أكد الدكتور صالح بلعيد رئيس المجلس الأعلى للغة العربية في حواره مع «الشعب»، أن مسألة تعميم اللغة العربية ليست مسألة مرتبطة بوزارة التربية وحدها أو المجلس الأعلى للغة العربية أو بوزارة التعليم العالي والبحث العلمي، وإنما هي قضية جمعية لأن اللغة قاسم مشترك.
دعا بلعيد إلى ضرورة الاعتزاز باللغة العربية وغرس حبّها في قلوب الأجيال الناشئة، بدءا من المرحلة القاعدية من الحضانة إلى الجامعة.
«الشعب»: ما هو واقع اللغة العربية في الجزائر؟
الدكتور صالح بلعيد: إن واقع اللغة العربية في الجزائر اليوم هو واقع بين الانجذاب وبين الندرة والانفعال، إذ نجد أن هناك قوة ضاغطة لتعميم استعمال اللغة العربية في واقعها المعياري، بينما نجد ضغطا آخر في واقعها في الحياة اليومية، شبه ما يكون في خطاب الأُنس ليس في الخطاب المعياري، باعتبار أن خطاب المعياري هو خطاب عالي بينما خطاب الأُنس يقال عنه إنه من اللغة البيضاء، على غرار لغة الصحفيين التي هي اللغة الوسطى، إذن الانتصار الآن ينحو منحى اللغة البيضاء، وهذا من الأشياء التي نقوم على تشجيعها، كما نسعى للرفع من سويّة اللغة العربية، بحيث تكون حسب المقامات وحسب المتحدث، لأنه في كل لغة من لغات العالم نجد مستويات مختلفة؛ هناك المستوى الأعلى نخاطب به النخبة، ومستوى وسط نخاطب به الناس الذين لديهم مستوى يمكّنهم من التحكّم في اللغة العربية إلى حدّ ما، ومستوى أدنى نخاطب به بعض الناس الذين لم يتعلّموا اللغة العربية وهذا ما نسميه بلغة المصالح المرسلة، وهي لغة يكون المزج فيها بين الدارجة أو بعض الدوارج واللغات الأجنبية وهو ما يدخل في الهجنة اللغوية.
عندما نرى الواقع في الجزائر نلاحظ أن هناك أخطاء في الكتابة، وعندما نذهب إلى لغة البحوث لا نجد لغة عربية سليمة جيدة حتى في مراكز البحوث وفي مخابر اللغات، كما لا نجدها في العلوم أيضا.. وكل هذه الأشياء تخل بالأداء الجيد للغة التي ننشدها في اللغة الوسطى أو اللغة البيضاء، لا نقول الآن بأنه على كل الجزائريين اتقان اللغة المعيارية، لكن ينبغي على الأقل أن تكون هناك لغة تفاهم، ومن جهة أخرى نجد مؤشرات تنبئنا بأن هناك محسنات في المدرسة الجزائرية التي قطعت أشواطا معتبرة، كما الجامعات قطعت أشواطا مهمة، خاصة العلوم الإنسانية التي أصبحت تستعمل اللغة العربية بشكل جيد، ويبقى المحيط الذي نجد فيه ثغرات كبيرة، فيحتاج إلى مرافقة وترشيد، كما يحتاج إلى تعميم اللغة العربية من مختلف الأطراف، يعني أن المسألة ليست مرتبطة بوزارة التربية وحدها أو المجلس الأعلى للغة العربية أو بوزارة التعليم العالي والبحث العلمي، وإنما هي قضية جمعية لأن اللغة قاسم مشترك، عندما يحصل تعميم اللغة العربية في الإدارة يصبح المواطن مجبرا على التعامل بها حتى لو كانت في البدء بسيطة إلا أنه سيرتقي في لاحق من الزمان.
مع الجزائر الجديدة نشهد واقعا مختلفا ولله الحمد، فنجد أن بعض الوزارات منعت استعمال اللغات الأجنبية وهذا فعل نبيل، كما أن الخطاب السياسي أضحى باللغة العربية خاصة منذ تولي السيد عبد المجيد تبون رئاسة الجمهورية، حيث نستشرف من خطاباته 03 دلالات هي: اللغة العربية لغة الدين وبذلك نحافظ على ديننا، الدال الثاني أنها لغة الدنيا والمعاملات والخطاب السياسي، والداخل الثالث أنها لغة الدولة. صحيح أن هناك بعض القطاعات ما زالت تعتمد على اللغة الأجنبية، إلا أنها حالات استثنائية، تحتاج فقط إلى مرافقة وإلى تحبيب في اللغة العربية ليس إلا.
تشكل اللغات هوية وطنية وقومية للشعوب، كيف نجعل من لغتنا تعكس عمقا هويا وبعدا قوميا؟
أولا لابد من الاعتزاز باللغة، لأنه إذا لم تكن لدينا لغة مشتركة لا ماضي ولا حاضر لنا ولن يكون لنا مستقبلا، ثانيا الاستعمال، وثالثا أن نغرس في المنظومة التربوية حب العربية، إذ يجب تعويد الأطفال من مرحلة الحضانة على حب اللغة العربية واستعمالها، فحب اللغة معناه حب الدين وحب الدين معناه حب الوطن وحب الوطن معناه حب التاريخ، ليكون لنا ربط بين الماضي والحاضر والمستقبل، فاللغة العربية تمرّ بـ 3 مراحل: الماضي المُغدق، والآن الحاضر المقلق، والدراسات القادمة ستعرف القادم المشرق، ولهذا نحتاج إلى الاعتزاز بالمواطنة اللغوية، والمواطنة اللغوية تعطي القيمة للغتين الرسميتين في هذا البلد الماجد، ثم تعني الانفتاح على التعددية اللغوية، بمعنى التفتح من أجل أن نستفيد ليس إلاّ، فالإنسان عندما يستعمل لغة الأم يحس بأنه في وطنه. نحن لا ننكر دور اللغات الأخرى ولكن نأخذها فقط كلغات نستفيد منها لا غير.
تعاني اللغة العربية حصارا من العامية من جهة، واللغات الأخرى من جهة ثانية، هل يمكن فكّ هذا الحصار بأن نعيد للغة العربية قوتها وحيويتها؟
لكل لغة في العالم مستويات لغوية، لكل لغة ما يسمى بلغة الانقباض وهي الفصحى المعيارية، ثم هناك مستويات لغوية دنيا في كل لغات العالم.
هل اللهجات هي نوع من الصدام بين اللغات المعيارية واللهجات المحلية؟ أبدا، اللهجة المحلية هي الظاهرة الأولى للترقية اللغوية، إذن اللغة قبل أن تصبح كاملة لها طفولة صغيرة، اللهجات الموجودة الآن هي نوع من الطفولة لأنها تَقْرُب من اللغة المعيارية أو الفصحى. وبالتالي نرى أنه يجب ألا نعادي اللهجات لأنها مستوى أدنى للغة.
من الطبيعي أن يحصل ما يسمى بموقف الأُنس، فاللهجات هي موقف الأُنس وموقف الخطاب البسيط، أما الفصحى فهي موقف الانقباض، ومن ثم نقول إنه لا يوجد حصار بل هناك مستويات لغوية فقط.
الآن، من أين تعاني اللغة العربية الحصار؟ تعاني من اللغات الأجنبية، أولا هي تعاني من الانجذاب اللغوي، ثم الانجذاب إلى التماهي مع لغات العولمة، وهذا ما يتركنا نعامل لغتنا معاملة دون المستوى المطلوب، وأن لا نقدسها.
هل نعادي هذه اللغات؟
لا نعادي هذه اللغات لكن نحاول التقليل من فعالياتها في التدريس، لا نقول ننغلق على لغتنا، وإنما نقلل من استعمال اللغات الأخرى إلا في المواقف ذات العلاقة بالسياح، في بعض المواقع الأثرية وبعض الأدلة، لقد عشنا بالنسبة للغة العربية خمسة قرون من البيات وليس سهلا أن ننتقل مباشرة ونحدث القطيعة، يجب أن نولي الاهتمام أولا باللغة العربية ثم نعتمد اللغات الأجنبية كمنطلق للاستفادة منها فقط. ^ وكيف نتعامل معها؟
بأن نغلّب الوحدات باللغة العربية ونفتح على وحدة أو وحدتين باللغات الاجنبية، لأن العلم يوجد في ثماني لغات، فإذا أردنا أن نتعلّم الصناعات الثقيلة لا بد من الروسية، وإذا أردنا أن نكون من الفلاسفة لابد من الألمانية، وإذا أردنا أن نكون من الحقوقيين لابد من الفرنسية، وإذا أردنا الطب والتكنولوجيا لابد من الإنجليزية، إذن نأخذ من هذه اللغات لكي نصل إلى مصدر ذلك العلم من لغة القطب ونستفيد منها ليس إلاّ. فلا توجد معاناة من الدوارج بقدر ما توجد معاناة من هذه اللغات التي زحفت علينا.
ماهي الاستراتيجيات المتوخاة لإخراج اللغة العربية من المؤسسات والجامعات إلى الفضاءات العامة؟
سؤال مائز وهو اللغة وضع واستعمال، وكما يقول فقهاؤنا اللغة وضع واستعمال، فإذا تعارض الوضع مع الاستعمال فالاستعمال أولى، لكن ما نوع هذا الاستعمال؟ هو الاستعمال المهذب، هذه نقطة أولى، أما النقطة الثانية فهي الاستثمار في منظومة التربية والتعليم بدءا من المرحلة القاعدية من الحضانة إلى الثانوية، وأن نعيد النظر إلى السكة القديمة، والتركيز على استعمال اللغة العربية.
الآن، العالم تغيّر أصبح يسير إلى الرقمنة والذكاء الصناعي والحداثة وفق بنيات العصر، والعلم الآن موجود في اللويحة في المحمول، كل ما هو أقل جهد وأقل تكلفة.
غالبا ما شدّدتم على ضرورة اعتماد الذكاء والتحكّم في التقنيات الحديثة وتكنولوجيات الرقمنة لتطوير اللغة العربية، فإلى أي مدى وصل هذا التحدي؟
اللغة العربية تفتقر إلى أشياء كثيرة، تفتقر إلى تطبيقات، إلى ذكاء صناعي، إلى منصات بالعربية، تفتقر إلى محرّك بحث باللغة العربية.. هذا هو الواقع، نحن الآن بدأنا في علاجه وحققنا أشياء لكن هل كنا على مستوى عظمة بعض هذه اللغات مثل الإنجليزية والفرنسية والروسية والصينية، باعتبار أن اللغة العربية الآن لغة أممية؟
بعدما كانت اللغة العربية عدما (من حيث الاستعمال في الانترنت)، أصبحت ثاني لغة أكثر استعمالا على الشبكة، فعدد المنصات كان في حدود الـ5 ألاف قبل 2012، بينما تجاوز اليوم 500 ألف، استعملنا الآن الذكاء الصناعي وربحنا وقتا كثيرا، رغم المشكل الذي تعاني منه اللغة العربية نظرا لامتدادها الزماني والمكاني، لأنها ليست على غرار اللغة التركية الحالية التي هي وليدة أقل من قرن أو الفرنسية أو الانجليزية، فهي تعود إلى أكثر من 14 قرنا، المشكل الآن كيف نقمِّش كل هذه المدة الزمنية في تطبيقات حضارية صناعية وفي محرك بحث عربي.
الرهان بسيط جدا، وهو أن نعتمد اللغة الأجنبية في المنطلق، فننطلق من منصاتها ومن محرّك بحثها، وفي كل سنة ندخل عليه بعض التعديلات ذات العلاقة بخصائص فقه اللغة العربية، بمعنى أنه على مدار 4 سنوات سيكون لدينا محرّك بحث عربي، ويكون لدينا فكر عربي. وهذا ما جربناه في المجلس الأعلى للغة العربية، أقول نحن على رضى بما انجزناه من منطلق اعتماد اللغة الأجنبية كمنطلق فقط، فقد عرفنا كيف نستعمل الملخصات، كيف نتعامل مع ورقات «الوورد» وورقات «الاكسل»، واستطعنا أن نحول «البيدياف» إلى «الوورد» ونتصرف فيه، ثم استطعنا أن نجعل الماسح الضوئي يمسح اللغة العربية ثم يعمل على قراءتها داخليا ويجيبك على أسئلة تطرحها.
أقول تعالوا جميعا نتماهى في خدمة اللغة العربية، طبعا ستكون لدينا أخطاء لكن من أخطائنا نتحسّن.