اعتبر رئيس المجلس الأعلى للغة العربية، البروفيسور صالح بلعيد في حديثه مع «الشعب» أن الوقوف عند مناسبة إحياء «اليوم العربي للغة الضاد» المصادف لـ 01 مارس من كل سنة، مدعاة للفخر من جهة، والاستثمار الفعّال في مكاسب اللغة العربية من جهة أخرى..
ربط صالح بلعيد رهانات اللغة العربية بما ينغص عليها من مضايقات وعراقيل متشعبة ومتداخلة، مسلطا الضوء على التحديات التي يراهن عليها المجلس من أجل الارتقاء بـ”العربية”، كما قدّم وجهة نظره حول واقع استعمال اللغة الأم في الإعلام الجزائري والعربي على حدّ سواء.
لغة الضاد.. تحدي الرقمنة..
أكد رئيس المجلس الأعلى للغة العربية، البروفيسور صالح بلعيد، أن كل اللغات تعاني مضايقات، على غرار اللغة العربية، قائلا إن «الانجليزية تواجّهها مضايقات تتمثل في تقلص استعمال النحو، في حين أن الفرنسية هي الأخرى بدأت تعيش مضايقات من الانجليزية، بينما الاسبانية تعرف الآن اختلافات بين اللغة القديمة الاسبانية أي اللغة القشتالية، واللغات المتفرّعة منها المتداولة بأمريكا اللاتينية والأرجنتين، إلى جانب اللغة الصينية التي لم تخرج من بيئتها، واللغة الروسية التي لم تنل مواقع إلا في دول ذات علاقة بروسيا الاتحادية، أما بالنسبة للمضايقات التي تعترض اللغة العربية، فهي الرقمنة والحوسبة، وفي عدم تمكينها من كل ما هو وارد في الخلاف ما بين القوانين وتطبيقها، أي بما يعرف بمشكلة «الأجرأة».
ويرى البروفيسور بلعيد أنه من المشكلات التي تواجه لغة الضاد هي «الإدارة»، وكما جاء على لسانه «الإدارة في حدّ ذاتها مشكلة، حيث مازالت هذه الأخيرة تسيطر في التعاملات رغم تعريبها، إلا أنها تفتقد للتمكين، نجد على أرض الواقع، وبالخصوص في مجتمعنا، أنه حتى وإن كانت الوثيقة التي في متناول الأيدي معرّبة، إلا أنها لا تسمى بمسماها، بل تعوض بكلمة متداولة تعوَّد السواد الأعظم ـ مع الأسف – على نطقها بالفرنسية»..
ويتابع البروفيسور قائلا: «نجد بأنه لا يوجد هناك ما يسمى بمقابلة المكتوب بالمسموع، وهذه في حدّ ذاتها مشكلة موجودة بالجزائر، وعليه، نحن بحاجة إلى الاستثمار في الإدارة، على اعتبار أن الوسائل الثلاث (المدرسة، الاعلام، الإدارة)، والتي تدل على رقي أو تطور أي لغة، لم تصل عندنا إلى غايتها المنشودة»، ويضيف بأن المدرسة والإعلام يؤديان دورهما كما يجب، «أما إذا قارنا الوجه العام للإدارة، سنجده عكس ما يجري على مستوى تطبيقاتها الاجرائية، فاللغة العربية مثلما يقول الفقهاء، هي وضع واستعمال، فإذا لم يكن ظاهرها كجوهرها، لا يمكن أن تصل بنا إلى تحقيق الأمن اللغوي».
وقال الدكتور بلعيد، «أجزم بأننا عندما نعيش السبهللة اللغوية، نعيش شذر مذر في خدمة الوطن، والذي نريده من خلال مساعينا هو الاستثمار اللغوي لغرس قيم المواطنة اللغوية في كل إنسان يستعمل لغته، حيث هي الهوية، وهي الماضي والحاضر، كما أنها المستقبل، وهذا هو الوفاء الذي نريد أن نقدمه للغة العربية».
ازدهار اللغة.. تعميم استعمالها
وأكد البروفيسور بلعيد أن المجلس الأعلى للغة العربية يواجه تحديات يعكف على العمل عليها ورفعها، بغية الارتقاء باللغة العربية، وذلك وفق خطة متبعة ومدروسة بكل عناية، مشيرا إلى أن المجلس يعتمد على خريطة طريق مستنبطة من نص الدستور الذي يقول: «المجلس يعمل على ازدهار اللغة العربية»، واعتبر بلعيد أن «ازدهار اللغة العربية» يشمل جميع الفنون والعلوم، حيث يتعلّق بالتطوير والشِعر والأدب.. إلخ، وباستعمال المضامين العالمية والتدخل في المدرسة، مضيفا أن اللغة لا يمكن أن تزدهر دون أن يكون لها موقع في الجامعة، أو أن لا يكون لها موقع في الصناعة، وعليه نتدخل في تحديد وتصويب أسماء الأماكن واللافتات، إشارات المرور وأخطاء الشارع، فالازدهار لا يمكن أن نحصره في ضبط ووضع المعاجم فقط، دون تطبيق أو دون تعميم استعمالها في شتى العلوم والتقانات.
رهانات المجلس الأعلى للغة العربية..
ذكر البروفيسور بلعيد أن رهانات المجلس التي يسعى إلى استكمال حلقاتها، هي استعمال الذكاء الاصطناعي، وذلك بالتركيز على البرمجيات والبث الضوئي، مؤكدا أنه بات من الضروري قبول المبادرات التي تُطرح من قبل الشباب والمزج في إطار التعاون البيني، حيث لابد من تعددية لغوية وتعددية في العلوم، والتي يرتكز طريقها على لغة اختصاص وعلم، أفكار ونظريات.. وبالإجمال ـ يواصل قائلا – هذه من أهم الأهداف التي يراهن عليها المجلس الأعلى للغة العربية، ولا يمكن للغة العربية أن تنجح إلا إذا عممت تعميما جيدا بمصطلح «الاشباع اللغوي» في المرحلة القاعدية من الروضة إلى الثانوية، وعندما يتشبع التلميذ بداية من القاعدة باللغة العربية، يمكننا اطلاعه ليتعلم أكثر من لغة فيما بعد، لكن اللغة العُمدة دائما هي لغة الأم، وأن تعمّم أيضا في الاعلام، فلابد أن الأخير يكون معاضدا ومرافقا لمرحلة الاشباع، لأن الإعلام يُعزِّز ويربي المواطنة.. يربي الوفاء للغة، ويعمل على الاشباع اللغوي والرفاهية اللغوية، وذلك من خلال ما نعرفه كمقاييس في مهارة اللغات وتعلمها، المتمثلة في السماع، القراءة والحوار.
وعن استعمالات اللغة العربية، قدم البروفيسور بلعيد الطرق الصحيحة لتحقيق ذلك، حيث ذكر بأنه لا يمكن أن تُفهم لغة إذا لم تُسمع عن قارئ مثالي وإنسان مُجيد.. «وكما هي الحال في القراءة النموذجية التي تربي فينا المنوال الصحيح إلى أن تصل لمرحلة أن نعقل فيها الأفكار بالقلم الذي يعمل على ربط القاعدة بالمكتوب، لأن القلم أحيانا يصحّح، فأذكر أنّنا في السبعينيات، عندما نحدث خطأ في المكتوب، يعاقب المعلم التلميذ بكتابة ذلك الخطأ صوابا 100 مرة، ليصبح الصواب راسخا إلى الأبد، ونطمئن إثرها إلى أن التلميذ عندما يصل إلى الجامعة سيصل مشبعا، ثم فيما بعد التدرج، بإمكانه أخذ لغة أخرى وينفتح بذلك على تعددية لغوية دون مشكلة».
وأفاد رئيس المجلس الأعلى للغة العربية، أن العمل انتقل «من مرحلة الاستثمار في التربية والتعليم، إلى الاستثمار في مرحلة تقانة المُعاصرة بما يسمى بـ»الأتمتة»، معتبرا أن التقانة تمكن اللغة من أن تكون لغة أممية، وأن تكون ندا للغات الخمس الأخرى، فاللغة الوحيدة التي من شأنها أن تكون ندا هي اللغة العربية الفصيحة، مؤكدا – في سياق حديثه – أنه لا يمكن للهجة أو للمحليات أن تكون ندا للتغول اللغوي، أو لهذه اللغات الراقية، وقال: «وحتى نفي العهد لهذه اللغة التي هي لغة القرآن، والتي جاءت بصفر خطأ، يجب أن نكون في المستوى لخدمتها، إلى جانب الاستثمار في مجال البحث العلمي الذي لا يمكن مجاراة سرعة تطوره، والذي يرتبط بالأساس بما يسمى «الإغداق»، حيث لا يمكن أن نطالب باحثا بأن يقدّم بحثا جيدا وافيا بالمجان، فعندما نقول «الإغداق»، نعني منحه جوائز تشجيعية، تكريمات، فلابد من تشجيع البحث العلمي ليكون هناك فيما بعد استشراف لدراسات لاحقة في مستوى تميز اللغة»..
الهجنة.. خطر على اللّغة..
وفي ذات السياق، نوّه الدكتور بلعيد بما بلغته اللغة العربية، مؤكدا أنها «الآن فرضت نفسها، فبعد سنة 1973، أين سمح لها أن تكون لغة أممية في رحاب الأمم المتحدة في الدورة العامة السنوية التي تعقد من 01 سبتمبر إلى 31 ديسمبر، وطالبت بعدها كل الدول العربية أن تكون لغة أممية، نظرا لما تتوفر عليه من شروط هي ذاتها التي تتوفر عليها اللغات الأخرى، والتي تتمثل في: تواصل الماضي بالحاضر، لغة علمية، لغة منتجة، لغة القرآن، لكن هناك موانع سياسية -يقول المتحدث – حالت دون أن تصل إلى هدفها، إلى أن اتحد العرب في 2007 ونجحوا وصنعوا اليوم العربي للغة الضاد، وبعد خمس سنوات أي في 2012، قطفوا ثمار جهودهم، ونالت اللغة الكرسي اللائق بها، حيث أزاحت الكرسي الخامس الذي كان للغة الصينية، لتحل محلها وتتراجع الصين إلى الرتبة السادسة تباعا.
وشدّد محدّثنا في سياق عرضه، على تداعيات الوعي اللغوي، وما يترتب عنه من نتائج لا تقبل التقهقر والتراجع، مؤكدا على ضرورة أن يكون هناك وعي لغوي حتى ينتج الاعتزاز بالهوية والدفاع عن تميزنا والمحافظة على خصائصنا بمقولة مولود قاسم نايت بلقاسم رحمه الله، «نحن مع فتح النوافذ والأبواب لكن لسنا مع قلع السقوف»، وأضاف: «أين هويتنا إذا قلعنا السقوف التي ستؤدي إلى اقتحام الرياح من كل مكان، والعول على هذه المراحل التي مرت بها الشعوب الناجحة دون أن نذكر أسماء البلدان التي كانت عدما وأصبح لها وجود في الاقتصاد، بالرغم من أن لغتها لا تصل إلى ما قبل اللغة العربية، كما هو وارد في بعض اللغات الآن التي لها أقل من قرن، ولكنها احتلت مكانة في الريادة مثل اللغة التركية الحديثة التي فرضت نفسها، وبقبضة من حديد في الاقتصاد العالمي»، مضيفا «نحن الآن بحاجة إلى ممرات وتجسير وإلى قنوات التواصل بالمصطلح الحديث (بالقوة الناعمة)»..
ويرى البروفيسور صالح بلعيد، أن العربية الآن كنصوص وكقوانين، جيدة، لكن ينقصها «التمكين» في واقعنا، في مجالاتنا وفي شوارعنا، يقول «فنحن في المجتمع الجزائري لدينا بما يسمى بالخليط اللغوي والتهجين اللغوي، وهو أشد فتكا بلغة الضاد بالخصوص، على غرار بقية اللغات.. وهو الهُجنة اللغوي، فعندما نستعمل لغة ما بخصائصها ثم ننتقل إلى لغة أخرى مستعملين خصائصها فهذا جيد، وهذا ما نسميه بالانتقال اللغوي، كانتقالنا من اللغة العربية إلى لغة أجنبية ما، لكن أن نخلط بين العديد من المصطلحات، وتصبح لغة ضيقة محلية لا يفهمك فيها حتى ابن بيئتك أو جارك بسبب هجانة لغوية، فهذا يسمى دمارا، وعليه، فإن أحقر ما يشين باللغة هو الهُجنة اللغوية، وهذا ما يستنكره المجلس الأعلى للغة العربية «.
واقع «العربية» في الإعلام الجزائري والعربي
يرى الدكتور صالح بلعيد بأن الإعلام قادر على قيادة قاطرة التنمية الاجتماعية والفكرية، لاسيما الثقافية، وذلك بأسلوب التأثير لا سيما إن كان إيجابيا، مشيرا إلى أن هناك بعض الكتابات تقول: «أنقذوا اللغة العربية من الإعلام»، وقال «أنا بدوري أقول لممارسي الإعلام: قل ولا حرج عليك.. فالإعلام ربما يتعرض إلى ثغرات وحوادث لسانية يقع فيها رجل الإعلام، وبالتالي، يمكنه أن يتعلّم، لكي نصل إلى إعلام جيد، ومن خلال ما يخوله كسلطة رابعة وخامسة (هي سلطة حديثة والتي تتمثل في كل ما له علاقة بوسائل التواصل الاجتماعي)، وتأثيرها على فئة تقدر بـ70بالمائة من الساكنة، ألا وهم الشباب».
وأضاف بأن الاعلام الآن لديه 70 بالمائة من الساكنة يديرهم كيفما يشاء، فعندما يخاطبهم بلغة ما، أو يتكلم بالعربية ويكتبها بأحرف لاتينية، فإنه يوثر فيهم، مشيرا إلى أنه إذا ما تمّ توجيه هذا الاعلام توجيها جيدا، وحظي بالمرافقة على مستوى حسن الأداء في الكليات، مثلما يعكف عليه المجلس الأعلى للغة العربية من خلال ما يعقده من تكوينات، لاسيما المدونات التي أنجزها بخصوص حسن استعمال اللغة العربية التي لو أخذت بعين الاعتبار لربحنا إعلاما يحمل قيمة مضافة، وسنربح إعلاما هادفا عن طريق قوة ناعمة استطاعت أن ترافق رجل الإعلام وتوجهه تحت أطر قانونية معينة، وأكد البروفيسور بلعيد أن الصحفي المتألق الجيد الذي يستعمل اللغة في أعلى تجلياتها تصغي له كل الآذان، بينما الإعلامي الذي يتماهى مع التدريج والعاميات، فلا أثر له لا في المجتمع ولا في الاعلام.
وبهذا الخصوص، دعا البروفيسور بلعيد رجال الإعلام جزائريين وعربا إلى الارتقاء بلغتهم، قائلا بأن الصحافيين مثل المعلم القدوة الذي يحسن الأداء.. «نحن بحاجة إلى صحفي متقن ممارس للغة، لسنا بحاجة إلى صحفي يحدث الحوادث اللسانية، هذه هي كلمة المجلس الأعلى اللغة العربية « يضيف المتحدث.
اليوم العربي للغة الضاد..هو يوم اللغة الأمّ..
وختم رئيس المجلس الأعلى للغة العربية حديثه بقوله: «نحتفي بلغة الضاد لأن الضاد هو رد فعل ربما عن التماطل الذي كان من قبل هيئات الأمم المتحدة، في عدم إدخال اللغة العربية لتكون لغة أممية، مبرزا أنهم حين استشعروا رد فعل العرب خلال خمس سنوات، قُوبل طلب العرب بالإيجاب، وأصبحت الآن اللغة الخامسة عالميا، وأضاف «اليوم العربي للغة الضاد هو يوم اللغة الأم، ولغة أمي ولغة الأمة ولغة الأمة الإسلامية ولغة أممية، وربما في الدراسات القادمة ستكون لغة الكون وبالضدّ تتوضح الأشياء».