يحيي الشعب الجزائري، غدا الأحد، يوم العلم المصادف للذكرى الـ83 لوفاة رائد النهضة الإصلاحية، العلامة عبد الحميد ابن باديس، الذي صقلت أفكاره الوطنية روح الأجيال المفجرة لثورة أول نوفمبر المجيدة، والذي تواصل الجزائر اليوم الاستلهام والنهل من منهجه الوسطي والتوعوي.
كان من الطبيعي أن تستمر الجزائر في تجسيد الفكر المتبصر للعلامة ابن باديس، حيث اتخذ الشعب الجزائري من تاريخ رحيله “يوما رمزيا للاحتفاء بالعلم والعلماء ودأب على ذلك، مكرسا هذا التقليد منارة تذكرنا بمرحلة من تاريخ الأمة، تصدى خلالها الشيخ ابن باديس لمخططات استعمارية حاقدة استهدفت طمس الهوية الوطنية وهدم ركائزها”، معتمدا في ذلك على ”تحرير العقل واستنهاض الهمم بسلاح العلم”، مثلما كان قد أكده رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون في مناسبة سابقة.
ولأن العلم والمعرفة أصبحا يشكلان حجر الزاوية في بناء الإقتصاد والتحكم في التكنولوجيات الحديثة، تحيي الجزائر هذه الذكرى وهي تحقق إنجازات مشهود لها في القطاعين التربوي والجامعي الذين يعتبران المشتلة لهذه المعارف، حيث بلغ عدد المتمدرسين في الأطوار التعليمية الثلاث نحو11 مليون تلميذ، وارتفع عدد الطلبة الجامعيين ليقارب المليون و750 ألفا، كما تم تدعيم شبكة مؤسسات التعليم العالي عبر الوطن التي أصبحت تشمل، إلى غاية الآن، أزيد من 60 جامعة ومركزا جامعيا و37 مدرسة عليا، على غرار المدرسة العليا للرياضيات والمدرسة العليا للذكاء الإصطناعي.
وكان هذا التوجه ومنذ البداية، أحد أهم تعهدات الرئيس تبون الحريص على إيلاء اهتمام خاص بالمعلم والأستاذ والباحث، غايته في ذلك “صنع نهضة وطنية شاملة، تعيد الاعتبار للمدرسة الوطنية بكل أطوارها”.
ويسعى رئيس الجمهورية، في هذا المنحى، إلى استجماع شروط هذه النهضة التي يكون عمادها الثروة الأساسية في البلاد، أي العنصر البشري، وعلى وجه أخص الشباب الذين دعاهم إلى جعل يوم العلم “حافزا للوعي” و”مسلكا للإصلاح والمراجعة”، وهذا من خلال “تبني الفكر المتوازن النبيل وتوخي الوسطية في التعامل”، اقتداء بالشيخ ابن باديس وجمعية العلماء المسلمين الجزائريين. فقد كان الشيخ ابن باديس “من الأوائل الذين آمنوا بأن تحرير العقل من الجهل والخرافات يسبق تحرير الأوطان، حيث حارب حتى آخر رمق من حياته، كل المخططات الاستعمارية الفرنسية لطمس الهوية الوطنية”، مثلما كان قد أكده رئيس الجمهورية، مذكرا بأن هذا العلامة الرمز “أقام دعوته الإصلاحية الرامية إلى الاعتدال بإزالة الفساد، على أسس التغيير الإيجابي المبني على دراسة الواقع وتصحيح الاعتقاد وتعليم الفرد الجزائري وحفظ الهوية والوحدة الوطنيتين”، وهو الذي لطالما شدد على أنه “لا بقاء لشعب إلا ببقاء مقوماته”.
وكانت انطلاقة المسيرة الإصلاحية للشيخ ابن باديس بعد لقائه برفيق دربه الشيخ البشير الإبراهيمي، الذي اتفق معه على محاربة الاستعمار الفرنسي وأولئك الذين امتهنوا المتاجرة بالدين، ليتم، في هذا الصدد، تأسيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين عام 1931.
فقد كان العلم سلاح الشيخ ابن باديس في معركة التغيير التي خاضها والتي اكتست أبعادا سياسية واجتماعية وثقافية وأخلاقية، حيث أرسى، لهذا الغرض، ترسانة ضمت نحو124 مدرسة يؤطرها 274 معلما، كما بلغ عدد تلامذتها إلى غاية سنة 1954 نحو40 ألف تلميذ، علاوة على إنشائه معهد ابن باديس الثانوي بقسنطينة والذي تولى تكوين المعلمين والطلبة.
وعمل أيضا على الترويج لأفكاره الإصلاحية وتوعية النشأ من خلال تأسيسه لجرائد “المنتقد” و”الشهاب” والبصائر”.
يذكر أن العلامة عبد الحميد بن محمد المصطفى بن مكي ابن باديس -الذي كان يوقع مقالاته الصحفية بكنيته الأمازيغية “الصنهاجي”- كان قد رأى النور سنة 1889 بقسنطينة. أتم حفظ القرآن في السنة الثالثة عشر من عمره، ليسافر بعدها إلى تونس أين تابع تعليمه بجامع الزيتونة.
وعرف عن الشيخ ابن باديس إلمامه الواسع بأمور الدين وتفتحه على ثقافة العصر، ومساواته بين أبناء الوطن من فتيات وفتيان، حيث فتح لهم على السواء أبواب المدارس التي أنشأها رغم طغيان الاستعمار الفرنسي، فضلا عن دفاعه الذي لم يهدأ ولم يكل عن عناصر الهوية الوطنية ومحاربته الشرسة للظلامية والبدع والتزمت والتعصب والخرافات ولكل الآفات الإجتماعية.
وفي 16 أبريل من عام 1940، انتقل الشيخ ابن باديس إلى رحمة الله، ليشيعه الجزائريون إلى مثواه الأخير في جنازة مهيبة رغم التضييق الذي فرضته عليهم السلطات الفرنسية، فكان يوما مشهودا في تاريخ قسنطينة التي ودعت رائد الحركة الإصلاحية، ليس في الجزائر فحسب بل في العالم العربي والإسلامي.