ثم خلف من بعده خلفٌ، ينام ملء جفنيه إلى أن تقلبه شمس الظهيرة، فيخرج من فراشه، ولا يترك دهانا إلا ويلقي به على رأسه المقزّعة، ثم يطلب المصروف من والدته، ويغلق أذنيه بسماعتي الهاتف، ويخرج دون هدف ولا غاية، فإذا سألته عمّا يضيف إلى العالم، يقول بمنتهى التمسكن: (ما كانش الخدمة)، دون أن يدرك بأنه مجرّد ضحيّة لأسطورة جديدة صاغها؛ فهو لم (يتذوّق) معنى “الحاجة”..