لخّص المدير العام لليقظة الإستراتيجية بوزارة الصناعة، بشير كشرود، الرّهان القائم حول الأمن الغذائي في مقولة: “لا خير في أمّة تأكل ممّا لا تنبت وتلبس ممّا لا تحيك”، ليؤكّد على أنّ الاكتفاء الذاتي قضية الجميع، وأنّه يمثل نقطة تقاطع بين قطاعي الصناعة والفلاحة.
أصبح الأمن الغذائي مؤشّرا مهمّا على استقلالية الدول، ولقد جعله رئيس الجمهورية، السيد عبد المجيد تبون، خطّا أحمر، ومنع كل مساس بأقوات الجزائريّين، فالرّئيس التزم بمنح المواطن حقه، ولن يتسامح مطلقا مع أي مساس به.. إنّها الرّسالة التي تلقاها الجميع بوضوح واطمأن إليها المواطن.
الشعب: تحول التّنافس بين دول العالم بعد جائحة كورونا، من التّسابق نحو التسلح إلى التسابق نحو ملء مخازن القمح، وتحقيق الاكتفاء الذاتي لمواطنيها، والجزائر ليست مستثناة من هاجس توفير الغذاء والتنافس من أجل تأمينه. كيف ترون ذلك؟
مدير اليقظة الإستراتيجية بوزارة الصّناعة بشير كشرود: الحديث عن الأمن الغذائي أضحى محورا استراتيجيا في ظل التغيرات الجيو-استرتيجية التي عرفها العالم، ممّا أدى إلى انشطاره إلى أقطاب اقتصادية جديدة غيّرت من موازين القوى، وأجبرت الدول على إعادة النظر في سياساتها الاقتصادية التي وجّهت تركيزها نحو التنمية المستدامة التي يعد الأمن الغذائي أهم مقاصدها، ومؤشرا رئيسيا لاستقلاليتها وضمان استمراريتها، فمفهوم الأمن الغذائي حسب منظمة الأغذية والزراعة “الفاو”، يعنى أن تتاح لجميع الأفراد، في جميع الظروف الزمنية والمكانية، الفرص المادية والاجتماعية والاقتصادية، للحصول على غذاء مضمون وكاف يستجيب لاحتياجاتهم الصحية والغذائية. ما يعتبر حقا إنسانيا وعاملا مهما لتحقيق الأمن الاجتماعي، والتوازن في تحقيق البرامج التنموية وضمان استمراريتها، حيث أصبح النقص حكما حتميا لأي إستراتيجية لا تأخذ بعين الاعتبار تحقيق الأمن الغذائي للبلاد. وتجدر الإشارة إلى أنّ الأمن الغذائي مرتبط بالدرجة الأولى بالقطاع الفلاحي، والنتائج التي يحققها من اكتفاء ذاتي أو فائض في الإنتاج، يسمح بالذهاب إلى التصدير وتحصيل مداخيل إضافية من العملة الصعبة تمكّن من إنعاش الخزينة العمومية، لكن الأكيد، ورغم الجهود المبذولة، يبقى من الصعب لأي بلد كان، الاعتماد على إمكاناته فقط بمعزل عن محيطه الدولي، وتبقى الاستقلالية الغذائية نسبية، تعمل جميع الدول على الرفع من مستوياتها من خلال محاولتها تحقيق أكبر قدر ممكن من الاحتياجات.
ما الذي يجعل هيمنة القطاع الفلاحي – في نظركم – مؤشّرا مسيطرا في تحديد مدى إمكانية تحقيق الأمن الغذائي؟
فعلا، ما جعل القطاع الفلاحي يتمتّع بأهمية مسيطرة في عملية تحقيق الأمن الغذائي، يعود إلى كونه نقطة انطلاق لكل العمليات الإنتاجية المتعلقة بغذاء المواطن، حيث تجمع الاستثمارات على مستوى هذا الأخير وقدرة المؤسسات الاقتصادية على تحويل الإنتاج الفلاحي سواء نباتيا كان أو حيوانيا إلى مادة استهلاكية، علاقة طردية متكاملة فيما بينها. فكلّما كان الطلب على المنتوج الاستهلاكي كبيرا، ارتفعت القدرة الشرائية، ممّا يسمح بتنشيط الدورة الاقتصادية وتفعيلها، وبالتالي، ديمومة النشاط الاقتصادي وتطوره. ولن يتحقق ذلك إلا في ظل تنافسية يفرضها تعدد المنتجات المختلفة من حيث النوع والسعر المعروض على مستوى السوق المحلية والعالمية، وهنا نوضّح أنّ ثمّة عوامل تتحكّم في تكلفة الإنتاج وتحديد سعر المنتوج أهمها، طبيعة الأراضي الزراعية ومساحتها وتكلفة استغلالها، وطبيعة المناخ. كما يعتبر توفير المورد المائي من خلال إستراتيجية مائية ناجعة تعتمد على الاستعمال العقلاني لهذا المورد، من خلال استخدام التكنولوجيات الحديدة والمعدّات المتقدّمة في عملية الري، إلى جانب العمل على بعث وتطوير الزراعة الصحراوية واستغلال المياه الجوفية..ما سبق ذكره لا يعني التغاضي عن الاهتمام بالثروة الحيوانية، كرقم مهم في معادلة الأمن الغذائي، ومورد أولي لمادتي الحليب واللحوم، ومصدر نشاط للعديد من المؤسسات الاقتصادية والشركات الناشطة في مجال الصناعات الغذائية بنوعيها النباتي والحيواني.
المناخ الملائم وتوفير المساحات الزراعية والمورد المائي..هل هذا كاف من أجل تحقيق الأمن الغذائي، أم أنّ هناك عوامل أخرى تحدّد تحقيق ذلك؟
طبعا ليس كافيا، إذ يجب العمل على تكوين اليد العاملة القادرة على صنع المعجزات وتحويل الصحراء إلى مساحات خضراء منتجة، وتوجيه اهتمامات الجيل الجديد إلى الفلاحة وتكريس إيمانه بالأرض، وتوفير الأدوات التقنية الحديثة المتبعة في عمليات الحرث والبذر والري والحصاد والتخزين وانتقاء البذور. وفي هذا الصدد، نثمّن استحداث بنك جزائري للبذور ممّا سيمكّن من إحداث قفزة نوعية في مجال الاكتفاء الذاتي من البذور، بالإضافة إلى المرافقة المالية للفلاح من أجل تمكينه من مواصلة نشاطه الفلاحي، فغالبا ما يهجر الشباب، بصفة خاصة، هذا النوع من النشاط بسبب نقص فرص التمويل. كما يجب تكثيف الأبحاث العلمية في المجال الفلاحي وتشجيع الفلاح على استقدام التقنيات العلمية في العملية الإنتاجية، وتسخير فرق تحسيسية تابعة لمختلف الهيئات المعنية كالبياطرة ومهندسي الفلاحة من أجل نجاعة أكبر للإستراتيجية الفلاحية المتبعة.
هل هناك تحدّيات يواجهها تجسيد الإستراتيجية المتّبعة من أجل تحقيق الاكتفاء الذّاتي من الإنتاج الفلاحي؟ وهل للقطاع الصّناعي علاقة بذلك؟
قد يعرف الإنتاج الفلاحي تعثّرا لأسباب عديدة، أهمها عدم توفر المورد المائي، تغير أنماط الاستهلاك والتوجه إلى المنتجات الأجنبية تحت تأثير وسائل الاتصال الحديثة، من بينها وسائل التواصل الاجتماعي والعزوف عن اقتناء المنتوج المحلي، وبالتالي لابد من التكثيف من الحملات الدعائية لهذا الأخير، وتبنّي سياسة تسويقية ناجعة من أجل حماية المنتوج الوطني. من جهة أخرى، هناك علاقة وطيدة تجمع بين قطاعي الفلاحة والصناعة، حيث يجب أن يتم تطويرهما بنفس الوتيرة، وفي اتجاه متقاطع بين الاثنين، يضع المنتوج الواحد منهما تحت تصرف الآخر من أجل استيعاب حاجيات السوق المحلية، فالقطاع الفلاحي يمد الصناعات التحويلية التابعة للقطاع الصناعي بالمادة الأولية، كما يمكن لهذه الأخيرة أن تزوّد الفلاحة بالأسمدة والمعدات الفلاحية، وغيرها من المتطلبات التي تقوم عليها الزراعة. ويتدخل قطاع التجارة من أجل تموين وضبط السوق، وتنظيم حركتي الاستيراد والتصدير بما يخدم الاقتصاد الوطني ويستجيب لحاجيات المواطن. وإلى جانب الانسجام والتكامل الواجب تجسيده بين مختلف القطاعات المتدخلة في عملية إشباع حاجيات السوق المحلية، لابد من تشجيع الشراكة بين القطاعين العام والخاص وفق دفتر شروط يخدم الصناعة الجزائرية.
كيف يمكن للقطاع الصّناعي المساهمة في بعث الفلاحة من جديد وتطويرها؟
يتدخّل القطاع الصناعي بصفة مباشرة، عبر الصّناعات التحويلية التي تشمل الصناعات الغذائية، كفرع يتميّز بحركية جد نشطة. وبصفة مباشرة، من خلال توفير المكننة كعامل أساسي لقيام أي نوع من النشاط الفلاحي، حيث كانت هناك عملية دعم واسعة من حيث تزويد القطاع بالجرارات وآلات الحصاد والري، حيث سجلت الدولة دعمها الدائم والكامل للفلاح الجزائري من خلال تحملها لأعباء وتكلفة الإنتاج الحقيقة. وتتمتّع الصناعات الغذائية، التي تعرف مستوى نمو مرتفع، بإمكانيات كبيرة خاصة بعض الفروع كالمطاحن التي تفوق طاقتها الإنتاجية 2.5 بالمائة من احتياجات السوق المحلية من مادة القمح، ممّا يطرح تحديا، فتعطل الطاقة الإنتاجية للمصانع بسبب عدم كفاية المادة الأولية، يؤدي إلى زيادة تكلفة الإنتاج بسبب اللجوء إلى استيراد ما ينقص منها.