يعتبر تحقيق الأمن الغذائي والنهوض بقطاع الفلاحة وتطويره، من بين الرهانات الكبرى التي تسعى الجزائر إلى كسبها من خلال وضع استراتيجيات مرتكزة على البحث العلمي والاستشراف، إضافة إلى وضع القوانين التشريعية والوسائل المادية والبشرية اللازمة، وإيلاء اهتمام دائم وأكبر باقتصاد المعرفة، حسب ما أفصح عنه خبير الاقتصاد والابتكار وعضو في المجلس الاستشاري العلمي في منظمة التعاون الاسلامي البروفيسور عبد القادر جفلاط، في حوار خصّ به « الشعب».
«الشعب»: ماذا نعني بـ»اقتصاد المعرفة» وكيف يمكن استخدامه لتعزيز التنمية بشكل عام والزراعة بشكل خاص؟
البروفيسور عبد القادر جفلاط: ابن خلدون من الأوائل الذين تطرقوا إلى مسألة المعرفة في مقدمته الشهيرة، وحسبه، يعتبر التعليم والتدريب أو التكوين (الولوج إلى العلم) من الحاجيات الطبيعية لأفراد المجتمع، وعليه، لا يعتبر اقتصاد المعرفة ظاهرة غريبة عن ثقافتنا. بالنسبة لي اقتصاد المعرفة هو قوة تجنيد كل مناجم المعرفة لصالح النمو، التنافسية والتنمية الاقتصادية والاجتماعية.
ما هي الحصيلة التي تقدمها عن اقتصاد المعرفة في الجزائر ما بين واقع، رهانات وآفاق؟
لقد سجلت الجزائر تأخرا فادحا بالنسبة لاقتصاد المعرفة كمصطلح؛ وكآلية سياسة عمومية للتنمية. فإذا أخذنا المؤشرات التي تقيس مكانتنا حسب الترتيب العالمي: في 2012، لم يتعدّ ترتيب الجزائر 3.79 على 10، محتلة بذلك المرتبة 103. ما يميز السياق الحالي، ومنذ وصول الرئيس عبد المجيد تبون إلى السلطة، صار لدينا حاليا هيئة مخصّصة لاقتصاد المعرفة، وهي الوزارة المنتدبة لاقتصاد المعرفة والمؤسسات الناشئة والتي أصبحت بعد ذلك وزارة في حد ذاتها. وتمّ إحراز تقدّم في بعض ركائز هذا الاقتصاد على غرار ركن تكنولوجيات الإعلام والاتصال والذي أصبح يسمى بالرقمنة، وهي الأكثر تقدما لعدة أسباب، في حين يبقى ركن الابتكار الذي يعتبر محرك هذا الاقتصاد في بداياته، لكن المؤسسات الناشئة التي تعتبر شكلا من أشكال تجسيد هذا الاقتصاد، عرفت تقدما للأمام، وعليها الآن المضي قدما من حيث التمويل والديمومة كمؤسسات كاملة الأهلية.
هل يمكن القول، إن اعتماد اقتصاد المعرفة في المجال الفلاحي وتربية المواشي وإنتاج اللحوم والأسماك يخدم مشروع تحقيق الاكتفاء الذاتي والأمن الغذائي؟
تماما، يجب أن نعلم أن عالم الفلاحة وإنتاج الثروة الحيوانية يعتمد كليا على الأبحاث والدراسات العلمية في العلوم الزراعية، ولكن يعتمد أيضا على علوم أخرى كالكيمياء، والمعلومات التي نمتلكها في مجال الخدمات اللوجستية للحفظ، التخزين والتوزيع، بالإضافة إلى مجالات أخرى. فإذا كانت معارفنا ومعلوماتنا لا ترقى إلى المستوى المطلوب، أو تقادمت عبر الزمن، فإن المجال الفلاحي سيعاني حتما، كما يمكن الاستفادة من خبرة ومعلومات الفلاحين المكتسبة في هذا المجال، والتي تأتي أحيانا من ممارسات الأسلاف والتوريث من جيل إلى جيل، والتي لا تقل أهمية، وتسمى «المعرفة الضمنية»، التي تتعلق بذات الشخص، أي ما يتناقله الأشخاص في رؤوسهم ونتاج خبرة مكتسبة في المجال. الأمر الذي يدفعني إلى استخدام مفهوم مناجم أو مخازن المعرفة Les Gisements de la connaissance
كيف يمكن ربط العالم الأكاديمي، أي البحث العلمي، بمجال الفلاحة وتربية المواشي والأسماك؟
من الممكن جدا ربط العالم الأكاديمي بالمجال الفلاحي. يمكن للعالمين التحدّث والتواصل مع بعضهما البعض بسهولة لوضع الخطوات اللازمة. قبل كل شيء، يجب أن نعلم أنه إذا كان هناك قطاعا شهد تغيرات عميقة بفضل البحث العلمي في العالم، فهو القطاع الفلاحي الذي يغطي جميع المجالات الفلاحية من تربية دودة القز، اختيار السلالات، المغذيات والأمراض التي تصيب كل من المحاصيل والحيوانات. يعتبر القطاع الفلاحي مجالا واسعا يمكن أن تساهم فيه جامعاتنا عبر تخصصات مختلفة. إضافة إلى المعاهد المتخصصة، ومراكز البحث في الهندسة الزراعية. وتظل مسألة الارتباط حاسمة؛ فهي تعني جميع المجالات وليس الفلاحة وحسب. وهنا، وجهة نظري تكمن في ضرورة التفكير من منظور «نظام». فإذا اعتمدنا هذه الرؤية، سيتبين لنا بسرعة ما هي الروابط الواجب إنشاؤها بين مختلف الفاعلين في العالم الفلاحي، بما في ذلك مسهلي التواصل بين العالمين، مما يمكن من تحديد الروابط المفقودة في النظام.
حدثنا عن الإصدار المشترك بينك وبين الدكتور رشيد بن عيسى وزير الفلاحة السابق، الموسوم بـ»اقتصاد المعرفة والتنمية الريفية: التجربة الجزائرية».. كيف جاءت هذه الفكرة وكيف تحققت بعد ذلك؟
أولا، عليك أن تعلمي أن هذا الكتاب هو نتاج لعملية بدأت منذ عام 2006، وهي تعتبر ثمرة قناعات مشتركة وتجارب غنية مختلفة، لكنها متقاربة جعلت مساري المهني الأكاديمي يلتقي عام 2006، بمسار الدكتور رشيد بن عيسى الوزير المنتدب للفلاحة والتنمية الريفية آنذاك، وكان هذا اللقاء في إطار الملتقى الأول حول اقتصاد المعرفة الذي انعقد بجامعة مستغانم، ومنذ ذلك اللقاء لم ينقطع تبادلنا الفكري. وفي عام 2020، حين أشاد رئيس الجمهورية بمكانة وأهمية اقتصاد المعرفة في رسم إستراتيجية التنمية في الجزائر الجديدة، ارتأينا، أنا والدكتور رشيد بن عيسى، أنه من المفيد تسخير الوقت لتدوين الخبرات التي عشتها بصفتي مستشارًا أكاديميًا ودوليًا، ورشيد بن عيسى بصفته صانع القرار والفاعل الميداني، حتى تكون بمثابة مرجعية لصانعي القرار اليوم لصالح قطاع حيوي لبلدنا اقتصاديا، اجتماعيا وسياسيا.
ماذا بعد نشر هذا العمل المشترك، هل من مشاريع أخرى؟
على غرار أي عمل يُقصد به أن يكون ذا منفعة عامة، ترتبط الخطوات القادمة أساسا بنشر أعمالنا وأفكارنا بما أن الزراعة تهم الجميع، فهي مصدر غذائنا، يجب أن يكون اقتصاد المعرفة أيضًا موضع اهتمام الجميع؛ لأننا جميعًا صانعو قرار وأوصياء على هذا الرأسمال المعرفي الوطني.. إن تعميم هذا المصطلح الجديد ضروري خاصة على مستوى اتخاذ القرار وهذا يؤثر على كل من هيئات الدولة والمؤسسة التي تعتبر الفاعل الرئيسي في إنتاج الثروة والعمالة والقدرة التنافسية للأجر. رجال الإعلام مثلك، والصحفيون لديهم مهمة ضخمة للقيام بها لنشر ثقافة اقتصاد المعرفة.
لقد كانت لكم مشاركة مهمة في اليوم الدراسي الذي نُظم بجامعة وهران من طرف فريق بحث جماعي PRFU حول موضوع «قطاع الصناعات الفلاحية الصناعية في سياق اقتصاد المعرفة والفيروس التاجي-19» في 17 مارس 2022 بجامعة وهران محمد بن احمد وهران2 وأخرى في يوم علمي من تنظيم نفس فريق البحث بالتعاون مع الصندوق الجهوي للتعاون الفلاحي والفيدرالية الجزائرية للمستهلكين يوم 19 ديسمبر 2022، ما هي أهم الاقتراحات التي تقدمتم بها خلال هذين الحدثين؟
لقد قمنا بتقديم رسالة واضحة في هذا اللقاء، يمكن تلخيصها في ثلاث أو أربع نقاط: الأمن الغذائي لا يمكن حصره في الإنتاج والمردود الفلاحي الذي يحدّد مستويات تغطية احتياجاتنا الغذائية.. يثير الأمن الغذائي مسألة أساسية تتعلق بالتحكم في وسائل الإنتاج ولا سيما التحكم في التكنولوجيات المستخدمة في الإنتاج الفلاحي، قد ترتبط التبعية الغذائية بالتبعية القوية للتكنولوجيا: إذا كانت وسائل اقتناء المعدات اللازمة، وسائل صيانتها، وسائل تجديدها غير متحكم فيها محليًا، فهذا يعرض الأمن الغذائي للخطر.
لا يمكن ضمان أمننا بعيدا عن بحوث مستقلة في مجالاتنا الاستراتيجية للزراعة والغذاء. كما أن التحكم في كل ما هو رقمي ومتعلق بالزراعة واقتصاد المعرفة هو الذي يسمح بكل هذا.
أنتم تنتمون إلى فريق بحث جماعي. ما هي الأفكار والأهداف المعتمدة من قبل هذا الفريق؟
أنا عضو مؤسس لشبكة علمية تعزّز البحث الجماعي. إنها شبكة Maghtech التي أصل إنشاؤها جامعة وهران، ولكن مقرها الرئيسي حاليًا في جامعة ليل الفرنسية. هي شبكة أنشأتها في عام 1994 بدعم من عدد من الباحثين. هدفنا هو الانفتاح على التنمية التي يقودها العلم والتكنولوجيا، والابتكار والمعرفة في بلداننا. قيمها الرئيسية هي تقاسم العلم إلى أقصى حد. وتهدف أيضا إلى تنوير صانعي القرار من خلال البحث العلمي، وكذلك ترقية التميز في عملنا العلمي من أجل رفعه إلى المستوى العالمي. وأخيرًا الهدف من هذه الشبكة هو التنقيب عن المواهب البحثية الشابة. في هذا الصدد، ننوّه بآننا استلمنا في فريقنا ومختبرنا أكثر من ثلاثمائة طالب دكتوراه للتدريب الداخلي يتراوح من أسبوعين إلى شهرين. لقد تطوروا جميعًا بشكل جيد في حياتهم العلمية والمهنية، حتى إن بعضهم أصبحوا من كبار الباحثين المشهورين عالميًا.
كلمتك الأخيرة؟
كلمتي الأخيرة أوجهها خاصة للشباب، وأدعوهم إلى تعزيز معارفهم ومهاراتهم من خلال خوض هذه الموجة من الثورة الرقمية. لكن أن يكون لديك سلوك سوي وأخلاقي راق من أجل تحقيق النجاح.