بعد عقد كامل من الزّمن، تأكّد جليّا بأن التدخل العسكري الخارجي ليس الحلّ الأمثل لمواجهة ظاهرة الارهاب بالسّاحل الإفريقي، التي على العكس تماما، ازدادت حدّتها وخطورتها، حيث اشتدّ عودها وتمدّدت رقعتها وتوسّعت أعدادها وتعدّدت مجموعاتها، وباتت تشكّل تهديدا مدمّرا ومريعا، وهو الأمر الذي انتبهت إليه دول المنطقة متأخّرة بعض الشيء.
لكن المهم أنّها أدركت بأنّ طريق التحرّر من عبء المجموعات الدموية لا يشقّه التدخّل الأجنبي، وإنّما سواعد أبناء السّاحل، فالمثل يقول «ما حكّ جلدك غير ظفرك»، والواقع يؤكّد بأنّ المقاربة القائمة على الخيار العسكري وحده، والاعتماد على الخارج فقط، فاشلة من الأساس، والبديل لا يخرج عن إطار اعتماد استراتيجية ترتكز على القدرات الذاتية لكلّ دولة، مع خلق ديناميكية تقوم على توحيد الجهود وتنسيق التعاون ضمن الاطار الاقليمي وحتى الدولي..
..قبل ذلك وبعده، عدم الارتكاز على الحلّ العسكري دون مرافقته بالجانب التنموي والاجتماعي وحتى السياسي، فحيث تغيب التنمية وتتعدّد الآفات الاجتماعية والنزاعات السياسية، يكون المجال خصبا لتكاثر صنّاع الإرهاب وسفّاكي الدماء ومهندسي الجريمة المنظمة.
التّدخّل الخارجي يعمّق الأزمات
لقد أكّدت الجزائر في أكثر من مناسبة، بأنها «ترفض كل شكل من أشكال التدخل الأجنبي في المنطقة بحجة مكافحة الإرهاب؛ لأنها مقاربة أثبتت فشلها الذريع»، وتراهن، بدل ذلك، على ديناميكية جديدة تمّت المصادقة عليها شهر أكتوبر 2022، من قبل الدول الأعضاء في لجنة الأركان العملياتية المشتركة التي تضم كلاّ من الجزائر، مالي، موريتانيا والنيجر، والتي تهدف بالدرجة الأولى إلى تكفّل كل بلد على حدة، بمواجهة التهديد الإرهابي ضمن إقليمه الوطني، اعتمادا على قدراته ووسائله الذاتية بصفة أساسية، مع انضمامه إلى ديناميكية جماعية أساسها تضافر الجهود والتنسيق والتعاون المتبادل.
ومثلما تشدّد الجزائر على الإعتماد على القدرات الذاتية دون غلق الباب أمام التنسيق الإقليمي والتعاون الخارجي، لاسيما من خلال الحرص على التطبيق الصارم للقرارات والأدوات القانونية للأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي وغيرها من الآليات الثنائية ومتعدّدة الأطراف ذات الصلة، فإنّ ما نشهده ونحن نتابع تطوّرات الحرب على الارهاب في الساحل، أنّ دول المنطقة انطلقت بالفعل في تجسيد استراتيجيتها الجديد في مكافحة المجموعات الدموية، وإقرار الأمن والاستقرار، وميدانيا، بدأنا نتحسّس نتائج هذه المقاربة من خلال العمليات العسكرية الناجحة التي تشنها جيوش المنطقة ضدّ الارهابيين، إذ لا يكاد يمرّ يوم دون أن تعلن وكالات الانباء عن تصفية عشرات الدمويين في مالي وبوركينافاسو وغيرهما، وهذا على الرّغم من أن الارهاب الذي انحسر في معظم بلاد العالم، ما زال – للأسف الشديد – يشكّل تحدّيا أمنيا كبيرا للمنطقة بأسرها.
طي صفحة فرنسا
قرارات تاريخية اتّخذتها بعض دول الساحل الافريقي في الأشهر الأخيرة، عندما قرّرت طيّ صفحة التدخّل العسكري الأجنبي لمكافحة الارهاب، والاعتماد بدل ذلك على الجيوش الوطنية والسياسات الداخلية.
وقد فسّر كثيرون خطوة التخلّص من الوجود العسكري الأجنبي تفسيرا محدودا، معتقدين بأنّه يستهدف الدول أو الدولة التي تقف وراءه، لكن الحقيقة بكلّ أبعادها وبكلّ ما قيل وما يقال، لا تتجاوز كونها خيارا تاريخيا يقضي بتنفيذ استراتيجية جديدة لمكافحة الارهاب على أنقاض فشل التدخّل الخارجي، والفرنسي تحديدا.
وكانت مالي أوّل دولة تقرّر إنهاء الوجود العسكري الفرنسي من منطلق أنّه بعد عقد كامل من التدخّل لم يحقّق هذا الأخير غير نتائج عكسية، لتنهي فرنسا تسعة أعوام من الوجود العسكري في إطار قوة «سيرفال» ثم «برخان» العسكرية لمحاربة الجماعات الإرهابية، والتي لم تسفر عن نتائج ملموسة، كما قرّرت الحكومة المالية إلغاء اتفاق التعاون العسكري مع فرنسا الموقّع في 16 جويلية 2014، والذي يسمح في المادة 26 لأي طرف بإنهاء الاتفاق من جانب واحد.
وكانت السّلطات الانتقالية المالية قرّرت إلغاء الاتفاقيات العسكرية بعد أن وصفتها بـ «المجحفة»، على اعتبار أنّها تنصّ على بنود ترهن سيادة البلاد، وتقول بعض فقراتها إنّ «للعسكريين الفرنسيين كامل الحرية وبدون أي قيود في التحرك على الأراضي المالية، بما في ذلك الأجواء، وباستخدام وسائل النقل الخاصة به، وذلك دون شرط طلب الدعم من الجيش المالي»، وفي فقرة أخرى من نفس الاتفاق جاء: «يحق للدولة المضيفة، إذا ما لاحظت تعديا على سيادتها وأمنها تعليق هذه التراخيص».
نفس مصير الاتفاقيات العسكرية مع فرنسا، انتهى إليه الاتفاق المكمّل الموقع في 2020، والمتعلق بقوة «تاكوبا» الأوروبية التي أجبرت على الانسحاب هي الأخرى .
وعلى خطى دولة مالي المجاورة، قررت بوركينا فاسو، من جانب واحد، وقف العمل باتفاق المساعدة العسكرية الذي وقعته مع فرنسا غداة حصولها على الاستقلال عام 1961 حين كانت البلاد تحمل اسم «فولتا العليا»، وهو اتفاق كان يسمح لفرنسا بعد نهاية حقبة استعمار البلد بالإبقاء على قواتها العسكرية على شكل معاونين في الإدارات العسكرية للدولة الناشئة.
وفي رسالة وجّهتها وزارة الخارجية في واغادوغو إلى باريس نهاية فيفري الماضي، أعلنت بوركينافاسو أنّها قرّرت «وقف العمل باتفاق المساعدة العسكرية المبرم قبل 62 سنة بين جمهورية فولتا العليا (الاسم السابق لبوركينا فاسو) والجمهورية الفرنسية».
وجاء في الرسالة أنّ بوركينا فاسو تمنح الفرنسيين مهلة شهر واحد تبدأ بعد تسلم الرسالة، من أجل «مغادرة جميع الجنود الفرنسيين العاملين ضمن مهمة «سابر» في بوركينا فاسو بشكل نهائي»، فيما أشارت إلى أن إنهاء هذا التعاون «لا يعني القطيعة مع فرنسا».
وتمّ بالفعل تفكيك وترحيل آخر القوات والمعدات الفرنسية قبل أسابيع.
نحارب الإرهاب بجيوشنا
ذهبت القراءات والتحليلات في تفسير القرارات التي اتّخذتها مالي وبوركينافاسو بعيدا، وتقاطعت جميعها حول نقطة واحدة وهي سعي دول المنطقة وراء شراكات عسكرية جديدة بطلها هذه المرّة روسيا، حيث قال أحد الخبراء «الانسحاب الفرنسي سيتحول تدريجياً إلى استبدال فرنسا بروسيا الاتحادية، وهو ما يفسر تتابع الانسلاخات الحكومية في واغادوغو وباماكو من اتفاقيات التعاون العسكرية الفرنسية».
وحتى إن كان مشروعا لأيّ دولة إقامة شراكة وتعاون عسكري مع أيّ بلد تريد، فإنّ الواقع على الميدان، وتصريحات السلطات الانتقالية في باماكو وواغادوغو، تجزم بأن الأمر يتجاوز مسألة تغيير شريك خارجي بآخر، والحقيقة تتحدّد أساسا – كما سبق وقلناه – في قرار الدولتين الاعتماد على الذات في مواجهة الخطر الأمني الجاثم على صدر المنطقة، حيث دعا رئيس وزراء مالي من بوركينا فاسو، قبل أسابيع إلى عدم الاعتماد على أي جيش أجنبي لمكافحة الجماعات الإرهابية في البلدين.
وقال تشوغويل كوكالا مايغا عند وصوله إلى واغادوغو، حيث استقبله نظيره أبولنيير كايليم تامبيلا: «لن يأتي أي جيش أجنبي للقتال مكاننا، نحن على يقين من هزيمة الإرهاب في منطقة الساحل..سننتصر في الحرب بواسطة جيوشنا».
وأضاف مايغا: «ما يحدث لكم اليوم – يقصد تزايد ضربات الإرهابيين – هدفه إضعاف معنوياتكم وجعلكم تشكّكون في جيشكم» لأن الجماعات الإرهابية «تضغط عليكم لتشكّوا في أنفسكم…وقعت الأمور نفسها في مالي».
وأوائل شهر فيفري الماضي، وضعت الحكومة الانتقالية في بوركينا فاسو خطة الاستقرار مكونة من 4 محاور هي: «مكافحة الإرهاب، والاستجابة للأزمة الإنسانية، وإعادة بناء الدولة، والمصالحة الوطنية».
وحدّدت الخطة هدفا رئيسيا، هو «تحرير المناطق التي تحتلها الجماعات الإرهابية، يرتبط بهذا الهدف «إيجاد الشروط الأمنية اللازمة لعودة سلطة الدولة والسكان إلى تلك المناطق»، كما يرتبط بـ «إعادة تثبيت خدمات الدولة بالمناطق المحررة من نفوذ الجماعات الإرهابية». وتشمل الخدمات «عودة الأجهزة الأمنية، ومقاعد الدوائر الإدارية، والسلطات المحلية، والمفوضيات العليا، والمحافظات والبلديات».
وتأمل الحكومة بهذا «رفع نسبة التغطية الأمنية، وخفض المؤشر العام لانعدام الأمن وزيادة نسبة السلطات المحلية».
ولتحقيق ذلك، تعتزم الحكومة «تجفيف مصادر إمداد الجماعات الإرهابية المسلحة بشتى أنواعها، وتعزيز الرقابة على دوائر التسويق غير الرسمية للدراجات النارية، والمنتجات النفطية، وشبكات تحويل الأموال غير الرسمية».
وستعمل الحكومة أيضا على «زرع ثقاقة السلام في الشباب بإجراءات توعوية وتدريبهم على التربية المدنية»، إضافة إلى «تحسين مشاركة المواطنين بمكافحة الإرهاب».
أمّا محور «ضمان استجابة عاجلة وفعالة للأزمة الإنسانية الناجمة عن انعدام الأمن»، فإنّ الخطة تنص على «رفع نسبة النازحين العائدين طوعا إلى مناطقهم الأصلية لمواجهة الإرهاب، بعدما اضطروا إلى الفرار منه، إلى 50 بالمائة بحلول 2025».
تعاون وتنسيق إقليمي
لا شك أنّ نجاح الاستراتيجية الجديدة لمكافحة الارهاب بالساحل، والتي تقوم على الاعتماد على الجيوش الوطنية، يتطلّب مزيدا من التعبئة وتجنيد أكبر عدد من المتطوعين لمواجهة جحافل الدمويين الذين قدموا من مناطق التوتر بسوريا والعراق، بعد انتهاء مهمّتهم التدميرية القذرة هناك، وقد أعلنت بوركينا فاسو مؤخرا إطلاق حملة لتجنيد خمسة آلاف عسكري للخدمة في الجيش لخمس سنوات على الأقل.
وهي المرة الثالثة في أقل من عام التي يقوم فيه جيش بوركينا فاسو بحملة كهذه. ففي أفريل 2022 تمّ تجنيد ثلاثة آلاف جندي، وتكرر ذلك في أكتوبر.
وليست واغادوغو وحدها التي قرّرت زيادة وحداتها الدّفاعية، بل مالي وتشاد والنيجر كذلك، ومن شأن انخراط الشعوب في معركة الارهاب المصيرية أن يساعد على إضعاف وتحجيم المجموعات الدموية ما يسهّل مواجهتها بالأسلحة، خاصة بالطائرات، ونحن نسجّل إقبالا ملفتا لدول الساحل على اقتناء مقاتلات ومروحيات من شأنها أن تحدث الفارق في الحرب على الارهاب.
كما أنّ التخلّص من الوجود العسكري الخارجي يحتاج إلى ملء الفراغ الذي تتركه القوات الأجنبية، وذلك بزيادة مستويات التنسيق الأمني والعسكري الاقليمي، وإعادة تطوير هيئة تنسيق العمليات والتعاون الأمني والاستخباراتي المشترك بهدف تشكيل ديناميكية لمكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة العابرة للحدود، والقضاء على كافة «الآفات الخطيرة» واجتثاثها نهائيا من المنطقة.
الاستثمار الإنساني والتّنمية
لا شكّ أنّ القرار الشجاع الذي اتّخذته دول الساحل بالاعتماد على نفسها لمحاربة الارهاب قد تعترضه العديد من الصعوبات والتحديات، فالمجموعات الإرهابية في هذه المنطقة تفوق الجيوش الوطنية عدّة وعتادا، ولها من الأسلحة ما لا يمكن تصوّره، لهذا فإن مهمّة إقرار الأمن والاستقرار بحاجة إلى دعم شركاء صادقين وجديّين، والشركاء هنا ليسوا بالضّرورة من يتدخّلون عسكريا، بل من يفتحون آفاق التعاون الاقتصادي والتنمية، لأن الاستثمار الإنساني، قد يكون أكثر فعالية في سياسة محاربة الإرهاب، من الضربات العسكرية، خاصة وأن الحاجة المادية وراء نسبة كبيرة من المنتسبين إلى هذه الجماعات الدموية.
ويبدو أنّ انتفاضة دول الساحل ضدّ الوجود الأجنبي قد أحدث بعض الفارق في سلوك الدول الغربية، حيث بدأنا نسجّل تغييرا في سياساتها تجاه القارة السمراء، ففرنسا مثلا، قرّرت خفض الوجود العسكري في إفريقيا إلى أدنى مستوى (3000 عسكري بدل 5500)، وإنهاء القواعد العسكرية الفرنسية، وتحويلها إلى أكاديميات تشارك في إدارتها فرنسا والدول الأوروبية والأفريقية. مع التركيز على مشاريع التنمية والاحتياجات الإنسانية، وتسهيل التأشيرات للطلاب ودعم الرياضة. كما قرّرت أمريكا التركيز على الجانب التنموي ودفع الاستثمار، وحتى إن كانت السّياسة الفرنسية والأمريكية الجديدة تجاه إفريقيا مربوطة بصراع النّفوذ الدولي على القارة السمراء، فالمهم أنّ شعوب القارة أصبحت تدرك جيّدا من هو الشّريك الصّادق ومن هو الشريك الذي يبحث عن مصالحه فقط؛ لهذا، فإنّ هذه الشعوب ستقف في وجه كل من يستغلّ وضعها المتأزّم ليزيد معاناتها ومآسيها.