لم يتح لنا – بحمد الله – أن نزور مستشفى مصطفى باشا منذ زمن طويل، ولا نعرف إن كان ينبغي أن نفرح بزيارتنا له، فالأوجاع، على تراكمها، بدت لنا كأنها واحدة من النعم، ونحن ندخل قسم الاستعجالات بالمستشفى، ونكتشف عالما جديدا لم نعرفه من قبل، فقد تعوّدنا عليه قبل هذا.
وقد تراكم الناس في حجراته المظلمة، وتزاحموا في أجوائها الخانقة، غير أننا في هذه المرة، وجدناها منيرة مستنيرة، ووجدنا العاملين بها مشرقين بسّامين، يحرصون على الترحيب بالموجوعين، والتخفيف عنهم بكلمات طريّة، ولقد تواترت أمامنا مظاهر “تطوّر” عجائبي لم نعرفه من قبل، حتى ظنّنا أننا في حلم جميل..
ولقد أصبنا بالحبسة، (وهي عدم القدرة على النّطق)، حين وجدنا عامل الاستقبال يطلب منا بطاقة التعريف، ثم يضعها في قارئ مرتبط بالكمبيوتر، ثم يصبر هنيهة أو بعض هنيهة، ليتلو علينا تفاصيل بطاقتنا البيومترية، ثم يطبعها في ورقة متقنة التركيب، جميلة الإخراج، ويسلم لنا رقما يضعنا في تراتبية أمام قاعة الفحص، وهي تراتبية تضمنها شاشة العرض، ولا يتغيّر بها الترتيب إلا إذا جاءت حالة صعبة لا قدرة لها على الانتظار..
وفي كلّ حال، لا يسلم الحلم الجميل من كابوس يخترقه، فالنّظام المفروض على قاعة الاستعجالات، والأسلوب الرقمي المعتمد، لم يمنع (الزبائن) من ممارسة “الرياضة القديمة”، و«العادات المستهلكة”، ولقد تراكم جمع من الناس أمام قاعتي الفحص، وتزاحموا، رغما عن وجود مقاعد من ألمنيوم فاخر، ورغما عن سابق علمهم، بأن المرور إلى قاعة الفحص يقتضي إظهار الرقم المطابق للمعروض على الشاشة، بل إن هناك في (المتراكمين) من يحاول خداع “الشاشة” بالصراخ والعويل، وبعض (المسرح) الساذج..
الرقمنة تسهّل الحياة، والحياة تكون أجمل حين يلتزم الأحياء بالحياء..