تعرف منطقة الساحل الإفريقي تطورات وتغيرات عميقة، أفرزتها العديد من المعطيات، بداية بتنامي المد المناوئ للوجود العسكري الفرنسي والذي تعكسه الاحتجاجات والمظاهرات التي تهز الشوارع في مالي والنيجر وتشاد ومؤخرا بوركينافاسو، لإرغام باريس على المغادرة بعد فشل مهمتها في محاربة الإرهاب، ثم صعود قيادات عسكرية شابة إلى السلطة في دول المنطقة عبر انقلابات عسكرية، وتبنيها مواقف سياسية تنشد القطيعة مع المحتل القديم، وتتطلع إلى مدّ جسور التعاون مع حلفاء جدد ليس لهم ماض استعماري، ليأتي بعدها قرار فرنسا بإنهاء عملية “برخان”، لتتبعها دول أخرى بإعلان سحب قواتها، إذ أوردت بريطانيا وألمانيا قبل أيام عزمهما تغيير إستراتيجيتهما العسكرية في الساحل، بحيث ينحصر دورهما في تدريب وتقديم الدعم لجيوش المنطقة دون المشاركة في الأعمال القتالية.
كل هذه التطورات التي يشهدها الساحل الإفريقي، تترافق – طبعا – مع تنامي الخطر الإرهابي، واستمرار البحث عن أنجع الخطط لمجابهته ودحره.
بعد مالي والنيجر وتشاد، شهدت واغادوغو عاصمة بوركينا فاسو الجمعة الماضي، مظاهرة صاخبة احتجاجا على استمرار التواجد الفرنسي، وانطلق المتظاهرون صوب السّفارة الفرنسية وقاعدة كامبوينسين في ضواحي العاصمة، حيث تتواجد فرنسا عسكريا ضمن قوة “سابر”.
هذه الاحتجاجات ليست الأولى، ففي 28 أكتوبر الماضي، تظاهر مئات الأشخاص للمطالبة برحيل فرنسا من بوركينا فاسو، بمبرر أن وجودها أدى إلى نتائج عكسية، حيث تتعرض البلاد للهجمات المستمرة التي تشنها جماعات إرهابية تابعة لـ«القاعدة” وتنظيم “داعش” والتي خلّفت منذ 2015 مقتل الآلاف وتشريد نحو مليوني شخص.
لكن الرياح التي تعصف بالوجود الفرنسي في منطقة غرب إفريقيا والساحل، لا تهب من بوركينافاسو فقط، بل من كل مكان، فقبلها اهتزت شوارع مالي أكثر من مرّة تحت الصرخات الداعية لرحيل فرنسا، وبالآلاف خرج المتظاهرون في عاصمة النيجر نيامي، أواخر سبتمبر المنصرم، منددين بالوجود العسكري الفرنسي على أراضي بلادهم التي أصبحت المعقل الأساسي لقوات عملية “بارخان”، بعد أن جرى سحبها من مالي شهر جويلية المنصرم، وقبل أن يحلها ماكرون مؤخرا.
وفي تشاد لم تسلم فرنسا من تسونامي الاحتجاجات المناوئة لها، والمصرّة على الخروج من عباءتها التي يبدو بأنها لم تعد على مقاس تطلعات الشعوب الإفريقية.
الانحناء للعاصفة
يبدو أن فرنسا أدركت أن الزمن لم يعد زمنها، وأن تغييرات جوهرية تحدث بمنطقة غرب إفريقيا والساحل تحديدا، الذي ظلت تعتبره حديقتها الخلفية ومجال نفوذها الحيوي، والتغييرات هذه لا ترتبط فقط بظهور منافسين إقليميين ودوليين يتحيّنون الفرصة بحثاً عن موضع قدم في الأراضي التي يتهاوى ويتآكل فيها نفوذ الفرنسيين، بل تمس الشعوب الإفريقية التي باتت تعتقد بأن الحرمان الذي تعيشه، وتكالب التنظيمات الإرهابية ومجموعات الجريمة المنظمة عليها، سببه المستعمر القديم الجديد الذي هيمن على خيرات المنطقة، وظلّ يدعم بعض أنظمتها الفاسدة والفاشلة، ولم يفعل شيئا لمحاربة الدمويين، بل على العكس تماما، إذ هناك قيادات ومسؤولين في المنطقة لا يتردّدون في اتهام فرنسا صراحة بدعم الإرهابيين وتقوية شوكتهم، وهي اتهامات تستنكرها فرنسا التي استوعبت هذا الواقع الجديد، وقرّرت التعامل معه بذكاء وحذر من خلال اتخاذ خطوات جريئة قبل أن يجرفها التيار، حيث قررت أن تنسحب عسكريا، لتعود بشكل آخر يغير النظرة النمطية تجاهها، وهذا الشكل الجديد تتضمنه الإستراتيجية التي وعد ماكرون بالكشف عنها قريبا والتي ستحدد ملامح الوجود الفرنسي القادم في إفريقيا.
.. الانسحاب للعودة بشكل جديد
أعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، قبل أسابيع، انتهاء العملية العسكرية التي تقودها بلاده لمحاربة الإرهاب في منطقة الساحل تحت مظلة قوة “بارخان”، وقال إن الإستراتيجية الفرنسية الجديدة في إفريقيا ستكون جاهزة في غضون ستة أشهر، بعد مشاورات باريس مع شركائها في القارة.
هذه الإستراتيجية ليست معزولة عن خريطة طريق وضعتها باريس، وتتضمن إعادة بناء أولوياتها العسكرية بهدف تحقيق ما يسمى بـ«المراجعة الإستراتيجية الوطنية» لفرنسا.
وسوف لن تقتصر الإستراتيجية الفرنسية الجديدة في إفريقيا، حسب قراءات المراقبين، على البعدين الأمني والسياسي، لكن باريس ستسعى إلى تكريس أسلوب مغاير لإدارة العلاقات مع بلدان الساحل وغرب ووسط إفريقيا، بحيث تركّز على مجالات لا تقلّ أهمّية، وهي التنمية والحكم الرشيد والتعليم، مع عدم الانخراط العسكري المباشر الذي يلقى رفضا شعبيا متزايدا، وبدل ذلك، التركيز على تدريب الجيوش المحلية ودعم التعاون الاستخباراتي لدحر الإرهاب، وإسناد المسائل القتالية للجيوش الوطنية لبلدان المنطقة. وقد اشترط الرئيس الفرنسي على الدول الأفريقية الراغبة في تلقي دعم بلاده عسكرياً وأمنياً، تقديم طلب صريح، ليكون للفرنسيين حضور أكبر في التدريب العسكري، وتوفير المعدات والدعم للجيوش الأفريقية لمساعدتها في زيادة قدراتها خاصة عبر الطائرات المسيرة.
وضمن الإستراتيجية المرتقبة أيضا – بحسب ما استخلصه بعض المراقبين السياسيين – تعتزم باريس إصلاح سياستها بشأن المساعدات التنموية من خلال رفع ميزانيتها وإعطاء الأولوية للمنح بدل القروض، تماما كما تفعل دول منافسة أخرى عززت وجودها في إفريقيا واستحوذت على محبّة ورضى شعوبها، بفضل المنح والقروض الميسّرة والمشاريع التنموية المثمرة، أي أنها لا تركّز على الأخذ فقط، بل على العطاء أيضا، والمصلحة المتبادلة.
حظوظ الاستراتيجية الفرنسية في النجاح
فرنسا، ومن خلال استراتيجيتها المرتقبة، تسعى إلى تصحيح أخطائها وفتح صفحة جديدة مع إفريقيا عموما والساحل خصوصا، لكن أملها في استعادة مكانها ومكانتها بالمنطقة، يراه البعض صعب المنال، وتذهب بعض القراءات “المتشائمة” إلى أن البدائل الأمنية والدبلوماسية والتنموية التي تطرحها فرنسا لن تمكّنها من استعادة حلمها الضائع، ببساطة، بسبب أعباء التاريخ الاستعماري، ثمّ لأنها سوف تصطدم بالأوضاع الاقتصادية الصعبة التي تواجهها، نتيجة تبعات وباء كورونا والحرب في أوكرانيا، فهذه الظروف الاقتصادية الخانقة، ستحدّ بكلّ تأكيد، من قدرة باريس على الذهاب بعيداً في مواجهة دول أقوى منها عسكريا واقتصاديا استطاعت أن تفرض وجودها في القارة السمراء، وتشكّل تحالفات عسكرية مع جيوش بعض بلدانها.
قراءات كثيرة، خاصة وسط المحللين السياسيين الأفارقة، تقلّل من احتمالات أن تفضي الإستراتيجية الجاري بحثها إلى اختراق كبير في الدور الفرنسي المتراجع في منطقتي غرب إفريقيا ودول الساحل، لا سيما مع تحولات واضحة في الرؤية الشعبية للدور الفرنسي وتأثيراته، فضلاً عن أن باريس لم تعد اللاعب الوحيد في المنطقة.
كثيرون يعتقدون بأن الإستراتيجية الفرنسية الجديدة، ليست سوى محاولة من باريس للإبقاء على موطئ قدم لها في دول الساحل والصحراء، ويتوقعون بأن يجهضها الشعور الشعبي المعادي لفرنسا، الذي يشكك في نواياها وفي قدراتها، إذ أنها فشلت في مواجهة التنظيمات الإرهابية بعد 9 سنوات من الحرب.
بدائل إفريقية..
وبينما تتسابق الدول على مدّ نفوذها في غرب إفريقيا والساحل، وتقاوم فرنسا من أجل البقاء في المنطقة، تنكبّ بلدان الساحل الإفريقي على البحث عن حلول تخلّصها من خطر الإرهاب، وذلك بالاعتماد على نفسها وعلى قدراتها الخاصة.
فبعد نحو 6 أشهر على انسحاب مالي من القوة المشتركة لدول الساحل الإفريقي (ساحل 5)، تسعى المجموعة التي أنشئت عام 2014، إلى صياغة إستراتيجية بديلة لمكافحة الإرهاب تهدف إلى زيادة كفاءتها، وسدّ الفجوة التي تركها انسحاب مالي، وكانت مالي عزت انسحابها من التحالف العسكري الإفريقي، إلى ما وصفته بـ«فقدان استقلاليتها، ومعاناتها من الاستغلال من الدول الأربع”، بعدما مُنعت من تولي رئاسة التكتل الإقليمي المكون من الدّول الخمس.
وبحسب تقرير نشره معهد “الدراسات الأمنية والإستراتيجية في بريتوريا”، فإن “نقص التمويل والقدرات، وتغيير التحالفات، وانسحاب مالي من القوة المشتركة، والكفاح للحفاظ على استقلاليتها عن التأثير الخارجي، عوامل تستدعي اتباع نهج جديد لمكافحة العنف والإرهاب في تلك المنطقة”.
وذكر المعهد، في تقريره الصادر قبل أيام، أن “قرارات وزراء الدفاع ورؤساء أركان دول الساحل، الصادرة في سبتمبر الماضي، ستحول القوة المشتركة إلى قوة تدخل لمكافحة الإرهاب، يمكن أن تقوم بعمليات في مختلف الدول التي تشكل التحالف، خلافاً للدور الحالي الذي يقتصر نطاقه على المهام العسكرية عبر الحدود”.
وناقش اجتماع للقادة العسكريين بدول الساحل، يومي 21 و22 سبتمبر الماضي، في النيجر، إستراتيجية جديدة للقوة المشتركة، ونظراً لانسحاب مالي، تمّ الاتفاق على نقل مركز القيادة للقوة الافريقية من نجامينا في تشاد إلى منطقة قريبة من منطقة العمليات، كما تقرّر أن تدعم مجموعة الدول العمليات العسكرية الثنائية والمتعددة الأطراف للدول الأعضاء.
ومع أهمية المقاربة الجديدة لدول الساحل، فهناك من يعتقد بأن غياب مالي سيؤثر بقوة على مكافحة الإرهاب على اعتبار أن معظم المجموعات الدموية تستقر فيها وتتدفق منها ولا مناص من التنسيق مع باماكو لتحقيق النتائج المرجوة.
ووفقاً لتقرير «مركز إفريقيا للدراسات الإستراتيجية» في واشنطن، تصاعد الإرهاب في دول الساحل بشكل أسرع من أي منطقة أخرى في أفريقيا، بزيادة 140 في المائة منذ عام 2020. وأسفر هذا عن مقتل 8 آلاف شخص، ونزوح 2.5 مليون، بينما وصل عدد ضحايا هجمات تنظيم «داعش» الإرهابي وحده خلال 2022، إلى نحو ألف قتيل.
الدول الإفريقية في منطقة الساحل، تدرك جيدا بأن محاربة الإرهاب مسؤوليتها هي قبل غيرها، فما حكّ جلدك غير ظفرك، لكنّها تفتقر للتمويل والإمكانات والتدريب العسكري الفعال، لهذا فهي تنشد المساعدة والدّعم.
هذا الدعم دعت إليه المتحدثة باسم الأمين العام لمنظمة الأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، أمينة محمد، عقب مناقشات في مجلس الأمن الدولي، حيث قالت إن “المبادرات الإقليمية العديدة لمكافحة الإرهاب في أفريقيا، بما في ذلك فرقة العمل المشتركة المتعددة الجنسيات في حوض بحيرة تشاد، والقوة المشتركة لمجموعة الخمسة لمنطقة الساحل، تحتاج إلى دعم المجتمع الدّولي الكامل، والالتزام الدائم بهذا الدعم”، وحثت على أن يضمن مجلس الأمن التمويل اللازم لعمليات الاتحاد الإفريقي لمكافحة الإرهاب.
وأضافت أن “انتشار الإرهاب في إفريقيا يمثل مصدر قلق للمجتمع الدولي بأسره، وأن مواجهته تتطلب نهجاً وقائياً”.
طموحات تكبحها الإمكانيات
على خطى قوة “ساحل 5”، تحاول دول المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا “إيكواس” من جانبها، التصدي لظاهرة الإرهاب من خلال السعي لرفع ميزانيات الدفاع وتشكيل ما يعرف بـ«صندوق المليار دولار” الذي كانت تعهدت به خلال القمة التي عقدت في 2019.
ورغم أن محللين وخبراء كثيرين يرون صعوبات كبيرة تواجه دول المجموعة في تنفيذ هذه التعهدات المالية، فضلاً على عدم الاستقرار السياسي الذي تعيشه بعض دول الساحل التي عرفت انقلابات عسكرية، فإن «إيكواس»، التي تأسست عام 1975، كمُنظمة سياسية اقتصادية إقليمية، تتكون من 15 دولة وتتخذ من مدينة أبوجا النيجيرية مقراً لها، عازمة على تحقيق التحدي، وربح الرهان، خاصة وأنه خلال قمة 2019، ناشدت «إيكواس» المجتمع الدولي «وضع القوة المشتركة لدول منطقة الساحل تحت (الفصل السابع) من ميثاق الأمم المتحدة»، الأمر الذي يمهد إلى حصولها على تمويل من الأمم المتحدة.
في الأخير، يجب التأكيد على أنّ الساحل مقبل على تغييرات إستراتيجية هامة، أهمّ ما يميّزها، عزم بلدانه وشعوبها على تغيير الحلفاء وتبني سياسات دفاعية تقودها بنفسها، خاصة بعد أن فشلت العمليات العسكرية في دحر الإرهاب الذي يبقى أكبر وأخطر تحدّ تواجهه منطقة غرب إفريقيا بأسرها.