بدأت الجزائر محطتها الثالثة من رحلة التغيير الذي التزم به رئيس الجمهورية، بحقيبة تحمل حزمة من القوانين الجديدة والنصوص التطبيقية، واستحداث العديد من الهياكل المشجعة للاستثمار..
تسهيلات تعد سابقة في تاريخ البلاد، تقابلها صرامة رئيس الجمهورية في متابعة أداء المسؤولين من حيث بلوغ الأهداف، حيث أعادت الأرقام المسجلة والإجراءات المتخذة من أجل تجسيد التغيير الذي وعد به رئيس الجمهورية، الثقة إلى المواطن. ولأول مرة تُضخ الحياة إلى المناطق الحدودية كعنصر فاعل من خلال ترقية اقتصاد المعابر.
وتعتزم الجزائر الالتحاق بكبريات دول العالم من حيث القوة الاقتصادية ومعدلات النمو، ضمن مجموعة «بريكس» التي يتطلب الالتحاق بها العمل على الرفع من مؤشرين مهمين هما الناتج الداخلي الخام ومعدل النمو.. جريدة «الشعب» حاولت تسليط الضوء على مختلف الآليات التي يمكن من خلالها تجسيد الأهداف المسطرة لسنة 2023، في حوار مستفيض تناول مختلف المحاور، مع الخبير الاقتصادي إسحاق خرشي.
«الشعب»: نفتتح سنة 2023 بحصيلة من القوانين التنظيمية الجديدة والهياكل المستحدثة، المشجعة على مواصلة مسار التغيير الذي باشرت به الجزائر منذ ثلاث سنوات من أجل بناء اقتصاد وطني متنوع ومتحرر من التبعية النفطية. الحكم على بلوغ هذا الهدف من عدمه، يكون من خلال عدة مؤشرات أهمها الناتج الداخلي الخام ومعدل النمو. في نظركم ما هي الآليات التي يجب اعتمادها للتمكن من الرفع من هاذين المؤشرين؟
إسحاق خرشي: فعلا، فرغم أهمية الميزان التجاري الذي سجل فائضا قدره 17 مليار دولار، لأول مرة منذ الاستقلال، بفارق 16 مليار دولار مقارنة مع سنة 2021. وقطاع المحروقات الذي حقق هو الآخر مداخيل مكنت من إنعاش الخزينة العمومية، قدرت بـ50 مليار دولار، مستفيدا من متغيرات جيو- إستراتيجية، غيرت موازين القوى في العالم وجعلت الجزائر في موقع المفاوض القوي، من حيث الأسعار وطبيعة العقود المبرمة مع الشركاء الأوربيين. إلا أنه يجب التفكير في مؤشرين آخرين أكثر أهمية وأولوية، لابد من الاستناد عليهما سنة 2023، وهما مؤشر الناتج الداخلي الخام، ومؤشر معدل النمو، فهذان يمثلان تأشيرة الدخول إلى «بريكس»، ويؤثران بصفة مباشرة على المستوى المعيشي للمواطن. حيث أن رفع الناتج الداخلي الخام يتعلق بكمية الإنتاج للسنة الاقتصادية الواحدة، وتعتمد طريقة حسابه على مجموع النتائج المحصلة من طرف المؤسسات التابعة لكل قطاع، وتحصيل الناتج الكلي المحقق من طرف كل القطاعات الذي يمثل قيمة ما تم إنتاجه من سلع وخدمات، حيث بلغ هذا الأخير 168 مليار وهو رقم ضعيف، مقارنة مع ما تحققه دول بريكس، فعلى سبيل المثال، بلغ الناتج الداخلي لكل من جنوب إفريقيا والصين 400 مليار دولار و14 ألف مليار دولار على التوالي.
لابد من العمل على الرفع من هذا المؤشر، ليصل إلى 200 مليار دولار كحد أدنى، بآليات أهمها مواصلة جهود وسيط الجمهورية في رفع العراقيل عن المشاريع الاستثمارية، سواء ما تعلق بقطاع الصناعة أو القطاع الفلاحي، ومواصلة محاربة البيروقراطية وتبسيط الإجراءات من خلال القرارات المختلفة التي صدرت عن مجالس الوزراء المقدر عددها حوالي 22 اجتماعا خلال السنة بمعدل اجتماع كل أسبوعين، من أجل تفادي عرقلة سير المؤسسات والمجمعات الاقتصادية، وتمكينها من تحقيق الأهداف المسطرة.
هذا على الصعيد الداخلي، وباعتبار أن الاقتصاد الوطني يتأثر بمحيطه الدولي، خاصة وأن السلطات العمومية قد ركزت كثيرا على تشجيع الشراكة الأجنبية في المقاربة الاقتصادية الجديدة لبلادنا. في رأيكم، ما التدابير الواجب اعتمادها من أجل تحقيق ذلك؟
قبل الإجابة على السؤال، أوّد أن أثمن من خلال منبركم الإعلامي هذا، استحداث منصب الملحق الاقتصادي بالسفارات الجزائرية المتواجدة في مختلف دول العالم، وهي مبادرة يمكنها أن تفتح المجال للتفكير في استحداث وزارة للدبلوماسية الاقتصادية، تأخذ على عاتقها مهمة الترويج للوجهة الاستثمارية الجزائرية وتبسيط إجراءات التعامل بين الشريك الأجنبي ومختلف المؤسسات المحلية العمومية منها والخاصة، دون تمييز، في ظل استراتيجية تقوم على الانفتاح على الاقتصادات العالمية، وفتح باب الشراكة والاستثمار على مصراعيه، كإرادة سياسية حقيقية تؤكدها سلسلة التعديلات التنظيمية التي طالت كل المجالات، نذكر منها، الاستثمار، الصفقات العمومية، الجماعات المحلية. وهذا من أجل تكييف القوانين المعمول بها حاليا والتحولات التي طرأت على الاقتصاد العالمي، وطالت الاقتصاد الوطني كنتيجة حتمية، أهمها التطور التكنولوجي والرقمنة التي شملت كل الميادين، على رأسها قطاع المالية، حيث تتأهب الجزائر، حاليا، لاستحداث عملة رقمية، وتحيين قانون النقد والقرض مما سيتيح فتح فروع للبنوك الجزائرية في الخارج، سيتعدى دورها من سحب وإيداع الأموال وتحويل المدفوعات بالعملة الصعبة، إلى العمل على زيادة حجم الاستثمارات المتدفقة إلى الجزائر ورفع الصادرات نحو الدول المتواجدة فيها، كدعم لمساعي الدبلوماسية الاقتصادية في مرافقة المستثمرين الأجانب، وخلق شبكة علاقات اقتصادية مع رجال المال والأعمال والهيئات الحكومية، من خلال توفير معلومات حول السوق الجزائرية وفرص الاستثمار بها وإمكانية تمويل هذه الأخيرة ومرافقة الجالية الجزائرية في الخارج. كما يجب أن تلعب دورها في التصدير، بدءا بتمويل المهتمين بفتح مساحات تجارية في الخارج، للتعريف بالمنتج الوطني، تجسيدا لأوامر رئيس الجمهورية التي تشدد على الدفع بهذا الأخير إلى العالمية.
عزم السلطات العمومية على الوصول إلى معدل نمو من رقمين، وناتج داخلي خام يفوق الـ200 مليار دولار، سيتطلب حتما تعبئة قطاعات أكثر مردودية دون الأخرى، كمحركات نمو. ما هي في نظركم القطاعات المعوّل عليها في دفع الاقتصاد الوطني إلى منطقة الأمان؟
هناك عدة قطاعات تمثل محركات نمو بالنسبة للاقتصاد الوطني، فرغم التأكيد على ضرورة تنويع هذا الأخير، يبقى قطاع الطاقة، القطاع الأهم الذي يتطلب المزيد من الاستثمارات بالنظر إلى ما يضخ من عملة صعبة، تساهم بشكل كبير في إنعاش الخزينة العمومية. يليه قطاع الصناعة، كأحد أهم القطاعات المربحة التي من شأنها المشاركة في الرفع من الناتج المحلي الخام، وقد أكدت السلطات العمومية على رفع مساهمته من 5% إلى 15%، معتمدا في ذلك بشكل أساسي على الصناعات الميكانيكية، التي بلغت قيمة استثماراتها 15 مليار دولار، بالإضافة إلى ما يمكن أن توفره من مناصب شغل. ومن أجل تعزيز أداء هذا القطاع، يجب إعادة هيكلة القطاع العمومي التجاري بشكل يدعم عمل المجمعات الصناعية الكبرى ويرفع من مردوديتها. بالإضافة إلى دعم الصناعات الالكترونية والكهرومنزلية.. قطاع الفلاحة كذلك بإمكانه، هو الآخر، المساهمة في رفع الناتج الداخلي الخام وفي هذا الصدد، يجدر التفكير في ندوة وطنية للإنعاش الفلاحي، بالتنسيق مع كل الفاعلين في القطاع من جمعيات ومنظمات واسترجاع العقارات الفلاحية غير مستغلة، ورفع العراقيل عن المشاريع الفلاحية التي تواجه مشاكل تحول دون تجسيدها، مع إطلاق الوكالة الوطنية للعقار الفلاحي.
قطاع السياحة بدوره ستكون له قيمته المضافة خاصة في ظل المساعي التي تبذلها وزارة السياحة من خلال البحث عن شركاء للاستثمار في هذا القطاع لا سيما الشريك القطري، كما أن إجراءات اعتماد تأشيرة التسوية التي اعتمدها الجزائر مؤخرا بمناسبة احتفالات رأس السنة، لقائدة السياح الأجانب المهتمين بالسياحة الصحراوية، حيث تم منح التأشيرات مباشرة على مستوى المطارات، لفائدة السياح الأجانب. كما نأمل تكرار هذه التجربة الناجحة في البطولة الإفريقية «شان»، والتفكير مستقبلا في التأشيرة الجماعية الخاصة بالوفود، كتبسيط للإجراءات من أجل الترويج للوجهة السياحية الجزائرية.
جعل القطاعات التي ذكرتموها محركات للنمو، حسب تأكيدكم، يتطلب تسييرا يستجيب لمتطلبات المرحلة ويتوافق ومعطياتها، أليس كذلك؟!
أكيد، يجب تطبيق قواعد المناجمنت في تسيير المؤسسات الاقتصادية في كل القطاعات التي تعتمد على المورد البشري وتحسين الأداء، من خلال التشجيع والتكوين والتحفيز المستمر للعامل كمتغير ثابت في معادلة الإنتاج، إلى جانب اعتماد الفكر الاقتصادي بدل التسيير الإداري الذي أثبت عدم صلاحيته للمقاربة الاقتصادية الجديدة التي تبنتها بلادنا، من أجل تحقيق السيادة الاقتصادية والتموقع بين الاقتصادات الآمنة من مخاطر التحولات التي يعرفها العالم، حيث الجوع مصير من ليس قادرا على إنتاج ما يستهلك. لابد من التخلص من الممارسات القديمة التي تحولت إلى قوانين، بحكم تراكم الزمن عليها، فلا يمكن للموانئ، مثلا، أن تستمر في العمل بأسبوع مكون من خمسة أيام ويوم مكون من ثماني ساعات، حيث ساعات التوقف تكبد الكثير من الخسائر للخزينة العمومية. كما يجب تحديد القطاعات المتشبعة لتصدير الفائض من إنتاجها، تنفيذا لتعليمات رئيس الجمهورية بضرورة بلوغ 10 ملايير دولار، صادرات خارج المحروقات، وهنا أؤكد على ضرورة استغلال صندوق ترقية الصادرات، الذي لا يستغل إلا نسبة 2 بالمائة من طاقته المالية- حسب آخر تقرير لمجلس المحاسبة-.
لاحظنا مؤخرا زيارات مكوكية للطاقم الحكومي إلى الولايات الجنوبية، خاصة الجديدة منها، للإشراف على وتيرة الاستثمار بها، هل يعني ذلك أن الجنوب الجزائري قد بدأ بكشف أوراقه الرابحة كصانع للثروة ورافع للاقتصاد الوطني؟
أولاً نثمن الجهود التي تبذلها الدولة من خلال وزارة الداخلية والجماعات المحلية فيما يخص رفع العزلة عن ولايات الجنوب، بما فيها الحدودية، حيث يجب وضع مخطط اقتصادي، مرفقا بكل الهياكل الأمنية والإدارية لكل ولاية بحسب خصوصيتها الطبيعية وتحديد مؤشراتها الاقتصادية، لجعلها ولايات منتجة، تعمل وفق ورقة طريق تعتمد على خلق الثروة وتحقيق استقلالية مالية تحررها من التبعية لصندوق الضمانات والتضامن للجماعات المحلية. أما بالنسبة للولايات الحدودية التي تتمتع بمعابر حدودية، يمكن استغلالها في إنعاش التجارة البينية الحرة، لرفع الصادرات، إنعاش السياحة الصحراوية والصناعات التقليدية، وهو ما يمكن تسميته باقتصاد المعابر. وهو ما أكده وزير الداخلية والجماعات المحلية، إبراهيم مراد خلال زيارته التفقدية إلى ولاية «إن قزام» ومعاينته للمعبر الحدودي حيث اطلع على عرض إعادة تأهيله، حيث صرّح أن المنطقة ستكون محورا هاما نحو العمق الإفريقي. كما قدمت التظاهرة الاقتصادية «الاسيهار» بتمنراست، صورة قوّية عن مدى إمكانية مساهمة المناطق الحدودية في تنمية التجارة البينية وترقية المبادلات التجارية من وإلى بلدان الجوار ودول الساحل، من خلال اقتصاد المعابر.
قطاع اقتصاد المعرفة والمؤسسات الناشئة، قطاع افتك أهمية كبرى في الخارطة الاقتصادية للبلاد من حيث الأولوية، خاصة وأن محركه الأساسي هم شباب، وضع رئيس الجمهورية كل ثقته في قدرتهم على استلام المشعل وصناعة الغد. وسخر لهم من الإمكانات المالية والهيكلية ما يسهل مهمتهم في بناء الاقتصاد الوطني. ما رأيك؟
أوافق هذا الرأي تماما، إلا أن التركيز على كم المؤسسات المبرمج بعثها، لا يجب أن يتحقق على حساب نوعية المشاريع وجودتها. حيث لا ينبغي أن تحيد المؤسسات الناشئة عن غايتها الأساسية المتمثلة في تكثيف النسيج الصناعي والابتكار المتواصل من أجل تطوير الإنتاج. والسبيل إلى ذلك يكون بدعم القطاع، بحاضنات أعمال ومسرّعات وضمان التمويل. وهنا يجب أن أوضح أن صندوق ضمان تمويل المؤسسات الناشئة، كمؤسسة تمويل وحيدة لهذا النوع من المؤسسات غير كاف، إذ يجب فتح المجال أمام الخواص من أجل إنشاء صناديق تمويل خاصة تساهم في رأس مال المؤسسات الناشئة… لابد من تطوير رؤية إستراتيجية من أجل تعزيز مساهمة هذا القطاع في رفع الناتج الداخلي الخام من خلال هياكل دعم ومرافقة، لا يقتصر دورها على إطلاق المؤسسات الناشئة فحسب بل يتعداه لضمان ديمومتها واستمراريتها من خلال خلق نظام بيئي لريادة الأعمال، يتكون من حاضنات أعمال تشمل جميع القطاعات، بما فيها مراكز التكوين المهني من أجل تشجيع هذه الفئة على خوض مجال ريادة الأعمال. وفي هذا الصدد وزارة التكوين المهني مطالبة بإنشاء مشروع قانون خاص بإطلاق حاضنات أعمال على مستوى مراكز التكوين المهني. بالإضافة إلى مقترح لإنشاء أول مسرع أعمال جامعي وآخر مهني خاص بفئة المتربصين بمراكز التكوين المهني. وكذا إنشاء عدد أكبر من مخابر التصنيع التي تهتم بها التجارب الأولى لمنتجات أصحاب المشاريع المبتكرة. بالإضافة إلى العمل على إبرام عقود شراكة مع عمالقة الصناعة التكنولوجية مثل ميكروسوفت ومحركات البحث من أجل اكتساب خبرة أكبر.