نشر الباحث بخاخ سعدون، من جامعة أبي بكر بلقايد، مقالا «شهيا» يتطرق إلى «صوم الجزائريين في القرنين 18 و19 في ضوء الكتابات المحلية والأجنبية، بـ»مجلة العبر للدراسات التاريخية والأثرية».
بقلم توفيق العارف
يكشف الباحث سعدون عن حضور صيام شهر رمضان، بما أنّه أحد أهم العبادات التي يؤدّيها المسلمون عامة والجزائريون خاصة، وقد وقف على ذخائر كثيرة ضمن الكتابات التاريخية المحلية منها والأجنبية، وقال إن الكتابات المحلية – على قلتها – تركّز على شعائر المسلمين وعباداتهم، بينما تركّز الكتابات الأجنبية على العادات والعبادات، مع تغليب الحديث عن العادات في كثير من الأحيان، غير أنّه بقراءة تركيبية لما جاء في الكتابات المحلية والأجنبية على سواء، تتّضح جوانب هامة من ذهنية وممارسات الجزائريّين المتعلقة بشهر رمضان، ولقد قام الباحث برصد نماذج وصفها بأنّها «قليلة» مقارنة مع الكم الهائل من الكتابات الأوروبية التي تمتد زمنيا إلى غاية القرن العشرين، ما يعني أنّ الموضوع مفتوح على قراءات أخرى أكثر عمقا.
;قال الباحث بخاخ سعدون في فاتحة مقاله، إنّ الكتابة التاريخية في أواخر العقد الثالث من القرن العشرين مع مدرسة الحوليات الفرنسية وثلة من أقطابها، ومع أجيال من المؤرخين الذين ساروا على نهج المؤسّسين الأوائل، عرفت توجّها جديدا نحو ما يسمى بالتاريخ الاجتماعي، فبعد هيمنة التاريخ السياسي والعسكري، جاء «التاريخ الاجتماعي» الذي يبحث عن العادات والتقاليد والأعراف، وغيرها من المواضيع التي تمخّضت عقب إلغاء القطيعة بين التاريخ ومختلف العلوم الإنسانية والاجتماعية، الأمر الذي أثرى الكتابة التاريخية طرحا ومنهجا.
وسعى سعدون إلى إلقاء نظرة على التاريخ الاجتماعي الجزائري خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، واختار «صيام الجزائريين لشهر رمضان» في ضوء الكتابات المحلية والأجنبية، من خلال رصد ما يرتبط بعادات وعبادات الجزائريين في هذا الشهر. وكذا إبراز طبيعة هذه الكتابات، وقيمتها المصدرية ضمن حقل التاريخ الاجتماعي.
التّأريخ للعادات والتّقاليد..
أكّد الباحث بخاخ سعدون أنّ التّأريخ للعادات والتقاليد من بين أهم المباحث وحقول المعرفة التي يطرقها «التاريخ الاجتماعي»، فالباحث في هذا المضمار يقف على التنوع الثقافي للمجتمعات، كما يقف على ذهنية الشّعوب التي تنعكس على الممارسات اليومية.
وسجّل الباحث أنّ عادات وتقاليد المجتمع الجزائري، أخذت حيّزا كبيرا ضمن الكتابات الأجنبية، سواء الكتابات الموضوعية التي سجّل فيها أصحابها انطباعاتهم وملاحظاتهم بعفوية، وهذا بحكم رؤيتهم لعادات غريبة عنهم، وغير مألوفة لديهم، أو الكتابات المدفوعة بـ «الاستشراق»، في إطار الاثنوغرافيا الكولونيالية، التي اشتغلت على تسهيل اختراق المجتمع ومعرفة بنيته الاجتماعية، وأضاف أنّ المطلع على فهارس هذه الكتابات يجد كثيرا من الفصول والمباحث التي تتحدّث عن الزواج ومراسيمه، حياة المرأة، الفروسية، اللباس والزينة، وغيرها من العادات.
ولأجل الكشف عن عادات الصيام وتقاليده الجزائرية، تتبّع الباحث نصوصاً تاريخية تمتد زمنيا بين القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وهي من تأليف رحالة وأسرى وقناصل عاشوا بالجزائر أو مروا بها أواخر العهد العثماني، وكذلك خلال العقود الأولى للاحتلال الفرنسي، وهي الفترة التي كتب فيها تاريخ الجزائر بأقلام العسكريين، ومن بينهم العسكري أوجين دوماس EUGENE DAUMAS الذي ألّف كتاب «عادات وتقاليد الجزائر»، ولم يكتف الباحث بالكتابات الأجنبية، وإنما استعان بالمصادر المحلية التي تعود إلى نفس الفترة، لكي يقارن بين هذه الكتابات، ويبرز طبيعة التشابه والاختلاف في الطرح والمضمون؛ ذلك لأنّ المقارنة من شأنها أن تقدّم صورة متكاملة عن صيام الجزائريين لرمضان.
رمضان في الكتابات المحلية
سجّل الباحث بخاخ سعدون قلة الكتابات المحلية التي تؤرخ للمجتمع الجزائري خلال هذه الفترة مقارنة بالكم الهائل من الكتابات الأجنبية المختلفة المشارب والمتعددة التوجهات، غير أنّه تمكن من الوقوف على نماذج من الكتابات المحلية التي تتضمن في ثناياها نصوصا تاريخية تشير إلى صيام الجزائريين لشهر رمضان، وأشار إلى صدور «نوازل الشيخ محمد بن عبد الكريم الفقون القسنطيني» المتوفي سنة 1702م، من تحقيق وتقديم الأستاذين هواري تواني وعائشة بلعابيد، عن دار الزيتون للنشر والتوزيع، وقال إنّ هذا السفر تضمّن مسائل فقهية تتعلق بصيام شهر رمضان، حيث ضمن الشيخ محمد الفقون أربعة مسائل فقهية كانت المسألة الأولى تحت باب مسائل في الصيام، ذكر فيها «حكم من أفطر خطأ وما يتوجب عليه من القضاء دون الكفارة»، في حين، ارتبطت المسألة الثانية بمن «أفطر رمضان عمداً»، أما المسألة الثالثة فقد كانت حول «بلع البلغم أثناء الصيام»، والمسألة الرابعة كانت حول «بلوغ رائحة الدخان للحلق أثناء الصيام».
وأشار الباحث إلى أنّ المسألتين الأولى والثانية، نقل الشيخ محمد الفقون فتواهما عن علماء سابقين، في حين أن المسألتين الثالثة والرابعة كانتا قد طرحتا على والده الشيخ عبد الكريم الفقون، وأجاب بدوره عنهما.
ومن بين المصادر المحلية المهمة التي تشير إلى شهر رمضان، سجّل الباحث رحلة ابن حمادوش، الموسومة بعنوان: «لسان المقال في النبأ عن الحسب والنسب والحال»، حيث يتحدّث عن قراءة أبواب من صحيح البخاري كل يوم إلى غاية ختمه في ليلة السابع والعشرين، حينها تقرأ الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وفق هذه الصيغة: «اللهم صل أفضل صلاتك على أشرف مخلوقاتك، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم عدد معلوماتك ومداد كلماتك كلّما ذكرك وذكره الذّاكرون، وغفل عن ذكرك وذكره الغافلون».
بالإضافة إلى ختم صحيح البخاري في ليلة السابع والعشرين، جرت العادة في نفس الليلة أن تشعل الشموع، ويتم التجول في أرجاء المدينة مع الإنشاد والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم. كما كانت تلك الليلة تعرف بقيام الليل».
ويرى الباحث أنّ ما ذكره ابن حمادوش، يتطابق مع كلام الشريف الزهار، باعتبار أن كلاهما عاش في مدينة الجزائر، غير أنّ الشريف الزهار ذكر أنّ قراءة صحيح البخاري كانت تبتدئ من شهر رجب، ليكون الختام في ليلة السابع والعشرين من شهر رمضان، فضلا عن صلاة التراويح التي يختم فيها القرآن الكريم، (ويبدو لنا أنّ ما جاء به الزّهار أقرب إلى الواقع، فقد ظلّ متواترا إلى غاية منتصف الثمانينات من القرن المنصرم).
وقال الباحث سعدون إنّ ختم صحيح البخاري لم يقتصر على مدينة الجزائر وحدها. فهذا ابن سحنون يتحدّث عن باي الغرب محمد الكبير (1779- 1796) وعن حضوره لجلسات سرد صحیح البخاري وعنايته بالعلماء إذ يقول: «وهكذا كانت سيرته في شهر رمضان عند ختم صحيح البخاري»، غير أنّه على خلاف مدينة الجزائر التي يختم صحيح البخاري فيها عند ليلة السابع والعشرين من رمضان، كان في بعض نواحي بايلك الغرب يختم في سابع يوم من العيد انطلاقا مما أشار إليه ابن سحنون في قوله: «فإذا ختم صحيح البخاري يطعم الطعام، وتنشد الأناشيد والمدائح النبوية».
وانتبه الباحث في أثناء مطالعته لبعض المصادر المحلية حول هذا الموضوع، إلى عدم حدیث حمدان خوجة في كتابه «المرآة» عن شهر رمضان، رغم أنه تحدّث على كثير من طبائع وعادات الجزائريين شرقاً وغربا، شمالا وجنوبا، فلو تحدّث خوجة، لجاء بأمور أخرى غير التي تتردّد فيما اطلع عليه سعدون.
رمضان في الكتابات الأجنبية
تعدّدت الكتابات الأجنبية التي اهتمّ أصحابها على اختلاف أطيافهم – أسرى ورحالة وقناصل وعسكريّين – بالكتابة عن عادات وتقاليد الجزائريين، سواء ما كان عرفيا أو دينيا، أو ما كان رسميا أو شعبيا.
ويرى الباحث بخاخ سعدون أنّ هذا الاهتمام من الأوروبيين يأتي لدوافع عديدة، كحب المعرفة والفضول وتسجيل كل ما هو غير مألوف ومعهود في المجتمعات الغربية، أو بدافع الاكتشاف والاستشراق خدمة للإدارة الفرنسية التي كانت تسعى لاختراق المجتمع الجزائري. لعل من بين أهم ممارسات الجزائريين التي لفتت انتباه الأوروبيين هي صيام شهر رمضان، فلا يكاد يخلو مؤلف أو رحلة تتحدث عن عادات وتقاليد الجزائريين، إلا تتضمّن إشارات عن صيام شهر رمضان، وجميع ما يرتبط به من عادات وعبادات، غير أنّ حجم الحديث يختلف من
«كاتب إلى آخر – يقول الباحث – وهذا بحسب الظروف المحيطة به، فهناك من كان في سعة من أمره، الأمر الذي يؤدي بصاحبه الى الاستفاضة في الحديث عن هذا الشهر، على غرار الرحالة الألماني هابنسترايت ( HEBENSTREIT) الذي زار الجزائر عام 1732م، وكذلك الألماني فندلين شلوصر (VENDLIN SCHLOSER) الذي كان أسيرا في بلاط أحمد باي ما بين (1832-1837م). زيادة على الرحالة هاينريش فون مالتسان (HEINRICH VON MALTZAN) الذي زار مدينة قسنطينة عام 1862م، وكتب عن صيام شهر رمضان بشيء من التفصيل حيث يقول: «عندما زرت قسنطينة لآخر مرة في ربيع سنة 1862، أتيح لي أن أعيش رمضان شهر المسلمين المعظم، فوجدت الفرصة سانحة للتعرف على تقاليد الأهالي عن طريق مخالطتهم، وذلك ما لا يتاح عادة للأوروبي؛ لأن صلته بالمسلمين كثيرا ما تكون محدودة».
وأشار الباحث سعدون إلى أنّ هناك من أتيحت له فرصة الحديث عن صيام شهر رمضان بحكم إقامته في وسط حضري، إلا أنه تجاوزه واكتفى بذكر أنه شهر يمنع فيه الأكل والشرب، وهذا ما ينطبق على حالة الأمريكي كاثكارت (CATHCART) الذي راح يذكر حادثة انفلات أمني داخل أحد سجون مدينة الجزائر تزامنت مع بداية هذا الشهر. كما أنه هناك من أدرك رمضان ولم يسهب في الحديث عنه مثلما هو شأن الأسير الدانماركي ميتزون بذكر امتناع الجزائريين عن الأكل والشرب من طلوع الشمس إلى غروبها.
من هلال رمضان..إلى هلال العيد
قال الباحث بجامعة تلمسان، إنّ الكتابات الأجنبية تقدّم صورة واضحة عن كل ما يتعلق بصيام الجزائريين من عادات وعبادات، منذ إعلان الصيام إلى غاية آخر يوم من شهر رمضان، وأضاف أن الإعلان عن بدء الصيام خلال العهد العثماني، كان يتم بطلقة مدفع، وهذا لإعلام الناس بالإمساك، وحتى إعلان الإفطار هو الآخر كان يعلن عنه بطلقة مدفع، وحسب مالنسان (MALTZAN) فإن الإعلان عن موعد الإمساك والإفطار بطلقة مدفع استمر خلال العهد الفرنسي، وهذا من خلال قوله: «في شهر رمضان تتكرم الحكومة الفرنسية بوضع طلقة مدفع تحت تصرف المسلمين يتم بواسطتها الإعلان عن انتهاء الصوم، ففي مساء كل يوم ينطلق فيما بين السادسة والسابعة صوت المدفع».
وقال الباحث إن هناك من أدرك رمضان، مثل (METZON) الذي اكتفى هو الآخر بذكر امتناع الجزائريين عن الأكل والشرب من طلوع الشمس إلى غروبها «وهذا طبعا بحكم ظروف أسره، فالمتتبع ليومياته كأسير يجدها لا تخرج عن عمله في الميناء وعودته للسجن، وبالتالي فقد كان بعيدا عن عادات شهر رمضان، من هلال رمضان إلى هلال العيد.
لقد سهلت الإقامة في الجزائر للأوروبيين معرفة الأحكام الشرعية المتعلقة بالصيام من شروط الصوم وموانعه، وحتى ما يتعلق بالكفارات والعقوبات التي يتعرض لها من أفطر رمضان عمدا، ففي هذا الصدد نجد هابنسرایت (HEBENSTREIT) يقول: «لاحظت أن المسلمين يمتنعون عن الأكل والشرب أثناء اليوم طيلة الشهر»، ويضيف أحد الأسرى الأمريكان: «وأثناء ذلك لا يقتربون من المرأة ولا يشربون، ويبتعدون عن الشمة والتدخين من طلوع النهار إلى غروب الشمس».
ويتحدّث الضابط العسكري دوماس (DAUMAS) عن الحالات التي يجوز فيها القضاء، أو إخراج صاع من القمح عن كل يوم، وهذه الحالات تتعلق بالشيوخ كبار السن الذين يشربون الماء أيام الحرارة، أو من كان مريضا أو ذوات الحمل من النساء أو اللواتي وضعن حملهن وجميعهن يحصلن على رخصة من شخصية دينية كما يقول دوماس الذي سجّل أنّ الجزائريين، وبالرغم من هذه الرخص للمضطرين، يرفضون تناول الدواء إلا في حالة اشتداد وطأة المرض، وقد يؤدّي هذا إلى التهلكة، وهو ما لمس فيه مالتسان (MALTZAN) الحرص من الجزائريين على صيام شهر رمضان، فأشاد بتمسّك الجزائريين بشعائر دينهم، إذ يقول: «فصوم رمضان واجب ديني لا يتهاون فيه المسلمون جميعا..إنّ أكثر الشباب دعارة وفسقا في الجزائر، يستقيمون في شهر رمضان وتتّسم أعمالهم بالصّلاح، فهم أيضا يصومون نهارهم ولا يأتون المفاسد والآثام التي تعوّدوا إتيانها في الشهور الأخرى، والمسلم بصورة مطلقة يأخذ رمضان مأخذ الجد».
بالرغم من حرص الجزائريّين على صوم شهرهم المعظم، فقد تقع انتهاكات لحرمة هذا الشهر، لذا نجد دوماس (DAUMAS) يذكر العقوبات المختلفة التي تطال المفطر عمدا، فقد يتعرّض للسجن، أو الضرب، غير أنّه لم يذكر لنا أنه قد صادف هكذا حالات.
هذا جانب من الأمور التعبّدية المتعلقة بصيام رمضان حسب هذه المصادر، وكما سبقت الإشارة إلى أن تواجد الأوروبيين وسط المجتمع الجزائري جعلهم يلاحظون ويسجّلون أدق التفاصيل، حيث بذكر الرحالة الألماني ها بنسترايت (HEBENSTREIT) حسب مشاهداته في مدينة الجزائر، أنّ مشقة الصوم كانت تقع على جماعة «البرانية» الذين يقومون بأعمال منهكة جدا، بينما الذين هم في منزلة أرفع وهم الحضر، فإنهم يجتنبون هذا الإجهاد، ولم تقتصر هذه الملاحظة على مشاهدات ها بنسترایت (HEBENSTREIT) – يقول الباحث – فحتى مالتسان (MALTZAN) وقف على نفس الأمر في قسنطينة.