لقد عشت تجربة شخصية وأسرية قاسية جرّاء الاحتلال، وعشت طفولة غير محببة بفعل الاعتقال. كما عاش آخرون كثُر تجارب مماثلة، بل وأكثر قسوة، وكان من بينها ما لا يمكن تصوّرها، بل يصعب على الإنسان تخيُّل حدوثها أو وصفها، واستمعت إلى فلسطينيين أدلوا بشهادات عديدة روَت حكاياتهم مع السجن، من أناس قُدِّر لهم أن يبقوا أحياء، وامتلكوا مهارة الجرأة في الكلام.
بقلم: عبد الناصر فروانة الحلقة الأولى
كان حديثهم يفيض بكثير من الوجع والألم والمرارة. إن تجربتي الشخصية مع المحتل، وعلى الرغم من خصوصيتها، فإنها تتشابك مع التجربة الجماعية لكل الفلسطينيين، وحكايتي مع السجن تتقاطع مع حكايات مليون معتقل فلسطيني مروا بتجربة الاعتقال؛ فكانت تجربة مريرة وحكاية قاسية ممزوجة بالفخر والعزة. من هنا، وقبل ثلاثة وخمسين عاماً، بدأت فصول الرواية، وهذا غيض من فيض، ففي ساعات النهار من يوم الثلاثاء 3 آذار/مارس 1970، داهمت قوات الاحتلال الصهيوني مكان عمل والدي «عوني فروانة» وكنيته «أبو العبد»، رحمة الله عليه، في حي التفاح شرقي مدينة غزة، وكبّلت يديه بالسلاسل الحديدية، وزجّت به في سيارة عسكرية، واقتادته إلى مكان مجهول.
وفي منتصف الليل، داهمت قوات مدججة بالسلاح حي بني عامر العتيق، الواقع خلف مدرسة الزهراء الثانوية للبنات في محلة الدرج، شرقي مدينة غزة هاشم، واقتحمت البيت الذي كنا نقيم به، لبثّ الرعب والخوف في نفوسنا، ولدى كافة المحيطين بنا من الجيران والأصدقاء، فاستيقظنا خائفين مرعوبين بفعل الضجيج وهول الصدمة، ووسط موجات الرعب وصراخ الجنود، وجرّاء ركلهم لنا ونحن نياماً بأقدامهم وأعقاب بنادقهم، ففتحت عينيّ، فإذ بهم يفتشون بعنجهية ويعيثون خراباً في المنزل، وفي المقابل، رأيت أمي، الحامل بجنين بين أحشائها، تجهش بالبكاء والجنود المتوحشون يحيطون بها في مشهد حُفر في ذهني، ولا يزال عالقاً في وجداني، وماثلاً أمام ناظريّ، وكأنه البارحة، كما لم تستطع السنوات والعقود محوه أو إزالته، وهو يلازمني ويصرّ على البقاء عميقاً في ذاكرتي، رافضاً الرحيل الأبدي، أو حتى مجرد المغادرة المؤقتة.
حينها، كنت طفلاً صغيراً، لم يكن عمري قد تجاوز الثلاثة أعوام، فبدأت حياتي بهذا الحدث، ولم أرَ شيئاً من قبل، كما أن الذاكرة الشخصية لم تحفظ صوراً تسبق ذاك المشهد بتاتاً، على الرغم من أنني حاولت مراراً، واستجديت الذاكرة كثيراً لاسترجاع لحظات معدودة وأنا أجلس في حضن والدي حين كان يقود دراجته النارية، التي نفّذ من على متنها عملياته الفدائية ضد جنود الاحتلال ورجال الاستخبارات الصهيونية، وسطّر معها مجداً تناقلته الألسن، ويحفظه رفاقه في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، أو استحضار، ولو صورة واحدة تجمعني به وهو يداعبني ويقبّلني قبل اعتقاله، ولكن لم يحدث شيء مما تمنيته. فظل مشهد الاقتحام ووحشية جنود الاحتلال الأول في حياتي.
وفي إثر الاقتحام والأجواء المرعبة التي خيمت على البيت والحي، بقينا مستيقظين ليلاً حتى طلوع الفجر وبزوغ الشمس، ثم حملتني أمي في حضنها وبين ذراعيها وبدأت تنقلني معها، بحثاً عن ربّ الأسرة، حتى أيقنت أنه معتقل في سجونهم، فعرفنا سوياً السجون الصهيونية، بعد أن تعرفنا معاً إلى الجنود، وذقنا قسطاً من بطشهم وبشاعة معاملتهم، لتبدأ مسيرة التنقل من سجن إلى آخر، وحيثما يكون الزوج والأب متواجداً، فاعتدت طريق المحاكم العسكرية الصهيونية قبل أن أعرف إلى رياض الأطفال طريقاً، وترددت إلى السجون، وتعرفت إلى مواقعها الجغرافية، وحفظت أسماءها المتعددة، وجلست أمام شبك الزيارة قبل أن أعرف مدارس التعليم وأجلس فيها على مقاعد الدراسة، ونطقت حروف السجن وحفظت مفردات الاعتقال قبل أن أنطق الحروف العربية وأهجّئ كلمات اللغة، بينما الصورة الأولى لأبي التي طُبعت في ذهني هي تلك التي رأيته فيها وهو أسير خلف القضبان يرتدي زيّ السجن ويحيط به سجّانون، فأيّ مستقبل لطفولة كهذه يمكن أن تنشأ خارج نطاق مقاومة ظلم المحتل، أو أن تكون بعيدة عن قضايا الأسرى والمعتقلين وحريتهم المشروعة؟
لقد استمرت هذه الحال أكثر من خمسة عشر عاماً متواصلة، أمضاها أبي خلف القضبان، بسبب مقاومته المشروعة للاحتلال، قبل أن تحرّره المقاومة في إطار صفقة تبادُل الأسرى الشهيرة في 20 أيار/مايو 1985، والتي تُعتبر الأكثر روعة وزخماً من بين عشرات صفقات التبادل التي نُفّذت بنجاح، على الصعيدين العربي والفلسطيني، في تاريخ الصراع العربي-الصهيوني.
وإذا كان التاريخ الفلسطيني يسجل ذاك اليوم بفخر وعزة، وهذا ما يجب أن يؤرخه المؤرخون، فإن الذاكرة الشخصية تحفظه بسعادة منقطعة النظير، كيف لا؟ وأن تلك الصفقة جمعتنا كأسرة، ولأول مرة، على مائدة واحدة، وهي التي كانت سبباً مفرحاً في تمكيني من احتضان والدي، وللمرة الأولى، من دون قيود، وبعيداً عن مراقبة الجنود، في لقاء مفتوح من دون تحديد للوقت أو الزمان، بعد غياب امتد لسنوات طوال، في مشهد لم أعشه ولم أرَ مثله من قبل.
كنت محظوظاً
ربما كنت محظوظاً، على الرغم من الألم والحرمان، وما لحِق بي وبأسرتي من أذى وضرر. محظوظ لأنني أدركت خطورة الاحتلال وقيمة مقاومته مبكراً، وزرت السجون وتعرفت إلى الحركة الأسيرة من بداياتها. ومحظوظ حين تنقلت من سجن إلى آخر، لألتقي على شبك الزيارة مقاتلي الثورة الفلسطينية القدامى ورموز الرعيل الأول ومؤسسي الحركة الأسيرة، بعضهم فارق الحياة، ومنهم مَن استشهد داخل السجن، وكثيرون منهم ما زالوا أحياء، فتتلمذت على أياديهم، وتعلمت منهم ومن أبي، مفاهيم الثورة ومعنى النضال ومقومات الصمود، الأمر الذي ساهم في تعزيز الانتماء الوطني وتشكيل الوعي وتكوين الشخصية وصقلها، إلى أن كبرت، وكبرت بداخلي قضية فلسطين وأسراها، وهذا ما دفعني إلى الانتماء مبكراً إلى الثورة والانحياز إلى قضية الأسرى والمعتقلين، فاندفعت إلى الالتحاق بمقاومة الاحتلال، قبل أن أكبر وأتحول أنا الآخر بدوري إلى أسير أربع مرات، وست سنوات، فمررت على السجون ذاتها، ودخلت إليها أسيراً، وليس زائراً لأبي، ثم أخي، وتذوقت خلالها قسوة التعذيب ومرارة السجن بجسدي، بعد أن رأيتها على جسد أبي، ثم على جسد أخي وأقربائي، وفي عيون أمي وأختي. وفي المقابل، التقيت بين جدران السجون كثيرين ممن سبق أن التقيتهم من قبل على شبك الزيارة، وتعرفت إلى كثيرين من أسرى الدوريات والعرب، وازددت ثقافة وخبرة، وتعلمت في أثنائها ما لم أتعلمه، ولا يمكن تعلُّمه خارج هذا النطاق، وهذا من فضائل السجن.
شقيقي يبصر النور وأبي في ظلمة السجون
لم يحدث لي ذلك فقط، ولم يحدث لأبي فحسب، بل حدث مثل ذلك لشقيقي الأصغر والوحيد «جمال» – الذي أنجبته أمي يوم الإثنين 10 آب/أغسطس 1970، ليبصر النور بعد اعتقال والدي ببضعة أشهر- حين اعتُقل في 11كانون الأول/ديسمبر1986، وهو في سن الطفولة، وكان طالباً في الصف العاشر، خمسة أعوام متواصلة، قبل أن يتحرر ويُعاد اعتقاله للمرة الثانية ويمضى عامين آخرين. ليخرج هو الآخر من السجن، حاملاً هموم مَن بقوا وراءه خلف الشمس، وأكثر التصاقاً بقضاياهم، ولا يزال مدافعاً شرساً عن حقوقهم.
وبالمناسبة، سمّاني أبي «عبد الناصر» وشقيقي «جمال» تيمناً بالزعيم القومي الخالد «جمال عبد الناصر». وبهذا، يظل اسم الثائر العربي المصري يصدح ويرنّ في أصداء البيت، ونحن فخورون بما نحمله من أسماء، وبدلالاتها. لقد اعتُقلنا سوياً، وفي سجون متباعدة المسافة، وأحياناً في أقسام متجاورة في السجن نفسه، ولسنوات طويلة، وللقراء أن يتصوروا مدى معاناتنا ومعاناة والدينا، ونحن نعلم بأننا متجاورون ومتفرقون، في آن واحد: لا نتمكن من الالتقاء! وبعد أن كنا نتنقل برفقة الوالدة، لزيارة الوالد في هذا السجن أو ذاك، أصبحت الوالدة تتنقل بصحبة زوجها (والدنا) لزيارتي في هذا السجن تارة، وزيارة أخي في ذاك السجن تارة أُخرى. فالأمور تغيرت وانقلب الحال، فالوالد الأسير أصبح زائراً، والصغار كبروا وأصبحوا أسرى، والسجون بقيت على حالها، والوالدة -أطال الله في عمرها- باتت تحفظ أسماء السجون ومواقعها، فهذا سجن غزة، وذاك سجن عسقلان، ومن هنا مررنا إلى أنصار والنقب والرملة وبئر السبع ونفحة. فكانت والدتي الحاجة «أم العبد» زائرة دائمة التردد إلى السجون طوال ربع قرن من دون انقطاع، فتعلمت منها الصبر والثبات، وكانت الأب والأم وخير مَن صبر وربّى، وحين أبحث في مفردات اللغة عمّا يليق بها وبدورها الأُسري والتربوي والنضالي من كلمات، لا أجد ما ينصفها ويليق بتضحياتها وصبرها ومعاناتها، فهي واحدة من النساء الفلسطينيات اللواتي عانين طويلاً جرّاء الاعتقال وصعوبة الحياة، وتجربتها تتشابك مع التجربة الجماعية للمرأة الفلسطينية. لذا، نحن ندرك أننا لسنا وحدنا ضحايا الاعتقال، فآباؤنا وأمهاتنا وعائلاتنا، وكذلك أصدقاؤنا وجيراننا هم ضحايا مثلنا.
انتفاضة الحجارة سنة 1987 وتتالي مرات الاعتقال
عاصرت أحداث انتفاضة الحجارة التي اندلعت من مخيم جباليا شمالي قطاع غزة في الثامن من كانون الأول/ديسمبر1987، بين أزقة حيّ «بني عامر» التي تفوح بعبق التاريخ، وانخرطت كغيري من الشبان في فعالياتها المختلفة، واندفعت إلى ساحة الاشتباك والمواجهة، أقاوم المحتل الصهيوني، واعتُقلت من هناك أربع مرات، بعد اقتحام البيت ليلاً، وهو البيت ذاته الذي اعتُقل منه أبي وأخي، وهذه كانت المرة الأولى، في معتقل أنصار2 غربي مدينة غزة، بعد اندلاع الانتفاضة بفترة وجيزة، واستمرت بضعة أسابيع فقط، بينما عادت قوات الاحتلال واعتقلتني مرتين إدارياً، وأمضيت عاماً كاملاً في سجن النقب الصحراوي، بلا تهمة أو محاكمة، بواقع ستة أشهر في كل مرة، ومررت على ما يسمى محاكم الاستئناف الصورية، من دون معرفة أسباب الاعتقال التي ما زلت أجهلها، وعايشت المعتقلين الإداريين بفئاتهم العمرية المختلفة، وكنت شاهداً على ظروف الاحتجاز وسوء المعاملة وقسوة الظروف المناخية، صيفاً وشتاءً. بينما تعرّضت للاعتقال للمرة الرابعة ليلة 25 أيلول/سبتمبر 1989، حين داهمت قوات الاحتلال المدججة بالسلاح ورجال الاستخبارات الصهيونية بيتنا الصغير، وقالوا لوالديّ: خمس دقائق وسيعود. فأخذوني إلى خارج البيت، وكبّلوا يديّ، ووضعوا عصبة على عينيّ، وألقوا بي في جيب عسكري واقتادوني إلى قسم التحقيق في سجن غزة المركزي «السرايا»، وما كان يُعرف بـ»المسلخ»، حيث شدة التحقيق وقسوة التعذيب. بينما أبي وأمي بقيا وحدهما في البيت ينتظران عودتي بعد مضيّ الخمس دقائق، وقد عدت إليهما بالفعل بعد مضي قرابة خمس سنوات.
يتبع