بن يوسف بن خذة وطني لم يتمسك يوما بالمناصب، ولم يكن جهويا بل كان يؤمن بالوحدة الوطنية، ومعروف بسداد الرأي، وكثيرا ما كانت تدخلاته في المفاوضات مع فرنسا تُحرج الرئيس الفرنسي، شارل ديغول، متمسكا باللغة العربية.
ترك بن خدة كتبا قيمة للمهتمين بالتاريخ، حسب ما أكده باحثون، في ندوة نظمتها المنظمة الوطنية للمحافظة على الذاكرة وتبليغ رسالة الشهداء، بالتنسيق مع جامعة الجزائر01، اليوم بمقر الجامعة، بمناسبة الذكرى الـ20 لوفاة المجاهد ورئيس الحكومة المؤقتة، بن يوسف بن خذة.
أشاد رئيس جامعة الجزائر01، فارس مختاري، بشخصية المجاهد الفذ بن يوسف بن خذة، وتضحياته من أجل تحرير الجزائر من أغلال الإستعمار كغيره من الزعماء الجزائريين.
وقال البروفيسور مختاري: “الجزائر أمانة الشهداء والمجاهدين، بفضلهم ننعم بكل معاني الحرية والإستقلال، يجب علينا صيانة الأمانة ونرتقي ببلدنا كجامعة ونخبة متعلمة إلى مصاف الدول المتقدمة”.
وأوضح محمد خذري، رئيس المنظمة الوطنية للمحافظة على الذاكرة وتبليغ رسالة الشهداء، أن هذه الأخيرة تسعى للمحافظة على الذاكرة الوطنية من خلال تنظيم مثل هذه الندوات التاريخية والأيام الدراسية الموجهة لفئة الطلبة والشباب، من أجل غرس القيم النبيلة في نفوس جيل اليوم للتعرف على رموز الثورة الجزائرية، خاصة في ظل الرهانات والتهديدات الإقليمية التي نعيشها اليوم.
وشدد رئيس المنظمة على ضرورة الاهتمام بالذاكرة، لمواجهة التحديات والمتغيرات الراهنة، وأشار إلى أن الندوة المنظمة تخليد للمجاهد الراحل بن يوسف بن خذة، تندرج في إطار البرنامج الوطني للمحافظة على الذاكرة، وأن هناك برنامج سنوي متنوع تعمل على تجسيد المنظمة.
وأبرزت الدكتورة نبيلة عبد الشكور، أستاذة التاريخ من جامعة الجزائر02، أن بن خذة من خيرة ما أنجبت الجزائر، رجل سياسي بامتياز، مجاهد بالسلاح والقلم، ترك مؤلفات قيمة يستفيد منها الباحثون وهي عصارة تجربته في الحركة الوطنية وثورة أول نوفمبر 1954.
تطرق الدكتور مصطفى عبيد، إلى محطات في نضال بن خذة وقال إنه لو كتبنا مجلدات حول هذه الشخصية الوطنية، لما أعطيناه حقه، وأكد أن الفقيد لم يكن تفكيره جهوي، بل كان يؤمن بالوحدة الوطنية، ويكره أن يقال له إنك ابن منطقة البرواقية، فيقول إنه جزائري.
وأشار المحاضر إلى أن بن خذة، يعبر عن ارتباط جيل نوفمبر بجيل الشاب والطلبة، أملا في أن يكونوا خير خلف لخير سلف يعملون على أن تكون الجزائر رائدة بين الدول.
وأضاف الأستاذ عبيد أن بن خذة من مواليد 23 فيفري 1920 بالبرواقية، تربى تحت القهر الإستعماري كغيره من الجزائريين إبان الاحتلال، درس باللغتين العربية والفرنسية، هذه الأخيرة أهلته لمواصلة دراسته على اعتبار ان التعليم انذاك كان فرنسيا.
وأكد المحاضر أن رئيس الحكومة المؤقتة ابان الثورة، تعلق باللغة العربية ما سمح له بحفظ القران الكريم وتكوين معمق في الإنتماء الى هويته وبيئته، وحصل على البكالوريا في ثانوية البليدة ابن رشد حاليا سنة 1943، ودخل كلية الطب بجامعة الجزائر التي تحمل اسمه اليوم.
وأشار إلى أن بن خذة، سجن 8 أشهر وهو في المرحلة الثانوية، بسبب مشاركته مع الشبيبة الجزائرية بالبليدة في حملة لمنع التجنيد الإجباري، الذي فرضته الإدارة الإستعمارية على الجزائريين.
متميز في التنظيم والإعلام
انخرط بن خذة في الحركة الوطنية بحزب الشعب الجزائري رفقة محمد لمين دلاغين، وأحمد محساس، وكان أحد مهندسي مظاهرات 8 ماي 1945 والمدافعين عنها، لم يكن يتخذ القرارات لوحده، متميز في التنظيم والإعلام يخطط لهما بدقة عالية، تحصل على تكوين سياسي عميق في حزب حركة الانتصار للحريات الديمقراطية الذي خلف حزب الشعب الجزائري، وعمل على توصيل العمل السياسي والثوري الى كل أطياف الجزائريين دون علم إدارة الاحتلال، رغم المخاطر.
أكاديميٌ راقٍ
تطرق الدكتور عمر بوضربة، الى الجانب الدبلوماسي ودور بن يوسف بن خذة في الثورة التحريرية في الفترة 1955-1962، وقال إن المجاهد صيدلي التكوين اضطرته ظروف البلد لأن يهجر تخصصه من أجل تحرير الجزائر، تدرج في المسؤوليات بحزب الشعب الجزائري من مناضل بسيط إلى أمين عام بالحزب في عهدتين.
وأضاف أن بن خذة، سجل حضوره بقوة في تاريخ مسار حركة الانتصار للحريات الديمقراطية، وكان من الجيل الذي انضم الى التيار الإستقلالي إثناء الحرب العالمية الثانية وبعدها، وكان له دور كبير في إحداث التحول من النضال السياسي الى الفعل العسكري.
وأكد بوضربة أن المجاهد وطني غيور ضحى من أجل القضية الجزائرية، استفادت قيادة الثورة من ثقافته وساعد في تأطير الطلبة وتجنيدهم خدمة للثورة، وكان له دور كبير في إضراب 19 ماي 1956، وتمويل الثورة بالإطارات التي كانت تحتاجها في المجال العسكري، الصحي، والإتصالي، واطارات بالخارج تعمل على ايصال صوت الثورة دبلوماسيا.
كانت له مهمات في أوروبا والدول العربية من اجل تمهيد اقامة بعثات لجبهة التحرير الوطني بالخارج.
وفي 9 سبتمبر 1958 كانت له مهمة في لندن، وعُين غيابيا وزيرا للشؤون الاجتماعية في أول حكومة مؤقتة، وزار أيضا موسكو في 1958 وإلتقى نائب الأمين العام للحزب الشيوعي السوفياتي للحصول على الدعم للثورة. زار الصين في 1958 و1959، وكانت له لقاءات مطولة مع زعيم الثورة الصينية الشيوعية ماوتسي تونغ وحصل منه على مساعدات مادية لصالح الثورة الجزائرية.
وأبرز المحاضر الدور البارز لبن خذة في المفاوضات مع الطرف الفرنسي، حيث كانت إقتراحاته صائبة وردود فعله على المناورات الديغولية، وكثيرا ما أحرج الدبلوماسية الفرنسية، ما ينم عن عمق تفكير ومستوى أكاديمي راق، مثلما قال بوضربة.
وأشار المتحدث إلى أن الذي يطّلع أرشيف الثورة الجزائرية وحتى كتابات بن خذة يدرك هذه الخاصية، وقال: “اطلعت على محاضر اجتماع الحكومة المؤقتة لسنة 1959، لاحظت من خلال تدخلاته أنها كانت عميقة وصريحة، تأخذ بها الحكومة المؤقتة من خلال ردودها على المناورات الديغولية كانت كثيرا ما تحرج الدبلوماسية الفرنسية، وهذا تجسد من خلال اقتراحاته فيما يتعلق بالرد على مقترح ديغول سلم الشجعان في أكتوبر 1958، وبحق تقرير المصير في سبتمبر 1959، وكثير من المناسبات الأخرى”.
وأضاف أن اقتراحات بن خدة، وردوده كانت تنمُ عن عمق تفكير ومستوى أكاديمي راق، وعن وطنية متقدة وإخلاص ونزاهة.
وأبرز المتحدث الفكرة بقوله إن بن خدة عندما عُزل عن الحكومة المؤقتة الثانية لم ينتفض ولم ينخرط في معارضة، وإنما قدم للثورة خدمات، لأنه كان يعتقد بأنه سواء كان في الواجهة أو في الظل فانه يقدم خدمة لثورته ووطنه في سبيل استقلال الجزائر.
إسهامات جليلة في تاريخ الحركة الوطنية والثورة
وقال الباحث أيضا: “أثبت وطنيته، وتجرده وعدم تمسكه بالمناصب، لما جاءت صائفة 1962 تنازل عن الحكم حقنا للدماء ودرأ الفتنة، استقال من قيادة الحكومة المؤقتة واعتزل بعدها ممارسة السياسة، وعاد إلى تخصصه الصيدلة والى البحث التاريخي فيما يتعلق بالحركة الوطنية وثورة التحرير “.
وأضاف: “بن خذة قدم خدمات جليلة للباحثين، كتب خمسة كتب مهمة جدا في تاريخ الحركة الوطنية، أولها جذور أول نوفمبر 1954 واتفاقيات ايفيان وإسهام عبان رمضان وبن مهيدي في الثورة، أزمة صائفة 1962 كتابات مهمة جدا لا يمكن الاستغناء عنها في الحركة الوطنية وثورة التحرير”.
توفي بن يوسف بن خذة يوم 4 فيفري 2003، عن عمر ناهز 83 سنة.