يشكل «الداني دان» أحد الطبوع الغنائية التي تحظى بانتشار واسع بين المجتمع المحلي الورقلي، وهو نوع من الطرب البدوي الذي يخص منطقة ورقلة ويضفي بعض الخصوصية عليه عبر الآلات المستخدمة فيه وفي قصائده ويتميز بإيقاعه الثقيل المستوحى من وقع خطوات مشي الجمال.
يستمد الطابع أصالته من الطبيعة الصحراوية، حيث يحتفظ المؤدون والممارسون لفن «الداني دان» بتفاصيله الخاصة، التي ترتبط بلباس الرجل البدوي وجلسته الأرضية، وحتى آلاته الموسيقية المستخدمة والتي تتمثل في آلة الطبل وآلة القصبة.
هذه الجلسة الخاصة، التي لا تفارق أفراح سكان ورقلة، مازالت تحظى بجمهورها المحب، بل ويجمع الكل على ضرورة إحياء سهرات الزفاف بالداني دان. كما ويعتبر هذا الفن بالنسبة لمحبيه جرعة من الماضي الجميل، تعود بالذاكرة وترحل بها عبر الزمن لتصور طبيعة الحياة البدوية وبساطتها، وكذا تفاصيلها التي تبدو من خلال كلمات قصائد الملحون والتي يتفنّـن مؤدوها في سردها ووصفها.
وفي الوقت الذي يلقى فيه طابع «الداني دان» كل هذا الإقبال المنقطع النظير، حيث لا يكاد يقام عرس إلا وكانت هذه الوصلات الطربية البدوية حاضرة وبقوة، وتكون عادة جلسة رجالية في مثل هكذا مناسبات، إلا أن مدى انتشاره ظل لسنوات مقتصرا على المناسبات الاجتماعية فقط.
الأعراس لاستمرارية «الداني دان»
رغم ذلك يجمع الكثير من ممارسي هذا الفن الأصيل على أن حفلات الأعراس كانت ولازالت الداعم الأكبر لاستمرارية هذا التراث وتواصله عبر الأجيال، حيث لازال يلقى الطلب عليه حتى في ظل المتغيرات الكبيرة التي ألقت بظلالها وتأثيراتها على كافة المجتمعات. لهذا يعتبر المجتمع المحلي الحاضن الأساسي لهذا الفن الذي حافظ على مكانته بين جمهوره لفترة طويلة من الزمن، كما أكد على ذلك العديد من ممارسيه.
وسعيا للحفاظ على هذا الفن الموروث، تأسست جمعية «الداني دان للثقافة والتراث» بورقلة، والتي يترأسها الفنان عبد القادر شبعني بداية الألفينات من منطلق أن هذا الطابع كان يؤدى في الأعراس، ولم يكن يحظى بمواعيد ثقافية خاصة محليا، وبعد اقتراح المشاركة به في مهرجانات وطنية ومحلية كان من الضروري التوجه لتأسيس جمعية، حسبما أوضح المتحدث.
انطلاق نشاط الداني دان في هذا السياق، كان في إطار جمعية فرقة «الأشواق للطرب البدوي»، والتي شاركت في العديد من المناسبات، منها المهرجان الوطني للأغنية البدوية الذي احتضنته ولاية ورقلة، وكانت هذه فرصة مهمة للتعريف به، حيث كان المهرجان فرصة لالتقاء كل طبوع الأغنية البدوية في الجزائر. وبدا الداني دان كأحد الأنواع التي تعرف عليها المهتمون والفنانون في الطرب البدوي عبر الوطن لأول مرة، ولاحظوا مميزات الداني دان في إيقاعه الخاص والآلة الموسيقية المضافة وهي الطبل واللباس التقليدي المحلي البدوي والجلسة الأرضية التي تميزه عن غيره.
نحو الترويج للتراث الفني
فقد كان المهرجان خطوة مهمة للترويج لهذا الفن خارج إطاره الضيق وبين مجتمعه الذي تولد فيه واستطاع الانتشار أكثر، حتى تمكنت الجمعية آنذاك من المشاركة في العديد من المهرجانات الوطنية. كما وجد هذا الفن اهتماما من طرف الباحثين والطلبة الجامعيين الذين أرادوا البحث فيه ومعرفة المزيد من التفاصيل حوله، وكل المواعيد الفنية التي شاركت فيها الفرقة في إطار الجمعية الوحيدة التي أنشئت بهدف تقديم هذا الطابع المحلي والترويج له خلال هذه الفترة، التي كانت تجد إقبالا كبيرا من طرف الجمهور في مختلف ولايات الوطن.
وبعد التفكير في ضرورة البحث عن سبل للحفاظ على هذا الفن وتصنيفه كتراث ثقافي، تم تغيير اسم الجمعية بمقترح من بعض المهتمين بالمجال الثقافي إلى جمعية «الداني دان للثقافة والتراث» في عام 2011، ومنذ ذلك الوقت شاركت الجمعية بفنانيها في العديد من المهرجانات والحصص التلفزيونية والإذاعية المتخصصة في المجال الثقافي والفني، حسبما أكد الفنان عبد القادر شبعني خلال لقائه مع «الشعب».
وبالحديث عن مسيرة العمل من أجل الحفاظ على هذا الموروث الثقافي والسعي لتصنيفه، شكّل ومازال تصنيف هذا الطابع أحد انشغالات الفنانين في الداني دان، كما قال المتحدث، فقد صاحب هذا الحلم العديد من المشاريع التي فكّر رواد هذا الفن في تجسيدها، على غرار مشروع فيلم «زيدورة» ومشاريع أخرى لتوثيق هذا الفن في أفلام وحصص وبرامج تلفزيونية وإذاعية، وكذا من خلال المهرجانات، حيث كان كل من مهرجان الأغنية البدوية وعكاظية الشعر الشعبي والملحون، من بين أبرز المواعيد التي شكلت فرصة هامة للالتقاء بين الشعراء ومؤدي الكلمة والمغنين لطرح مشاريع تخدم الحفاظ على هذا الموروث، لكن هذه المواعيد الثقافية غابت عنا لسنوات، يقول المتحدث.
عادة إدراج المهرجانات التي تعنى بالأغنية البدوية ضروري
واعتبر رئيس جمعية «الداني دان أن الحفاظ على هذا الفن في حاجة لأياد مساعدة من مسؤولين في القطاع ومهتمين بالتراث، من خلال إعادة إدراج هذه المهرجانات في أجندة النشاط الثقافي، لتمكين الفنانين في هذا الطابع من أن يحظوا بمساحات للظهور في وسائل الإعلام، من أجل المساهمة في إبراز هذا الطابع، مؤكدا «الفنان في هذا المجال من الصعب أن يستمر لوحده».
كما أشار إلى أن الجمعية «أسست بهدف إنشاء مدرسة للطرب البدوي لتكوين شعراء وموسيقيين ومختصين في صناعة الآلات الموسيقية، ومن أجل خدمة هدف الجمعية في تحقيق تواصل بين الأجيال، بحيث تضمن هذه المدرسة تأطير الشباب والأجيال الصاعدة في هذا الفن وتحقق التواصل بين الأجيال، بالمساهمة في الحفاظ على هذا الموروث، لكن الإمكانات غير متوفرة.»
وطالب المتحدث بضرورة إعادة إدراج المهرجانات التي تعنى بالأغنية البدوية في المواعيد الثقافية لولاية ورقلة، مشيرا إلى أن موعدا سنويا على الأقل في شكل مهرجان وطني، من شأنه المساهمة في إحياء هذا التراث وتوسيع جمهوره وزيادة الطلب عليه محليا ووطنيا. كما اعتبر التأسيس لمهرجان خاص بالطرب البدوي «الداني دان»، لفئة الأطفال والشباب، مهم من أجل إبراز المواهب الجديدة القادرة على تحقيق الاستمرارية في هذا الفن وتواصله عبر الأجيال، خاصة أن هذه الفئة تحتاج لرعاية حتى تستطيع المساهمة هي الأخرى في الحفاظ على هذا الموروث.
الشاعر لمين سويقات: الداني دان تراث محلي ينبغي صونه
للبحث أكثر في زوايا هذا الطابع الغنائي الخاص بمنطقة ورقلة وضواحيها، كان لـ»الشعب» لقاء خاص مع الشاعر والباحث الأكاديمي لمين سويقات، رئيس هيئة المستشارين في الاتحاد الوطني للشعراء الشعبيين الجزائريين، حدثنا خلاله عن طابع «الداني دان» الذي يطلق عليه بعض الممارسين اسم «الدابي» ويميز منطقة ورقلة وبعض مناطق الجنوب الجزائري وهو من بين طبوع الغناء البدوي الموجود في كل مناطق الجزائر، منها البدوي الوهراني، البدوي الشاوي والبدوي في الغرب الجزائري.
ويعد الداني دان طابعا بدويا في الغناء الذي ينتشر في منطقة ورقلة وبعض مناطق الجنوب الجزائري، منها زلفانة، متليلي، المنيعة ويمتد لبعض المناطق في أدرار وبني عباس وبشار، لكن باختلاف بسيط في هاتين الولايتين.
كما يتميز عن غيره في ورقلة باستعمال آلتين، هما آلة الطبل وآلة القصبة وهما مصنوعتان من وسائل وأدوات تقليدية الصنع، مستوحاة من البيئة. فالطبل عبارة عن قصعة الأكل التي كانت تصنع من الخشب وحتى يتم تحويلها لآلة موسيقية مناسبة للاستعمال في هذا الطابع الغنائي، كانت تُدعّم بجلد الماعز أو جلد الضأن هذا بالنسبة للطبل، أما آلة القصبة فتصنع من القصب.
ومما يميز هذا الطابع، أنه في الأصل كان الشاعر هو المغني، أي يتغنى بأشعاره، ثم بعد ذلك بدأ الانفصال وأصبح الشاعر يمكنه أن يغني أشعاره أو يمكن أن يغني غيره قصائده.
أما الميزة الثالثة التي ذكرها المتحدث، فتتمثل في أن المغني يمكنه استعمال قصائد فحول الشعراء والمهم أن يكون من موروث الشعر في المنطقة أو شعرا محليا.
وأضاف هنا «في الأصل كانت الناس تجتمع حول الشاعر في الأعراس خاصة، كما أن الشاعر أو المغني في الداني دان يغني وهو جالس على خلاف بعض المناطق أين يغني المغني وهو واقف، ويعد التغني أو الأداء جلوسا شرطا أساسيا من شروط أداء الطرب البدوي في طابعه الداني دان في ورقلة. أيضا صفة أخرى تخص الداني دان لا توجد في طبوع أخرى وهي أن المغنيين يجتمعون في حلقات ثم تبنى حلقات متتالية من طرف الحضور».
وبالعودة إلى أصل التسمية قال الدكتور الشاعر لمين سويقات، إن «الدابي» جاءت من إيقاعه الثقيل. والداني دان من الدندنة التي ترافق اللحن، مشيرا إلى أن التركيز في هذا الطابع لا يكون على الموسيقى بقدر ما هو على الكلمة، لذلك يكون الإيقاع ثقيلا جدا حتى تفهم الكلمة، كما لا يطلق على المغني اسم مغني وإنما يسمى الشيخ لأن الكلمة أهم من اللحن.
المشيخة سبيل للتكوين ونقل الموروث
وفي سياق التأكيد على خط سير تكوين الشعراء ومؤدي الكلمة في الداني، الذي يعتمد بالأساس على أن التكوين الصحيح في هذا الطابع الفني، يكون بالتعلم على يد الشيوخ، استشهد الدكتور لمين سويقات ببيت للشاعر قويدر بن طريبة ميدوني والذي يقول فيه «شاعر من غير شيوخ فاسد كلامو على اللحانة، كلي ساري في الليل والصباح صبح في لوعار».
بمعنى أن الشاعر الذي لم يتلق تكوينه على يد أحد شيوخ الكلمة في طابع الداني دان فإن كلامه لا يكون موزونا وهو غير قابل للتلحين، كمن يمشي في الظلمة هائما ويجد نفسه تائها في الصباح.
ويعتبر هذا البيت مرجعا أساسيا لهذا الفن الذي يعتمد على المشيخة كسبيل مهم للتكوين ولنقل الموروث. وتعد هذه الطريقة الوحيدة التي كان يعتمدها فحول الشعراء وتداولها كل من كان ممارسا لهذا الفن، إذ لا أثر لقصائد مكتوبة في هذا الطابع، وإنما تنقل حفظا من شيخ إلى شيخ.
وعن أبرز الأسماء التي عرفت في هذا الفن البدوي الأصيل، والتي تركت أثرها من شيوخ الكلمة واللحن في طابع الداني دان، أشار محدثنا إلى أنها أجيال متتالية، ونظرا لعدم وجود حركة تدوين لهذا الفن لم يكن هناك تسجيل لبعض الأسماء واندثرت قصائدها أو أصواتها، موضحا «من الجيل الذي وصلنا في نهاية القرن 19 لدينا المغني بوقرة، العربي بن عيوة، بحوص بن بصيص، بوجمعة خنوس، الشيخ قويدر بن طريبة وابنه أحمد بن طريبة، محمد بن السايح، العيد روابح، محمد بن جدية، عبد القادر بن كشرودة، لخضر مسعودي، الشيخ مناع، بكار رقاقدة، حمادي بن عودة وبخالد العيدوني.. كل هذه الأسماء معروفة في طابع الداني دان وهي من أهم الأصوات التي كانت لديها جمهورها، وهناك من الأصوات التي مازالت صامدة وتتنقل في أعراس ورقلة وغيرها، منهم حمادي بن عودة والشيخ مناع وإبراهيم ميدوني والطيب ميدوني وعثمان مسعودي وغيرهم من الأسماء».
أما عن واقع الطابع البدوي فاعتبر الشاعر سويقات، أن حاله في ورقلة «لا يختلف عما هو عليه في مناطق أخرى، ولكنه مازال طابعا محبوبا ويحظى بجماهيرية ويعتبر جزءا مهما من تراث وهوية المجتمع المحلي، مع ذلك يواجه وضعا خاصا، حيث هناك تناقص كبير لسهرات هذا الطابع وتناقص في عدد المغنيين الممارسين لهذا الفن وهو آيل للاندثار إذا لم يجد الأيادي التي تأخذ به».
وأشار إلى وجود محاولات، خاصة أن وسائط التواصل الاجتماعي ساهمت في نشر بعض السهرات وبعض الأغاني لكثير من الفنانين موجودة عبر اليوتيوب، وهذه مساهمة كبيرة، حسبه، كما أن هناك بعض الجمعيات التي تهتم بطابع الداني دان في ورقلة وزلفانة والمنيعة أو غيرها، وهي على غرار جمعية الداني داني الموجودة في ورقلة في حاجة لدعم ورعاية من طرف الجهات المعنية وأصحاب رؤوس الأموال في المجتمع المحلي، حتى تتمكن من أداء دورها.
وأكد الدكتور لمين سويقات على أن الشعر الشعبي والأغنية البدوية، لديها مكانتها الكبيرة في الجزائر ويمكن من خلال هذه القصائد والأغاني، كتابة جزء مهم من التاريخ وتدوين التقاليد والعادات وتطورها عبر العصور، وكذا استكشاف البناء الاجتماعي للمجتمع، خاصة أن التراث مستهدف وأصبح يتطلب منا وقفة في ظل ما يشهده من نهب، مضيفا أن الكثير من القصائد الموروثة تتعرض كلماتها للسرقة وتنسب لدول أخرى، «لذا علينا التحرك لتصنيف هذا التراث الأصيل كتراث عالمي قبل أن ينسب لغيرنا».
وأضاف، أن واجبنا نحو التراث أن نصونه ونعطي له الطابع المؤسسي، الذي يُحدث التراكم والذي يؤدي إلى الاستفادة من التراث، عبر دراسته وجمعه وفحصه وتمحيصه وتقديمه في أحسن صورة، حتى يكون رافدا من روافد التقدم. مؤكدا في السياق، أن «الأغنية البدوية هي لوحة فنية متكاملة المعالم، تعبر عن الطابع الموسيقي واللباس التقليدي، وطريقة عيش هذه المجتمعات وأكلاتها الشعبية وعاداتها وتقاليدها الأصيلة، كل هذه المميزات أضحت تشكل مصدرا كبيرا لجذب السياح، ولابد لنا من الالتفات إليها كمصدر اقتصادي مهم، لذا فإن المؤسسات الرسمية يجب أن تعطي لهذا التراث المكانة التي تليق به، كما أن المجتمع يجب أن يعتز بثقافته في كل تفاصيلها ولا ينتظر من غيره إحياءها والمحافظة عليها».