الرّهان على التكنولوجيات الحديثة، أمر محمود، وهو مطلوب ومرغوب، وينبغي الحرص على تحصيل جميع المعارف المتعلقة به، بل التعمق في تفاصيل المعرفة، فالعالم اليوم يتّجه إلى أسلوب في الحياة مختلف تماما عمّا عرفناه في زمن انتظار ساعي البريد.. غير أنّنا، مع كل ما نعيش في زمن (الديجيتال)، لا ينبغي أن نفرّط فيما هو انساني، فننشغل بـ”الرياضيات” ونهمل «الأدب»، وننهمك على (الشات جي بي تي) دون أن ننتبه إلى «الفلسفة»، فالعلوم الإنسانية ليست سقط متاع، ولا أقل درجة وأهمية من العلوم الطبيعية والتقنية..
ولسنا نحتاج إلى تقديم البراهين على أن الأولوية ينبغي أن تكون للعلوم الإنسانية، فهذا تحصيل حاصل، والضفة الغربية لم تكن لتتوصل إلى المنجز التقني العظيم، لو لم تؤسس للمنجز الإنساني الأعظم، والشيخ نيوتن نفسُه، لم يكن ليطرح سؤال (لماذا سقطت التفاحة؟) لو لم يكن فيلسوفا حاذقا، وقارئا عارفا بخفايا الأدب وأصوله، ما منحه السعة في الرؤية، والقدرة على التحليل، والبراعة في الاختراع، ثم إن «الرياضيات» ـ بشخصها ـ أقرب إلى الفلسفة من أيّ علم آخر، وهي لا تتاح لمن لا يفهم أسلوب اشتغال المنطق، ولا لمن لا يقدر على طرح السؤال الحصيف، وعلى هذا، ينبغي الحذر من الوقوع في فخّ المفاضلة بين العلوم، أو السّخرية ممن يشتغلون بالأدب والشعر، على أساس أنهم «يبيعون الكلام»..
إن «الكمبيوتر» ليس سوى أداة من أليمنيوم وبلاستيك ومواد أخرى، وهو لا يملك أي معرفة، وكل ما يعرض على شاشته من روائع يبهر بها مستعمله، ليس من بنات فكره، وإنّما هو خلاصة أفكار أناس بلغوا في الإبداع مستوى الخيال.. والقدرة على «الخيال» إنما تتوسع وتتخصب وتصبح منتجة، بفضل التدريب الدائم في (ميادين) الأعمال الأدبية والفنية..