البروفيسور عمار بوحوش، كوّن إطارات دولة، منها أسماء معروفة جدا، عمل مستشارا مع الرئيس الراحل هواري بومدين، خمس سنوات، اشتغل في “سوناطراك” تحضيرا لتأميم المحروقات، يجيب على أسئلة “الشعب” تارة بلغة المؤرّخ، وتارة أخرى بلغة المُكوّن، ومرّة بأسلوب الباحث المتشبع بالمعارف، وهو المتخرّج من صفوة الجامعات الأمريكية..تشرّفنا بلقائه، واستمتعنا بآراء مختلفة طرحها من عُلوّ 85 عاما..
الشعب: بداية، حدّثنا عن معهد عبد الحميد بن باديس في قسنطينة..أليس هو المعهد الذي درست به؟
البروفيسور عمار بوحوش: يسعدني أن أتكلّم عن العلاّمة عبد الحميد بن باديس الذي علّم الجزائريّين كيف يحافظون على الشخصية الجزائرية. أعتبر منهجه من أحسن المناهج، كان يتحايل على الاستعمار وما تركيزه على التربية والتعليم إلا لتحضير أجيال المستقبل. في الآداب الأمريكية يعتبرون جمعية العلماء المسلمين أحسن تنظيم سياسي في الجزائر، ربّى أجيال المستقبل وحافظ على الشخصية الوطنية، وكوّن أجيالا لخوض معركة المصير.
“كثيرون درسوا عندي، منهم رئيس الحكومة الأسبق مولود حمروش، الهاشمي هجرس”
التحقت بجبهة التحرير الوطني وانخرطت في جيش التحرير وأنت شاب يافع. حدّثنا عن جهاد المستعمر بعيون من هو في الخامسة والثمانين من العمر.
في 1955 عندما تكوّنت خلية في جبهة التحرير الوطني من الطلبة، كان هناك جيل من الطلبة، منهم علي بودالي، عمار اوجانة، موسى بن عبد الرحمن..كنّا من المنتمين لجبهة التحرير الوطني، إلى جانب رئيس قسم جبهة التحرير في قسنطينة، ابراهيم مسكودي الذي كان يشرف على خلايا الجبهة.
“بومدين كان يقرأ كثيرا ويتخذ القرارات بسرعة”
كنت في مقبل العمر عندما كان والدي يأتي بالثوار إلى قريتنا، قمنا نحن الشباب بحرق مكتب “القايد” وحرق وثائق استعمارية، ثم هربنا إلى باريس، ومن هناك إلى تونس، والتحقنا بجبهة التحرير الوطني، سجّلنا أرزقي بوزينة، انضممنا إلى الجيش أنا وعلي بوسحامة وعمار الباز وعتيقية وآخرون، وأرسلونا للعمل في أول مستشفى على الحدود، وشاركنا كممرضين.
عندما قرّرت قيادة جبهة التحرير الوطني أن تُحوّل كل منتسب أقل من 20 سنة له مستوى دراسي معين الى الخارج لاستكمال الدّراسة، كنت من الذين طلبني ابراهيم مزهودي للعودة إلى الدراسة، ومُنح لي جواز سفر تونسي وسافرت إلى الكويت وتحصلت على البكالوريا سنة 1960، بعد ذلك قرّرت جبهة التحرير الوطني إرسالنا إلى الولايات المتحدة لمواصلة الدراسة، وأيضا لخدمة الثورة من خلال عقد محاضرات وندوات لتنوير الرأي العام الأمريكي.
“أبو القاسم سعد الله، باحث بأتم معنى الكلمة له ميول للتاريخ”
ماذا تروي لنا عن زمن الجهاد والثّورة؟
كنت من الذين تأثروا بابراهيم مزهودي الذي كان في قسنطينة يشرف على خلايا جبهة التحرير الوطني ومدير ديوان فرحات عباس بتونس. مزهودي شخصية تأثّرت بها كثيرا ودفعني للالتحاق بالثورة، عندما قرّر عميروش إرسال كل شباب الولاية الثالثة للدراسة، سافرت الى الكويت، استفدت كثيرا من الاحتكاك بأمثال عبد القادر شندرلي، ممثّل الجبهة في أمريكا ومحمد يزيد، ممثل الحكومة المؤقتة بالأمم المتحدة. دور هذه الخلية في الأمم المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية هو إعداد خطة، إذ كان نجاح الثورة يتوقّف على قدرة جبهة التحرير الوطني على تخفيض الدعم المالي الأمريكي لفرنسا، ومنع استعمال سلاح الحلف الأطلسي، وبالتالي إضعاف فرنسا عن طريق قطع المساعدات الأمريكية لها، وكان من بين مهامها تنوير الرأي العام الأمريكي حول الثورة والشعب الجزائري المكافح والمناضل من أجل أرضه.
في 1970، عدت إلى الجزائر واشتغلت أوّل مرة لحساب شركة النفط سوناطراك..بدل الجامعة؟
الرئيس الراحل هواري بومدين كان يعتمد على طلبة انتموا إلى الاتحاد الوطني للطلبة الجزائريين “أوجيا”، مثل طالب الابراهميي، الصديق بن يحيى، رضا مالك، لخضر الإبراهيمي، بلعيد عبد السلام، لمين خان..كان يعتمد الرئيس بومدين عليهم لأنّهم ساهموا في الثورة..
“رفضـت الجنسية الأمريكية وفــاءً لثورتنا المباركـة”
ثم عملت في رئاسة الجمهورية في عهد الرّئيس هواري بومدين خمس سنوات، لكنّك فضّلت الجامعة على الرّئاسة..لماذا؟
انتقالي من سوناطراك إلى رئاسة الجمهورية، كان بعد تكليفنا بمهمة عمل في الشركة مثل القيام بدراسات وتحضير هيكل تنظيمي داخلي، وهو مشروع لم يتحقّق بسبب خلافات داخل سوناطراك آنذاك، لذلك عندما جاءت دعوة الرئاسة لبيت الواجب، وأضيف أمرا، كنت من الشخصيات الذين اعتمد عليهم الرئيس بومدين إلى جانب نور الدين آيت حسين، نائب رئيس سوناطراك آنذاك، ومهندس أمريكي، في تحضير هيكل تنظيمي جديد لشركة سوناطراك تحسّبا لانسحاب المهندسين الفرنسيين.
خمس سنوات مع بومدين..كيف تراها اليوم؟
أعتقد أنّ قوّة وشخصية بومدين تكمن في القراءة وسرعة اتخاذ القرار، وأيضا نزاهته. بومدين لا يهتم بالمال والمصالح الشخصية، من مميزاته وفرض هيبة الدولة.
لماذا “تخاف” المناصب الإدارية، أنت المتخصّص في تدريس النّظم الإدارية؟
نظريتي في التنظيم ترتكز على “إذا أردت النّجاح في التنظيم، ضعْ شخصا في منصب لابد أن يكون متكوّنا فيه”، هذا هو أساس النجاح، الوظائف الإدارية تورّط الإنسان وتجعله حائرا بين الضمير الشخصي والأوامر.
رفضت أن تكون أمريكيّا، وألزمت نفسك بجزائريّتك..
في عام 1967 عُرضت عليّ الجنسية الأمريكية من قبل قاض أمريكي ورفضتها. وعندما تخرّجت سنة 70 التحقت بالجزائر لخدمة بلادي؛ لأنّ دوري كان نقل التعليم للأجيال القادمة واستجابة للقيادة. الأمريكيّون لا يحتاجونني، بلادي هي من تحتاجني، وهي أولى بي.
اسمك رديف للارتحال بين الجامعات الجزائرية والعربية والأمريكية، حتى أطلق عليك لقب “رحّالة الجامعات”..
لديّ تخصّص جيّد كوني متخصص من جامعة أمريكية مرموقة هي جامعة ميزوريا. في الحقيقة درست في جامعات الأردن، سوريا، الكويت، السعودية، وأردت تبليغ رسالة مفادها أنه يوجد جزائريون يتقنون اللغة العربية والانجليزية ولديهم مستوى راق..أعتقد أن كثيرا من الطلبة الذين كوّنتهم في هذه الدول كانت لهم صورة جيدة عن الأستاذ الجزائري..
كُنت من الذين ساهموا في إدخال إصلاحات بيداغوجية في التعليم العالي في عهد محمد الصديق بن يحيى..حدّثنا عن الجامعة الجزائرية كيف كانت وما تقييمك لمنجزاتها؟
هنا أقول كلمة عن الصديق بن يحيى..أحسن شخصية من حيث الأخلاق والعلم كما لم أر في حياتي، كنت أجتمع به عدة مرات بالرئاسة، وكان يستشيرنا في إصلاح الجامعة، وفي عهده، انتقلنا من النظام السنوي إلى النظام الفصلي، كنت أتحاور معه بالساعات لإصلاح المنظومة التربوية، يسمع لنا، لكن رأيه يطبّقه مثلما يرى. أذكر أنّي استعنت بجميع الوسائل لإنشاء العلوم الإدارية في جامعة الجزائر، لكنه رفض وقال: توجد المدرسة العليا للإدارة، وكلية الحقوق والعلوم الإدارية، وأضاف لها علوم التنظيم، وتخرّج منها آلاف الطلبة.
أوّل جزائري تحصّل على لقب أستاذ فخري في مجال تخصّصه، وكنت من الذين شهد لهم أمين عام للأمم المتحدة…
في الثورة كان الفشل ممنوعا، درسنا في الولايات المتحدة الأمريكية ونجحنا، تخصّصت في العلوم السياسية وحصلت على ليسانس ماجيستر ودكتوراه من أمريكا. ولهذا، عندما رجعت إلى الجزائر لخدمة بلادي، كان من ميولاتي البحث والكتابة وتكوين الأجيال، أشرفت في مساري على 100 طالب بين ماجستير ودكتوراه..
شهد لك الدكتور بطرس بطرس غالي بجودة الإنتاج العلمي، وهي شهادة قلّما تسقط في حضن باحث وأستاذ..
بطرس غالي، الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة، طلب منّي كتاب “العمال الجزائريون في فرنسا” وراجعه، كما طلب مني مقالا آخر وكتاب نظريات سياسية، وراجعه وأعجب به كثيرا، وقالي لي من أحسن ما قرأت، وهذا شرف للجزائر.
كُرّمت بجائزة دولة وجوائز أخرى..حدّثنا عن تكريمات نلتها وأخرى تتمنّى نيلها..
لدي ملف علمي محترم، أنتجت حوالي 14 كتابا، كرّمني الرئيس شاذلي بن جديد سنة 1989 بجائزة أحسن الباحثين رفقة طالب الإبراهيمي وآخرين، وجائزة أحسن أستاذ سنة 1990.
كانت أمنيتي في الجامعات الجزائرية إحداث منصب بروفيسور مميز، تقدّمت حسب قانون صدر 2008، وتعيين محمد ابركان، وزير تعليم عالي أسبق رئيسا للجنة، الى مسابقة البروفيسور المميز، تحسّبا لترقيتنا إلى درجة بروفيسور مميز، وصرت بعدها عضوا لجنة التقييم، كانت هذه أمنيتي..لو استكملت تلك المسابقة، لكن القانون لم يطبق، والأستاذ الجزائري لا يمكنه الحصول على درجة بروفيسور مميز.
كنت من السباقين في كتابة التّاريخ، لكن الواجهة أخذها آخرون؟
طبعا تقصد أبو القاسم سعد الله..إنّه إنسان باحث بأتم معنى الكلمة..له ميول للتاريخ، في حقيقة الأمر، هو أديب وليس مؤرّخا، كما له دواوين شعر، ومن ميزاته التركيز على الثقافة الجزائرية وترجم للذين كتبوا فيها، ونشر بغزارة.
في الحقيقة كتاباتي في التاريخ السياسي الجزائري تختلف عن مؤلفات سعد الله، هو يركّز على الثقافة والجوانب الثقافية ويبرز جوانب مجهولة، أنا ركّزت على المؤسسات، في كتاب تاريخ الجزائر السياسي الأول من 800 سنة قبل الميلاد إلى 1962، والثاني من 1962 إلى 2015، ركّزت فيه على الدويلات والدول التي أقيمت في شمال إفريقيا والجزائر وكيف جاءت وزالت.
وفي هذا الجانب، أروي لك قصة عجيبة: لما زارنا في الرّئاسة نيكولاي تشاوتشيسكو، رئيس رومانيا الأسبق، جلب معه كتابا من 1200 صفحة عن تاريخ رومانيا، باللغتين الانجليزية والفرنسية، أعجبت به كثيرا، وقيل لي في الرئاسة لماذا لا تعمل نفس الشيء، يعني كتاب عن تاريخ الجزائر تتناقله الوفود الرسمية في زيارتها إلى دول أخرى، وهو الذي ألّفته بالعربية: التاريخ السياسي للجزائر..
حدّثنا عن شخصية عامّة أو وزير درس عندك..
كثيرون درسوا عندي، منهم رئيس الحكومة الأسبق مولود حمروش، عمار حوبتي، مدير البنك العربي في القاهرة، وليد دوزي من جامعة تلمسان، ومئات من حاملي الماستر والماجستير. ما يثلج قلبي أنّني ساهمت في تكوين إطارات جزائرية مثل الهاشمي هجرس وأحمد جنوحات..
لو خيّرت مجدّدا بين الجامعة، سوناطراك ورئاسة الجمهورية، كيف يكون قرارك؟
خياري سيكون الجهة التي تخصّصت فيها، تكويني وميولي البحث العلمي.
أفضل فترة في تاريخ الجزائر؟
فترة الرّئيس الراحل بومدين وهو الذي اشتغلت معه وعرفت سياسته، كثيرون لا يعرفون ميزات بومدين، كان شخصية قوية يقرأ كثيرا وبشغف ويتخذ القرارات بسرعة، خلافا للرئيس الراحل الشاذلي بن جديد رئيس محترم وديمقراطي،
عالم جزائري تُجلّه؟
أبو القاسم سعد الله أحترمه كثيرا، وأيضا عبد القادر زبادية، لكن أحبّهم إلى قلبي وله قيمة كبيرة في نفسي الآن، هو نصر الدين سعيدوني..عبقري ورائد في دراسات العهد العثماني في الجزائر.
فنان تهواه؟
هناك فنانون كثر، لكن من كنت أحب أغانيهم كثيرا رابح درياسة بالنظر إلى وطنية أغانيه.
مجاهد تأثّرت به؟
أكثر مجاهد تأثّرت به إبراهيم مزهودي، أتذكّر أنّ رئيس فرعنا في الولايات المتحدة، أستاذ من طينة الكبار، خدمنا الثورة هناك واستعان بي في التنسيق مع منظمة اتحاد الطلاب العرب التي كان لديها 41 فرعا في الولايات المتحدة.
كتاب تقرأه دون ملل؟
توجد كتب كثيرة، أحسنها كتاب “من يخدم المصالح الوطنية”، صدر في أمريكا في شيكاغو، يتكلم عن خدمة مصالح الشعب والمصالح الشخصية.
فيلم آثار اهتمامك؟
فيلم “ريح الجنوب” أعجبني كثيرا.
وقت تمنّيت العيش فيه؟
تمنّيت أن أعيش في وقت الشعوب تتقدم بالنخب والمواهب والمختصين والخبراء. نقطة توجد في الشعب الأمريكي وتمنّيتها أن تكون في الجزائر، هناك مناصب في أمريكا تنتخب مثل القضاة كي لا يتأثّروا ويعيشوا حياتهم كنخبة، ويتمتّعون بسيادة القرار. قوّة الشّعب الأمريكي تكمن في الدّفع بأصحاب الكفاءة إلى خدمة الوطن.
“كنتُ ممن اعتمد عليهم الرئيس بومدين، إلى جانب نور الدين ايت حسين نائب رئيس سونطراك آنذاك، ومهندس أمريكي، في تحضير هيكل تنظمي جديد لشركة سوناطراك تحسبا لانسحاب المهندسين الفرنسيين”