اللباس التقليدي للمرأة كنز وموروث غني لطالما دعا مختصون وباحثون الى حمايته من النسيان، ومن النهب والسرقة التي يتعرض لها معظم اللباس الجزائري من جهات تدعي نسبه لها.. أو تحت غطاء الموروث الثقافي المغاربي المشترك.
لا يفوّت رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون فرصة للدعوة إلى ضرورة حماية التراث الوطني. ففي احتفالية اليوم العالمي للمرأة في 8 مارس الفارط، شدّد رئيس الجمهورية لدى زيارته لمعرض للنساء الحرفيات، على ضرورة إيداع ملفات لدى منظمة “اليونسكو” للحفاظ على الموروث الجزائري من السلب والسرقة.
وقال الرئيس تبون، متحدثا لإحدى العارضات: “فرطنا في وقت سابق في تصنيف تراثنا الثقافي وعرضناه للسرقة والنهب من الغير (..) لكن أغلب تقاليدنا تُصنّف وتوثق اليوم في منظمة اليونيسكو”.
سليمان حاشي: مكان التراث الثقافي ليس المتاحف..
في تصريح لـ “الشعب اونلاين”، يقول مدير المركز الوطني للبحث في عصور ما قبل التاريخ سليمان حاشي، والمكلف بملف تصنيف الموروث الثقافي الجزائري في منطمة اليونسكو، ان الموروث الثقافي بحاجة لممارسة دائمة ومستمرة لاحيائه، وليس إبقاءه حبيس المتاحف، نزوره أو ترتديه عارضات في المناسبات وفقط.
ويشرح حاشي، ان كل موروث ثقافي آيل للزوال اذا لم نحييه بالممارسة اليومية، حتى يترسخ كفعل ثقافي في المجتمع، وتتناقله الاجيال.
وعن سؤال تصنيف اللباس التقليدي النسوي وبالخصوص الحايك الجزائري، قال المتحدث إن الحايك صنّف ضمن اللباس النسوي التقليدي للغرب الجزائري في منظمة اليونيسكو قبل 10 سنوات، مثله مثل “الشدة والبلوزة” التلمسانية والقفطان.. وحلي ومجوهرات مختلفة تتزين بها نساء المنطقة.
نحو تصنيف لباس الشرق الجزائري
وكشف حاشي عن تحضير ملف لتسجيل لباس منطقة الشرق وتصنيفه كموروث تقافي جزائري في اليونيسكو، يضم “القندورة القسنطينية” و”الملحفة الشاوية” و”الحايك” بمختلف تسمياته وتصاميمه، والبلوزة السطايفية، والجبة القبائلية…
ويفسر الباحث هذا المسار التدريجي في تصنيف اللباس، بالجزائر البلد القارة، الشاسع بجغرافياته، الغني بثرواته الطبيعية، وبتاريخه وتنوع تقاليده وموروثه الثقافي، صنع الاختلاف في السلوكيات و”العقليات”، وحتى في النمط المعيشي من ماكولات وزي وتقاليد، وتراث شعبي..
“حضارة الجزائر ضاربة في اعماق التاريخ، حيث تعود الى اكتشاف أقدم موقع اثري في العالم بعين الحنش (ولاية سطيف) او ما يعرف بمهد الانسانية، منذ حوالي مليوني و400 الف سنة”، حسب الباحث في الانتروبولوجيا.
للاعلام دور كبير في حماية الموروث
وأشار المتحدث، فيي عن الحايك، إلى دوره الفعال في الحرب التحريرية، حيث كانت حرائر الجزائر تحملن الذخيرة وتخفين السلاح والقنابل تحت حياكهن. وساعدهن الحايك على التخفي والتنكر عن انظار المستعمر الفرنسي.
لكن تأسف حاشي الى شبه اندثار هذا اللباس المحتشم الاصيل سنوات قلائل بعد الاستقلال، واستبداله بلباس غريب عن عاداتنا وتقاليدنا.
وفي هذه النقطة بالذات، يقول الباحث انه لا مانع من تكييف اي لباس تقليدي مع مقتضيات العصرنة، لجعله أكثر ملائمة لنمط العيش الحالي للمرأة، مع الابقاء على جوهر الزي وأصالته.
ويدعو حاشي إلى ضرورة عودة المجتمع لثقافته للحفاظ على موروثه من النهب والسطو، من جهة، وتناقله من جيل لاخر للحفاظ عليه كموروث حي، حتى لا يدخل في خانة الذاكرة، من جهة اخرى.
وعن سؤال بشأن نظرته للطريقة الانسب للحفاظ على هذا الموروث الضارب في جذور ثقافتنا، تطرق الباحث الى اهمية دور الاعلام في احياء التراث المادي واللامادي والتعريف به والترويج له.
وفي السياق، يقترح الباحث تنظيم مهرجانات، وعروض ازياء تقليدية على أوسع نطاق، وان يروج للباسنا التقليدي خاصة في وسائل الاعلام السمعية البصرية، وفي الاعمال التلفزيونية والسينمائية، لما لها من اثر مباشر على المشاهد، حتى يترسخ في ثقافة المجتمع. ويدعو الى ادماجه في المنظومة التربوية، وفي الحياة اليومية.
رحلة الحايك من الأندلس إلى الجزائر
لعل من اشهر الالبسة التقليدية التي ترتديها المراة في يومايتها، ولا تقتصر على الافراح والمناسبات، الحايك الجزائري على اختلاف تسميته، وتصميمه من منطقة إلى أخرى.
يقول مؤرخون إن الحايك دخل الجزائر مع الهجرة الأندلسية، حيث ساهم العثمانيون في نشره بين الجزائريات.
مع سقوط غرناطة سنة 1492م، حمل الأندلسيون ثقافتهم وتقاليدهم إلى السواحل الجنوبية للضفة المتوسطية، وكانت الجزائر وجهة الآلاف منهم.
ومن بين الأزياء التقليدية التي هاجرت مع النساء الأندلسيات لباس الحايك، مطلع القرن السادس عشر، ومنذ ذلك الوقت صار الحايك لباساً للجزائريات، وجزء من يومياتهن وفي تنقلاتهن لقضاء مصالحهن.
وينسب مؤرخون تسمية “الجزائر البيضاء” الى كثرة انتشار الحايك بالجزائر العثمانية.
الملاية السوداء حزنا على وفاة صالح باي
كان حاكم قسنطينة “صالح باي” أواخر القرن الثامن عشر، أحد أكثر البايات العثمانيين الذين شجعوا لبس الحايك بين نساء قسنطينة والشرق الجزائري.
وعند وفاته سنة 1792، وتعبيراً عن حزن نساء قسنطينة على وفاة أحد أبرز حكامها، أقامت النساء حداداً بطريقتهن الخاصة، حيث خرجت ذلك اليوم بملايات سوداء، حداداً على رحيله، ومنذ ذلك الوقت صار يطلق على الحايك باللون الأسود الحايك القسنطيني، والذي لم تخلعه نساء قسنطينة منذ ذلك الوقت. وجعلت منه نسوة مدينة الجسور المعلقة درة يرتدى في الأفراح والأتراح.
الحايك أنواع وألوان..
الحايك نوع من اللحاف يغطي جسم المرأة بالكامل لحمايتها من أعين الرجال، وهو أنواع وأشكال وألوان مختلفة، تُحدد قيمته وفق نوعية القماش الذي صنع منه.
في وصف المؤرخين “الحايك قطعة من القماش الأبيض تغطي سائر جسد المرأة من الرأس إلى الرجلين”.
وفي القاموس العربي، أصل التسمية يعود إلى الفعل “حاك، يحيك، حياكة”، بمعنى نسج ومنه الحايك أي الثوب المحيك بمعنى المنسوج، لكن عند سؤال جزائريات عن تعريفهن الحايك يقلن إنه “زين وهمة”، بمعنى أنه يضفي على المرأة الجزائرية سحراً ينبع من بياضه، فيحفظ حياءها من جهة، ويزيد بهاءها وقيمتها، بخاصة اللواتي يتفنن في لفه على الجسم.
ويعتبر الأبيض اللون الغالب في مناطق شمال غرب البلاد، في حين تفضل نساء شرق البلاد اللون الاسود، وتلتحف نساء الجنوب بالأزرق القاتم، أو الأصفر والأخضر الفستقي.
وبحسب ما تذكره المصادر التاريخية، للحايك أنواع وأشكال، هناك “حايك” المرمة وحايك “بلعجار” وهو من أجود الأنواع، حين كان ارتداؤه حصراً على الطبقة الميسورة التي تتباهى نساؤها بارتدائه لأنه يشكل نوعاً من المدنية، لأن نساء العاصمة اشتهرن به وينسج من الحرير الخالص أو الممزوج بالكتان أو الصوف.
وينتشر في الغرب الجزائري حايك “بوعوينة”، من البليدة الى وهران مرورا بتلمسان، في حين اشتهرت نساء شرق البلاد بـ”الملاية” السوداء، اما نساء غرداية فعُرفن بارتداء “الاهولي” و“القنبور”.
حسرة عاصمية..
تفتخر خالتي كلتوم بارتداء “الحايك” والسير في شوارع الجزائر العاصمة، رغم أنه لم يعد لباسا تراه نسوة “المحروسة” مناسبا في العصر الحالي، إلا أن عبق أصالة “الحايك” جعل خالتي كلتوم البالغة من العمر 72 سنة لا تتخلى عنه.
في حديث مع “الشعب أونلاين” تشير العجوز إلى أن اللباس التقليدي العاصمي مثل “الحايك” يجعل من ترتديه يغوص في تاريخ هذا البلد المليء بالأحداث التي كان للحايك” العاصمي جزأ منها خاصة إبان ثورة التحرير المباركة.
وتتحسر خالتي كلتوم، الساكنة في شارع باب جديد بالقصبة العليا، عن الوضع الذي ٱل إليه “الحايك”، في ظل هجرة جل النساء لهذا الرداء الأصيل المنبعث من عهد بولوغين بن زيري والمرابطين الذين شيدوا الجامع الكبير قبل 1000 سنة، إلى الجزائر المستقلة.
وقار الجزائرية..
الحايك رمز للاصالة عند العائلات الجزائرية، يضفي جمالا ووقارا على المرأة، خاصة في الأعراس، تُزف به العروس وتخرج به من الدويرة (بيوت القصبة) إلى بيت زوجها.
موروث جزائري من دار السلطان إلى بايلك الشرق، ورغم بعد المسافة بين الجزائر العاصمة وقسنطينة، إلا أن ثقافة الرداء النسوي إبان العهد العثماني وحّد بين جزائريات دار السلطان وبايلك شرق، بفضل “الحايك” أو “الملاية”.