لا تهدأ أزقة مدينة القصبة العتيقة اليوم، فهي متحف كبير مفتوح على الهواء، إذ تستقبل الزائرين من الداخل والخارج بشكل يومي، فهي محطة لاستذكار مآثر وبطولات الجزائريين، وتحتفظ بتاريخ البلد الحافل وبالمآثر الحقيقية للشعب الجزائري.. تحتفظ بالإرث التاريخي والثقافي الذي يعكس امتداد التراث الجزائري إلى أعمق العصور.
القصبة اليوم مزار ومقصد للسياح القادمين من مختلف أقطار العالم، ومركز اهتمام كبير من قبل الجزائريين، شبابا، أطفالا وكهولا، للتنسّم بعبق التاريخ، في حصن الجزائر المنيع إبان الاحتلال الفرنسي، بينما تتواصل عمليات الترميم وتأهيل معالمها للحفاظ على معمارها التاريخي.
بداية الرحلة..
خرجنا إلى الحي العتيق.. إلى لؤلوة الجزائر.. خرجنا للتجوّل بـ»المتاهة»، كما يحلو لبعضهم وصفها، نظرا لتداخل أزقتها، وطابعها المعماري الفريد، ولقد تُهنا في تلك الحضارة الضاربة في عمق التاريخ.. تُهنا بين جدرانها التي ما تزال تحمل شعارات تعود للحقبة الاستعمارية، والتي تروي تاريخ شعب رفض الرضوخ للآلة الاستعمارية.. هنا.. تأتينا صرخة من عمق الصمود.. «تحيا الجزائر».. وهناك، نستمع إلى آهات الصابرين على عنجهية الاستعمار.. تُهنا فعلا في تقاليد القصبة وتراثها الذي تعرضه متاجرها بدءا من آلة «الطار» الموسيقية، إلى الحايك والكاراكو العاصمي، وصولا إلى حلويات المقروط و»الفانيد» اللذان تفوح منهما رائحة الأصالة.
في أثناء جولتنا هذه، لاحظنا أن المدينة تتجدّد من خلال تكثيف أشغال الترميم لمختلف المساجد والقصور والبنايات، مع الحرص على توفير العناية الفائقة في اختيار المواد المستعملة للحفاظ على تاريخها وعراقتها، لصونها أمانة للأجيال القادمة، فضلا عن استمرار عمليات الترحيل لسكانها.
وقد شملت عمليات الترميم – حسب ما أفادت به ولاية الجزائر – العديد من المعالم التاريخية، حيث يجري العمل على استكمال تهيئة المنازل التي لها علاقة بتاريخ الجزائر، إذ تمّ الانتهاء من ترميم أحد القصور الذي اختبأ به المجاهدون إبان معركة الجزائر، منهم جميلة بوحيرد والعربي بن مهيدي، بينما تمّ ترميم كل من الجامع الجديد للداي، ودار البارود، وتمّ تسليمهما لمصالح وزارة الثقافة.
أما على مستوى الثلاث مساجد، فالأشغال انطلقت بكل من مسجد سيدي عبد الله، مسجد سيدي بن علي ومسجد السفير، بينما وصلت الأشغال بقصر الداي إلى 65 بالمائة وقصر البايات إلى 60 بالمائة.
حفاظا على الطابع التاريخي للمدينة..
صادفنا خلال جولتنا بالحي العتيق، ممثلي مؤسسة لترميم البنايات، وحسب حديثنا مع ياسين مراد رئيس تلك المؤسسة والمشرف على عملية ترميم عمارتين مقابل جامع كتشاوة، فقد تبين أن العمل جار على قدم وساق.. «نحن نعمل بدقة متناهية ـ يقول ياسين – لأن عملية الترميم هدفها المحافظة على المعمار التراثي، بعدما توقفت الأشغال خلال وباء كورونا، وأضاف أن مؤسسته تستمر في الترميم حتى الانتهاء من الأشغال دون تحديد المدة أو المهلة لذلك.. «ما يشغلنا الآن، هو الدقة في العمل».
واصلنا المسير بين أزقة المدينة، ولاحظنا أن سلالم القصبة ما زالت تعجّ بالباعة.. كل شيء يباع هنا.. كل الأشياء القديمة التي وإن تجاوزتها الموضة، فإنها تحمل رائحة ذلك «الزمن الجميل»، ولهذا، ينصبّ لها الباعة أغطية ليعرضوها عليها.. أشياء مختلفة من النحاس، الخشب، أو من الفخار، في سوق تحتفظ بكامل شكلها التاريخي الذي لا يمكن أن يحافظ على عنفوانه، وجماله الا بـ»القصبة».
وصادف تواجدنا بـ»القصبة العتيقة»، وجود مكثف للسياح الأجانب، كانوا في زيارات استطلاعية للمدينة.. وأمام سوق «جامع ليهود»، رأينا وفدا من الألمان تقودهم وكالة سياحية من ولاية غرداية تعمل بالتنسيق مع وكالة من برلين، وتبيّن لنا، من خلال حديث هامشي مع زوار المكان، أن توافد السياح لم يكن لحظة عابرة، لأن كثيرين ألفوا المدينة العتيقة التي تستهوي الزائرين من مختلف دول العالم.. يقصدونها للتعرّف على تراث الجزائر، وعلى مساجدها وقصورها.. الجامع الكبير، جامع كتشاوة وجامع بتشين، وغيرها من المعالم التي تروي تاريخا حافلا بأمجاد الأمة.
لابوانت والآخرون..
لا يمكن لزائر القصبة أن لا يمر بالمتحف الوطني «عمار علي»، وهو اسم الشهيد الشهير بـ»علي لابوانت»، فالمتحف يعتبر القلب النابض للقصبة، ويقصده الأطفال، الشيوخ والشباب، الأجانب والجزائريون من جميع أنحاء الوطن ومن مختلف دول العالم، ليجدوا صورة علي لابوانت شاهدة على عبقرية الجزائري بالمكان الذي ارتقى فيه شهيدا في معركة الشرف عام 1956 رفقة حسيبة بن بوعلي، بوحميدي محمود، ياسف عمار، إثر اشتباك مع قوات العدو، بعد حصار دام يوما كاملا صمد فيه أبناء الجزائر البررة، إلى أن تمّ تفجير المنزل، لترتقي أرواحهم الطاهرة إلى علياء الشهادة.. هكذا يتمّ الشرح داخل هذا المتحف للزوار الجزائريين أو للسياح الأجانب.
ولقد تزامن تواجدنا مع وجود مهاجرين جزائريين وزوار قادمين من ولايات أخرى، وحسب دليل الوفود الذي تحدث إلينا، فإن زوار المتحف يأتون من 48 ولاية ومن مختلف قارات العالم، من أمريكا، آسيا، إفريقيا وأوروبا، فقصر علي لابوانت يتوشّح بعلم جزائري، تتخلله جدارية تزينها صور الحمام.. إنها بنايات القصبة تحتفظ بآثار التفجيرات التي أدت إلى استشهاد علي عمار ورفقائه.
أما الأجيال الصاعدة، ومن خلال دردشتنا مع تلاميذ متوسطة تابعة للقطاع الخاص، فقد عبروا عن حبهم وشغفهم واهتمامهم ببطل معركة الجزائر، وأكدوا أنهم هم من طلبوا القدوم لهذا المتحف، رغبة في استعادة تلك الأجواء التي عاشها الشهداء، وما كابدوا في كفاح فرنسا الاستعمارية التي استعملت وسائل غير إنسانية.. ولم نملك صراحة سوى إكبار أبناء الجيل الجديد فحقهم أن نفخر بهم وهم يسيرون على خطى كبار الجزائريين، ويعبرون ببراءتهم عن افتخارهم واعتزازهم بشهداء الوطن، واستنكار جرائم فرنسا، وهذا وسط شعارات كتبت على حائط المتحف بينها أبيات من النشيد الوطني «قسما»، وصورة لعلي عمار.
ومما لمسناه خلال جولتنا، استمرار الأجواء الشعبية بالحي العتيق، حيث ما يزال فريق المولودية الشعبية يحمل شعار «المولودية دائما قوية» الذي يزين جدران البنايات.. هناك بالأحمر والأخضر، فيما تزاحمها شعارات نادي «اتحاد العاصمة» غريم المولودية الأصيل، وإن كان كبار الحيّ يتحسّرون على ما آلت إليه الحال بين أنصار الفريقين، خاصة ما يدخلون فيه من خلافات لم تكن موجودة من قبل.. «زمان ـ يقول أحد أبناء القصبة متحسرا ـ كانت المولودية والاتحاد فريقان يجتمعان في كنف المحبة»
آفاق القصبة..
في لقاء مع زطيلي اعمر، رئيس المجلس الشعبي البلدي لبلدية القصبة، تحدث عن المغزى من اليوم الوطني للقصبة المصادف لـ23 فيفري من كل سنة، موضحا أن يوم القصبة مرتبط بالقانون رقم 98 – 04 الذي يتعلّق بحماية التراث الثقافي، والذي صنفت فيه قصبة الجزائر كتراث وطني عالمي.
وكانت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (يونيسكو) حي «القصبة» العتيق سنة 1992، ضمن التراث الإنساني العالمي، ووصفته بأنه من أجمل المواقع المتوسطية.
أما عن عملية الترميم، قد شدّد محدثنا على أنها انطلقت قبل سنة 2005، حيث كانت تشرف عليها بلدية القصبة، عن طريق مصلحة للعمارات القديمة، مختصة في إزالة الأخطار، غير أنه وبعد سنة 2006 تحول جانب الترميم إلى وزارة الثقافة، التي عملت إلى غاية 2016، ثم عادت العملية لولاية الجزائر.
وفيما يخص ترحيل سكان القصبة، أكد لنا الرجل الأول بالبلدية أنه تمّ ترحيل 1700 عائلة في الفترة الممتدة ما بين 2018 إلى 2021، بينما تمّ ترحيل منذ سنة 2022 إلى غاية اليوم 176 عائلة، إضافة إلى تنظيم عملية ترحيل جديدة خلال الأسبوع الجاري ستشمل 100 عائلة.
وقال زطيلي: عملية الترحيل في القصبة تخضع لنفس المقاييس المعمول بها في كل ولايات الوطن، فهي من صلاحيات الولاة، حيث هي عبارة عن حصص للبلديات تخصص من قبل الولاة المنتدبين، من خلال خلية إعادة الاسكان بالعاصمة، وقد نصبت لجنة تحت إشراف الوالي، الذي يفوض مسؤول خلية إعادة الاسكان على مستوى الولاية، فبعد تخصيص حصة للقصبة. طبقا له.
وأضاف رئيس بلدية القصبة الذي استقبلنا بمنزله، إن «الغرض هو إخراج الناس من الخطر، وهذا لا يمنع أصحاب المباني الذين باستطاعتهم ترميم مبانيهم من فعل ذلك، فالمعني بالرحلة كل من هو موجود في خطر، بعدما يتمّ التحقيق عن طريق إعداد الملفات، حيث «ترسل للدائرة ثم إلى الوالي المنتدب، الذي يتدخل كرئيس لجنة ويستعدي أعضاء اللجنة ويشرف على العملية، وبعد الانتهاء من العملية على مستوى الدائرة، تُرسل كل الملفات لخلية إعادة الاسكان في الولاية، حيث تُراجع الأعمال وتعد القائمة النهائية، وهذا هو دور البلدية في عملية الترحيل.
وحول سؤال متعلق بتوافد الأجانب لزيارة المدينة العتيقة، تحدث «المير» عن غياب احصائيات دقيقة حول الأمر، وهذا لعدة اعتبارات منها غياب الفنادق في عين المكان، حيث يقصد القصبة سياح أجانب في شكل مجموعات تأتي عن طريق الوكالات السياحية.
وقال زطيلي، إن حي القصبة العتيق كان مقر السلطة ومركز الحكم طيلة عقود طويلة بالقلعة، كما كان حصنا منيعا ضد الأعداء، وقال إن زيارات الأجانب تأتي أيضا بحكم مكانة القصبة وعاداتها، التي أصبحت قبلة لهم، ونظير النسيج العمراني والقصور التي تتميز بها..