قدم رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون، مبادرة “رباعية” لوقف الاقتتال في السودان، واستئناف العملية السياسية في البلاد، وذلك بصفته رئيسا دوريا لمجلس جامعة الدول العربية على مستوى القمة. وحذر في الوقت ذاته من “تعقيدات داخلية” و”تداعيات خارجية” للمعارك الدائرة بين أبناء البلد الواحد.
تعد الرسائل التي بعث بها الرئيس تبون، إلى رؤساء منظمات دولية وقارية وإقليمية، برأي مراقبين، ثاني تفاعل للجزائر مع الأحداث الدامية في السودان في ظرف 3 أيام، إذ سبق وعبرت عن بالغ قلقها، السبت، من الاشتباكات المسلحة بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع.
وفي كلتا الخطوتين المتقاربتين، برزت بشكل جلي، صفة «الرئيس الدوري لمجلس جامعة الدول العربية على مستوى القمة»، التي يتولاها الرئيس تبون، منذ الفاتح نوفمبر الماضي، تاريخ احتضان الجزائر للدورة 31 للقمة العربية.
وقبل الخوض في تفاصيل «التحرك الرباعي» الذي تطرحه الجزائر، لابد من التوقف، حسب متابعين، عند الأهمية البالغة لانخراط رئاسة جامعة الدول العربية، في واحدة من أخطر الأزمات العربية في السنوات العشر الأخيرة.
وفي وقت تنبع تفاعلات الجامعة مع هموم العرب، دائما، من أمانتها العامة، رمت الجزائر، هذه المرة، بالثقل الكامل، ومن أعلى مستوى داخل الهيئة، للمساهمة في جهود التهدئة واستئناف العملية السياسية بين الإخوة المتناحرين.
التحرك الجزائري، هو إسناد قوي وترسيخ كبير لدور الجامعة العربية في حل القضايا العربية. والجزائر بذلك تجسد فعليا جزءا حيويا من رؤيتها الإصلاحية للمنظمة والقائم على ضرورة أن تكون فاعلا رئيسيا في حل النزاعات والخلافات التي تنشب بداخل دول عربية أو بين دول عربية.
ووجب الإشارة إلى أن أحلك الأزمات التي شهدتها البلاد العربية منذ 2010، كانت موجودة خارج أجندة الجامعة، ولا تريد الجزائر أن يتكرر الأمر ذاته مع ما تعيشه جمهورية السودان، بل إن ما عبرت عنه، السبت الماضي، واقترحه الرئيس تبون، الثلاثاء، يتوافق تماما مع مطالب القوى الحية وبعض أطراف الأزمة السودانية، التي ناشدت المجتمع العربي والدولي بإبعاد «التدخل الأجنبي» قدر الإمكان عما تمر به حاليا.
ودائما ما تشكل التحركات المنفردة لأطراف معينة، عنوانا للتدخل الأجنبي ومفاقمة الوضع عبر مساندة طرف على حساب آخر، بينما تعتبر المساعي الحميدة التي تقدم عبر المنظمات الحكومية القارية والدولية، أنجع أدوات الدعم والمساهمة البناءة، لأنها تتوفر على شروط الشفافية والمصلحة الجامعة.
من هذا المنطلق، قام السيد عبد المجيد تبون، الرئيس الحالي، لمجلس جامعة الدول العربية على مستوى القمة، بمراسلة الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيرش، الرئيس الحالي للاتحاد الإفريقي، رئيس جمهورية جزر القمر عثمان غزالي، والأمين التنفيذي للإيجاد (الهيئة الحكومية الدولية للتنمية) ورقته جبيهو.
ودعا في الرسائل الثلاث إلى «التفكير في مسعى مشترك وموحد بين المنظمات الأربع، من أجل تهدئة الأوضاع والتأسيس لحقبة جديدة تلبي طموحات الشعب السوداني»، أي أن الرئيس تبون يقترح، وفق مختصين، تشكيل ما يمكن وصفه بـ «وساطة دولية»، تعمل في مرحلة أولى على وقف إطلاق النار، واستعادة الهدوء، ثم بحث رؤية لوضع آليات سلام ومصالحة بين الأشقاء السودانيين، في مرحلة لاحقة.
وتشكل المنظمات الأربع، ممثلة في جامعة الدول العربية، الاتحاد الإفريقي، الإيجاد والأمم المتحدة، قاعدة «رباعية صلبة» لمعالجة الأزمة السودانية، بأبعادها السياسية، الأمنية، الاقتصادية والاجتماعية، لما تحوز عليه من ثقل وعلاقات وطيدة داخل السودان، بحكم تعاونها الكثيف مع البلد منذ عقود.
تدخل جماعي ومستعجل
وما يقترحه الرئيس تبون، هو تجميع جهود المنظمات بعدما تحركت بشكل فردي منذ اندلاع المواجهات المسلحة بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، عبر إنشاء لجنة تنسيق أو وساطة رباعية، يكون لها الثقل الضروري، للتواصل بفاعلية أكبر مع طرفي الصراع، وممارسة الضغط الإيجابي الذي من شأنه إسكات البنادق.
وإلى جانب التحرك «الجماعي»، يشدد الرئيس تبون، على أن يكون هذا التحرك «عاجلا»، بالنظر للخسائر البشرية والمادية، الذي يسببها الاقتتال الذي اندلع قبل 05 أيام، وتسبب لحد الآن في سقوط ضحايا مدنيين وخروج مستشفيات عن الخدمة وخلق أزمة مياه حادة.
وكلما كان الجهد الجماعي لهذه المنظمات سريعا، كلما كانت الأضرار أقل مما يمكن أن تكون عليه، على اعتبار أنها تملك قدرة تأثير أفضل من الدور المنفرد لبعض الدول، في ظل حالة الاستقطاب التي يعيشها العالم حاليا، وتباين مواقف الخمسة الكبار بمجلس الأمن الدولي.
ولأن النزاع المسلح في شرق أوروبا، يستهلك وقت وجهد الغرب وروسيا، فإن أفضل إطار لاحتواء الأزمة في السودان، هو المجموعات الإقليمية، القارية والدولية، والتي تعمل وفق مبادئ التعددية وتوزان المصالح.
ما يقترحه رئيس الجمهورية، نابع من قراءة لوضع خطير ناجم عن أزمة عميقة يعيشها السودان، ويمكن أن تنجم عنه تعقيدات داخلية وتداعيات خارجية، مثلما قال في رسائله الثلاث.
وفي ثنايا هذه التوصيفات، يكمن التقييم الواقعي لما يجري في السودان. فالبلد، وبإجماع الخبراء، أمام أخطر أزمة يمر بها منذ 1956، لأن الجيش النظامي الذي قوامه أزيد من 200 ألف فرد، يقاتل قوات غير نظامية يقدر عددها بـ100 ألف عنصر، وتدور المعارك بداخل العاصمة الخرطوم وبالقرب من أهم المؤسسات الحيوية والإستراتيجية للبلاد.
صعوبة الحسم العسكري، بين الطرفين المتصارعين، تقود بالضرورة إلى بزوغ السيناريو المفزع، والمتمثل في «التقسيم» والذي طارد كشبح مرعب الجمهورية السودانية، منذ خمسينيات القرن الماضي.
والتعقيدات الداخلية التي يحذر منها رئيس الجمهورية، هي أن ينتصر طرف على آخر، ويخسر الوحدة الترابية والوطنية للبلاد، أو يصبح المخطط الشيطاني، الرامي إلى إزالة دول كاملة من الخريطة واقعا ينتقل كعدوى بين مختلف المناطق.
من هذا المنطلق تعتبر الدول العربية عبر جامعتها، أولى بالتحرك بأقصى سرعة وبأكبر قوة ممكنة لاحتواء الأزمة، وإعادة بعث العملية السياسية ومراقبتها عن كثب إلى غاية التعافي التدريجي.