تشهد الجزائر حركية ونشاطا دبلوماسيين كبيرين من حيث البعثات والزيارات الرسمية لرؤساء الدول وممثلي الهيئات الدولية والدبلوماسية التي تتوافد تباعا على الجزائر، وهذا بعد استعادتها لمكانتها ودورها الإقليمي والدولي، الذي شهد ركودا خلال سنوات ماضية.
عاد عود بريق الدبلوماسية الجزائرية للظهور مجددا بقوة ويعيدها على رأس أكبر القضايا والمشاهد الدولية ويرشّحها بقوة للعب أدوار رئيسية ومحورية فيها، ولعل آخرها الأزمة الروسية- الأوكرانية، بحيث أكد رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون، خلال لقاء صحفي جمعه بقناة الجزيرة، أن الجزائر مؤهلة للعب دور الوساطة بين روسيا وأوكرانيا، على اعتبار أنها «من بين الدول التي لها مصداقية كافية لتكون وسيطا في الكثير من النزاعات، نظرا لثقل الدبلوماسية الجزائرية، كما أن الجزائر لا تتدخل أبدا في أي وساطة إن لم تضمن النتيجة الإيجابية».
يؤكد المحلل السياسي محمد بن خروف، في تصريح لـ «الشعب»، أنه في ظل التغيرات الجيوسياسية التي يشهدها العالم، خاصة الأزمة الروسية- الأوكرانية وتداعياتها السلبية على الاقتصاد والسياسة العالمية، يتضح أن الدول الكبرى تعيد النظر في مختلف سياساتها ومشاريعها من أجل تقسيم العالم من جديد وتثبيت نفوذها الدولي، خاصة في علاقاتها مع الدول التي تزخر بالموارد الطاقوية والثروات المعدنية. وعليه، فإن الحرب الروسية- الأوكرانية، أزاحت الستار عن عديد الملفات والقضايا الاقتصادية والسياسية، وتباين مواقف الدول، فمنها التي أخذت موقفاً مساندا لروسيا وعمليتها العسكرية، في حين وقفت أخرى إلى جانب أوكرانيا وحلفائها الغربيين. أما الجزائر فقد استطاعت، بفضل سياستها الحكيمة والرشيدة، التي ليست وليدة اليوم، أن تبقى على مسافة واحدة بين جميع أطراف النزاع. ويضيف بن خروف، أن للجزائر مواقف ثابتة منذ الاستقلال في المسائل والصراعات والأزمات العالمية، وهو ما ترجم من خلال انخراطها وانتمائها ومواقفها في حركة عدم الانحياز وجامعة الدول العربية والاتحاد الإفريقي. ولعل آخر مسعى وساطة ناجح قامت به الجزائر، هو ذلك الجامع للفصائل الفلسطينية بالجزائر، قبيل انعقاد مؤتمر جامعة الدول العربية. ولقد بذلت الجزائر نفس الجهود الدبلوماسية في القارة الإفريقية، من أجل إعادة الاستقرار لكثير من دول القارة التي كانت تواجه أزمات وصراعات سياسية داخلية وخارجية، وذلك بتوظيف دورها الرائد والمحوري ومكانتها القارية في دعم قضايا تحرر الشعوب، ومناصرة الدول المستضعفة والقضايا العادلة، خاصة في دول العالم الثالث، وهو ما أهلها للعب دور الوساطة وتقريب وجهات النظر في كثير من المناسبات.
الحاجة للتجربة الجزائرية في الوساطة، جعل الاتحاد الأوروبي يغيّر سياسته وتعامله معها، بعدما كان يتهمها بعدم احترام حقوق الإنسان والحريات، محاولاً في عديد المرات حياكة تهم باطلة ضدها، من أجل زعزعة استقرارها وأمنها، وهو ما قابله صمود وحنكة في الرد والتعامل مع هذه الادعاءات، حيث تم التغلب على كل تلك الافتراءات والمحاولات اليائسة.
ويردف بن خروف، أنه إضافة إلى ما ذكر، فالجزائر اليوم تتميز بدور محوري دبلوماسي واستراتيجي هام جدا، كما تحظى بثقة مختلف شركائها المتنوعين، سواء كانوا من القطب الاشتراكي الذي تتزعمه روسيا ومختلف الدول الاشتراكية الأخرى، أو القطب الغربي بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية والدول الغربية. ولقد استطاعت أن تحافظ على علاقات متميزة مع جميع هذه الأقطاب، وهو ما يمكنها اليوم من تأدية دور محوري هام في إعادة التوازن، بعد اندلاع أزمات جعلت العالم يعيش اضطرابات سياسية واقتصادية ألقت بظلالها على جل دول العالم، وبالتالي تقريب الرؤى من خلال جهود الوساطة التي يمكن أن تتولاها بين روسيا وأوكرانيا من جهة، وبين روسيا والاتحاد الأوروبي الداعم المباشر لأوكرانيا، وكذا بين روسيا والولايات المتحدة الأمريكية باعتبارها طرفاً فاعلاً في الحرب.
ويختم المحلل السياسي بن خروف حديثه، بالتأكيد أن الأشهر القليلة القادمة ستشهد نشاطاً كثيفاً للدبلوماسية الجزائرية وتفعيلاً لدورها الرائد في تقريب وجهات النظر، في محاولة لإيقاف الحرب والحد من تداعياتها، خاصة على الدول الإفريقية التي قد تعيش أزمات غذاء حادة في حال تواصل الحرب، وهي ذات الأزمات التي لن تستثني دول الاتحاد الأوروبي، التي تشهد هي الأخرى تشنجات سياسية واقتصادية نجمت بالأخص عن نقص إمدادات الطاقة.
من جانب آخر، يرى حسان بلحسن، الباحث والمختص في العلوم السياسية، في تصريح لـ «الشعب»، أنّ الجزائر بإمكانها القيام بدور إيجابي في حل النزاعات الدولية والإقليمية، وهذا نظرا لعدة عوامل؛ أهمها العقيدة المسالمة للدبلوماسية الجزائرية التي ترفض العنف كأسلوب لحل النزاعات، وتلتزم بعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، كما تؤكد على الالتزام دوماً بالعمل في إطار الشرعية الدولية. ومن جهة أخرى تتوفر الجزائر على رصيد محترم في إطار الوساطة الدولية، والأمثلة على ذلك عديدة، من بينها النزاع العراقي- الإيراني سنة 1975، وأزمة الرهائن الأمريكيين في إيران سنة 1980، ناهيك عن النزاع في القرن الإفريقي بين إثيوبيا وأريتريا سنة 2000 وغيرها، كما كان للجزائر دور بارز في تسوية النزاعات الحدودية، مثل ما حدث مع دولة مالي وبوركينافاسو، والسنغال وموريتانيا، ليبيا وتونس، مصر وليبيا وغيرها، علاوة على اتفاق المصالحة المالي-المالي الذي توج بإعلان الجزائر، وآخر مبادرة كانت خاصة بالمصالحة بين الفصائل الفلسطينية.
ويرى بلحسن أن هذه المعطيات دفعت القوى الدولية إلى طلب وساطة الجزائر لحل النزاعات، ولعلّ آخرها الدعوة التي أعلن عنها المفوض الأوروبي للشؤون الخارجية «جوزيب بوريل» خلال زيارته للجزائر، من أجل المساعدة في حل الأزمة بين روسيا وأوكرانيا، باعتبار الجزائر شريكاً استراتيجياً للطرفين.