حينما نتحدث عن «الكتابة»، فإننا لا نقصد إلى جمال الأسلوب وحلاوته، ولا إلى حسن التركيب وتماسكه، فهذا – في جهد الكاتب – تحصيل حاصل، إذ لا يمكن للواحد من الناس أن يشتغل بالكتابة حين يكون عاجزا عن إعراب كلامه، قاصرا عن ترتيب معانيه..
ولا يختلف الأمر إذا تحدّثنا عن «الشّعر»، فنحن لا نقصد إلى الإلمام بعلم العروض وأحكامه، ولا إلى معرفة أجناس القول الشعري، فهذا أيضا تحصيل حاصل بالنسبة لمن نتوسم فيه أنه الشاعر.. غير أنّنا لا نطلق صفة «الكاتب» ولا صفة «الشاعر» إلا على من يتجاوز «تحصيل الحاصل» إلى العبقرية الفنية، والقدرة العالية على تطويع المعاني، فهذا وحده الذي يتميّز برؤية مؤسّسة واضحة، ويعرف كيف يسيّر القيم الإنسانية العليا، ويعرف كيف يجلبها من علياء التجريد المحض، إلى واقع الناس المعيش..
حفظنا في زمن الطفولة قصة شعرية للأمير أحمد شوقي، تروي حديثا جرى بين عصفورتين تعيشان بالحجاز في (خامل من الرياض لا ندٍ ولا حسن)، وريح سرت من اليمن حاولت أن تقنع العصفورتين بالهجرة إلى بلاد ذي يزن، وهي تصف لهما حلاوة العيش ولذّة الحب وطراوة الماء، فجاء رد العصفورة رائعا: هب جنّة الخلد اليمن/ لا شيء يعدل الوطن..
ويحفظ أبناؤنا اليوم قصة شعرية شبيهة، تروى حكاية حمامة ترغب في الهجرة، ويحاول الشاعر أن يقنعها بجمال الوطن وكرمه، فتعترف أمامه أنها تحب موطنها وأسرتها ومسكنها، لكنّها تصرّ على الهجرة؛ لأنها لا ترى سعادتها إلا في حريّتها..
مقارنة بسيطة بين ما حفظنا، وما يحفظ أبناؤنا، تكفل التمييز بين الرسالتين، وإذا اعترفنا لصاحب الحمامة بحقّه في التعبير عن شعوره، فالواجب يقتضي أن يعترف لنا بحقنا في عدم تشجيع «الحمام» على الحرقة..