تحل الذّكرى الخمسين لتأسيس الجبهة الشعبية لتحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب “بوليساريو”، باعتبارها الممثل الشرعي والوحيد للشعب الصحراوي، وحارس مقدّراته وثرواته المغتصبة.
الذّكرى الخمسون جاءت في ظرف محلي مختلف تميز باستئناف الكفاح المسلح ضد المحتل المغربي المتعنت والرافض للانصياع للشرعية الدولية. لكن، ورغم الظلم والضيم، استطاعت الجمهورية الصحراوية ممثلة في جبهة “بوليساريو”، وعلى مدار نصف قرن من النضال السياسي والكفاح المسلح، افتكاك كثير من الانتصارات، والاعتراف من دول ومنظمات دولية، سواء تلك التي تعترف بالجمهورية الصحراوية دولة كاملة السيادة، وتخضع لاحتلال يجب أن يصفّى، أو تلك التي تعترف بالجبهة ممثلا شرعيا لشعب يسعى لاسترجاع سيادته على أرضه المسلوبة منذ قرابة قرنين، لتكون القضية الصحراوية أطول حالة استعمار في العصر الحديث، تنتظر إرادة سياسية دولية للاستجابة لكفاحها من أجل إنهاء الاحتلال.
في ذكرى تأسيسها، احتضنت العديد من العواصم الأوروبية والأمريكو-لاتينية تظاهرات احتفالية مساندة ومتضامنة مع الشعب الصحراوي المكافح لنيل الاستقلال، من تنظيم سفارات الجمهورية العربية الصحراوية في تلك العواصم. وبالتزامن، كانت جبهة “بوليساريو” قد شاركت في حدث مهم احتضنته الجزائر وحضرته دول من شمال إفريقيا، جلست إلى طاولة واحدة مع الجبهة، ويتعلق الأمر باجتماع “قدرة شمال إفريقيا، نارك”، ليضاف الحدث إلى قائمة انتصارات القضية الصحراوية على حساب المحتل الذي دخل في دائرة عزلة تضيق عليه يوما بعد يوم.
التّأسيس والمسار
تأسّست الجبهة الشعبية لتحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب، “بوليساريو” يوم 10 ماي 1973، لمقاومة الاستعمار الإسباني تمهيدا لإعلان قيام الجمهورية العربية الصحراوية. تزامن التأسيس والثنائية القطبية، حيث لقيت دعما كبيرا من الدول الاشتراكية التي عانت في مجملها من نير الاحتلال الغربي، واختارت بعد استقلالها النهج الاشتراكي، وبحلول العام 1989 حصلت الجمهورية العربية الصحراوية على اعتراف 74 دولة عبر العالم.
الجبهة التي أسّسها مجموعة من الشباب الصحراويين، استطاعت دحر الاحتلال الاسباني الذي استمرّ تسعة عقود، وتمكنت من طرده يوم 14 نوفمبر 1975، لكن فرحة النصر لم تكتمل بسبب ما يعرف بـ “اتفاقية مدريد”، والتي تم بموجبها تقسيم الأراضي الصحراوية بين المغرب وموريتانيا. في الشهر نفسه، وقبيل توقيع اتفاقية مدريد المشؤومة، أطلق المخزن “مسيرة العار” لاحتلال الأراضي الصحراوية التي لم يبذل جهدا في تحريرها، من أجل الضغط على إسبانيا لتسليمه الصحراء الغربية.
والملاحظ على هذه الاتفاقية التي وقّعتها مدريد والرباط ونواكشط، أنها لم تراع وجود الطرف المعني، وهو الصحراء الغربية، حيث وقعت بين دول جوار رضيت بتقسيم الأرض، وهو ما يعني قطعا أنهما لا تملكان تلك الأرض، إذ لا يمكن لدولة أن توافق على تقاسم شبر من إقليمها مع دولة أخرى. كما أن كل بنود الاتفاقية لم تطبق باستثناء التقسيم، وبقي “الاستفتاء” الذي كان مقررا العام 1976 معلّقا إلى حد كتابة هذه الأسطر.
العمل العسكري
بعد تأسيسها بعشرة أيام فقط، انطلق العمل العسكري لجبهة “بوليساريو”، أي يوم 20 ماي 1973 بالهجوم على الحامية الإسبانية بموضع “الخنكة”، ونالت دعما عسكريا من دول الجوار، في إطار مبادئ منظمة الوحدة الإفريقية فيما تعلق بدعم قضايا التحرر، ما أجبر المحتل الاسباني على الانسحاب المبدئي، على أن يكون نهائيا بحلول فيفري 1976. وبسبب تقسيم الجمهورية الصحراوية بين دولتين جارتين، خاضت “بوليساريو” مقاومة مسلحة جديدة ضد التواجد الموريتاني والمغربي.
تخلت نواكشط على وادي الذهب الذي ولتها عليه إسبانيا في اتفاقية مدريد، التي قلنا إنها قسمت الصحراء الغربية إلى إقليمين: الساقية الحمراء في الشمال للمغرب، ووادي الذهب في الجنوب لموريتانيا، ووقعت الاخيرة اتفاقية التنازل يوم 5 أوت 1979.
وكان من المقرر – حسب اتفاقية مدريد – أن تنظم إسبانيا استفتاءً شعبيا لتقرير المصير، حيث أجرت إسبانيا إحصاءً سكانيا لإقليم الصحراء، تحضيرا لإجراء استفتاء العام 1976، وهو العام الذي كان من المقرر فيه إنهاء الوجود الإسباني.
ومنذ ذلك التاريخ نشبت العديد من المعارك بين جيش “بوليساريو” وجيش المخزن، ولمحاصرة الجبهة، بنى الاحتلال المغربي حائطا على طول الصحراء الغربية يقسمها نصفين، شرقي وغربي، حيث استأثر بالساحل الغني بالثروات السمكية ومناجم الفوسفات، وحصر الصحراويين في إقليم حبيس. وبعد سنوات من القتال انتهى الطرفان إلى توقيع اتفاق لوقف القتال العام 1991، دام قرابة ثلاثة عقود، قبل أن يعود المغرب إلى خرقه.
استئناف الكفاح..الأسباب والمآلات
بتاريخ 13 نوفمبر 2020، أنهى الاحتلال المغربي وقف إطلاق النار الموقّع مع “بوليساريو”، عندما قامت قواته بفتح ثلاث ثغرات جديدة في جدار العار العسكري لمهاجمة المتظاهرين السلميين الصحراويين المعتصمين بـ “الكركرات”.
ومكّنت الخطوة غير المحسوبة للمحتل المغربي، القضية الصحراوية من حشد المزيد من التأييد الدولي، وفي السياق قال مسؤول أمانة التنظيم السياسي لجبهة البوليساريو، خطري أدوه، بمناسبة الذكرى الأولى لاستئناف الكفاح المسلح في الصحراء الغربية، إنّ العمل “لفت انتباه المجتمع الدولي من جديد للقضية الصحراوية، كقضية تصفية استعمار”، وأكّد للعالم أن الشعب الصّحراوي عازم على انتزاع حقه في تقرير المصير.
وقد استجاب مجلس الأمن والسلم الإفريقي، حسب المسؤول، بشكل فوري، وأعاد البحث عن الحل السلمي إلى قاعدته الحقيقية، والتي هي تسوية النزاع القائم بين الدولتين العضوين في الاتحاد الإفريقي: الجمهورية الصحراوية والمملكة المغربية. كما أن الجمعية العامة للأمم المتحدة، واللجنة الرابعة الخاصة بتصفية الاستعمار، أصدرت منذ أيام قرارا جددت فيه التأكيد على أن القضية الصحراوية هي قضية تصفية استعمار، وأن حلها يكمن في تطبيق قرارات الأمم المتحدة ذات الصلة.
المؤتمر السّادس عشر
انعقد المؤتمر السادس عشر لجبهة “بوليساريو”، في ظروف داخلية ودولية مغايرة لسابقيه. فداخليا، تزامن واستئناف القتال مع المحتل المغربي، أما دوليا فتميز ببداية تراجع الهيمنة الغربية في صورتها المطلقة، خاصة مع تداعيات فيروس كورونا، وبروز علني لقوى جديدة منافسة للقوى التقليدية. وظهرت – في السياق – تحالفات دولية جديدة، أعطت الأمل في نصرة القضايا العادلة العالقة، ومنها القضية الصحراوية.
وكان الحدث فرصة سانحة للتعريف أكثر بالقضية الصحراوية، والتأكيد على عدالتها، خاصة في خضم الانتهاكات الجسيمة لحقوق الانسان من طرف جلادي المخزن ضد المدنيين الصحراويين العزل، والأسرى في السجون المغربية.
حظي المؤتمر السادس عشر لـ “بوليساريو”، بحضور دولي ومنظمات مكثف من القارات الثلاثة، أوروبا وأمريكا اللاتينية وإفريقيا طبعا. وبلغ تعداد الدول المشاركة ثلاثين دولة تمثلها عشرات الوفود، وأكثر من ألفي مشارك، شهدوا على عزم الجبهة على مواصلة الكفاح المسلح حتى تحقيق النصر.
ولقي المؤتمر نجاحا باهرا بدليل التضامن الواسع الذي شهدته الدول المشاركة، خاصة في أوروبا وأمريكا اللاتينية. وتزامن المؤتمر أيضا مع فضيحة “مغرب غيت”، فضيحة الرشاوى المغربية لنواب أوروبيين من أجل تغيير مسار القرارات والنقاشات داخل البرلمان الأوروبي، لصالح المغرب وضد الصحراء الغربية، وهو ما دفع عديد البرلمانيين إلى المطالبة بمراجعة كل القرارات الصادرة منذ 2014 إلى 2022. واتخذت إجراءات صارمة ضد المغرب بلغت حد منع برلمانييه من دخول البرلمان الأوروبي، ووقف الزيارات والمؤتمرات بين الطرفين في الفترة بين جانفي إلى جوان المقبل.
زخم قوي للقضية
وكانت هذه الفضيحة بمثابة دفع آخر لفضح المحتل المغربي وتلاعباته. ما حدا بمنظمات المجتمع المدني والأحزاب السياسية الأوروبية إلى تنظيم ندوات تضامنية للتعريف أكثر بالقضية العادلة، وعلى رأسهم المنظمات الإسبانية، لما لبلادهم من تأثير مباشر في مأساة الشعب الصحراوي، مرة بتسليم الصحراء الغربية للمحتل المغربي، وأخرى بتحول موقف رئيس الوزراء بيدرو سانشيز الجذري إزاء القضية.
ومن أوروبا إلى أمريكا اللاتينية، حظيت القضية الصحراوية بترويج واسع من خلال تنظيم ندوات واحتضان مهرجانات على شرف دبلوماسيين صحراويين، بهدف حشد تضامن أكبر، خاصة وأن دول القارة الجنوبية عانت من ويلات الاستعمار الأوروبي أيّما معاناة، حيث نظّمت العديد من النشاطات في كولومبيا ودول الأنديز، وفنزويلا وكوبا، وغيرها، تخليدا للذكرى الخمسين لتأسيس الجبهة.
وعلى مستوى القارة الإفريقية، يعترف أكثر من ثلثي دول القارة بجمهورية الصحراء الغربية، ويزداد العدد ويتناقص في كل مرة، حيث أن كثيرا من الدول اعترفت مرارا ثم سحبت اعترافها ثم عادت واعترفت، وهو ما يفسره البعض على أنه ابتزاز مغربي لتلك الدول، إذ وفي آخر مسرحياته، نظّم المغرب تجمعا لدبلوماسيين أفارقة سابقين، لم تعد لهم صفة تمثيلية لدولهم، وأعلن ما سماه “نداء طنجة”، الذي ادّعى فيه أن دبلوماسيين أفارقة يطالبون بطرد بوليساريو من الاتحاد الإفريقي، وهي عضو مؤسس لمنظمة الوحدة الإفريقية (التسمية الأولى للاتحاد الإفريقي إلى غاية 2002)، وهو ما فندته دول من خلال بيانات رسمية عبر وزاراتها للخارجية.
انتصارات قضائية
رغم كل الصعاب والعقبات التي واجهها النضال السياسي والكفاح المسلح لـ “بوليساريو”، إلا أنها استطاعت أن تفتك قرارات وأحكام قضائية من المحكمة الأوروبية والمحكمة الإفريقية، تقوي وضعها القانوني باعتبارها قضية تصفية استعمار. ففي 29 سبتمبر 2021، قضت محكمة العدل الأوروبية بإلغاء العمل باتفاقيتين تجاريتين بين الاتحاد الأوروبي والمغرب، على أساس أنهما تشملان منتجات قادمة من الصحراء الغربية. واعتبرت أن الاتفاقيتين اللتين أبرمهما الاتحاد الأوروبي مع المغرب، لم تراعيا ضرورة الحصول على موافقة شعب الصحراء الغربية، باعتباره طرفا معنيا بهما”، و«أنهما لا تمنحانه حقوقا بل تفرضان عليه واجبات”.
وأكّد القرار الأوروبي أن المغرب ليس له أي سيادة على الصحراء الغربية، وكرّس في الوقت نفسه الاعتراف بجبهة البوليساريو ليس كممثل شرعي للشعب الصحراوي وحسب، وإنما أيضا بما هي صاحبة الحق في الدفاع عن الشعب الصحراوي وثرواته.
من جهته، كان مجلس الدولة الفرنسي أصدر قرارا بوقف صادرات المغرب نحو فرنسا، ويتعلق الأمر بالمنتجات الفلاحية القادمة من الأراضي الصحراوية، نزولا عند طلب اتحاد الفلاحيين الفرنسيين، وتطبيقا لقرارات محكمة العدل الأوروبية الصادر العام 2016 الذي أقرت خلاله أن إقليم الصحراء الغربية وإقليم المغرب منفصلان.
وبتاريخ 22 سبتمبر 2022، أصدرت المحكمة الإفريقية لحقوق الإنسان والشعوب حكما يقضي بضرورة إيجاد حل دائم لاحتلال الصحراء الغربية. وشجبت المحكمة الإفريقية لحقوق الإنسان والشعوب الاحتلال المغربي للصحراء الغربية باعتباره “انتهاكا خطيرا للحق في تقرير المصير”. وشدّدت على أن جميع الدول الأعضاء في الاتحاد الإفريقي “تتحمل المسؤولية بموجب القانون الدولي، في إيجاد حل دائم للاحتلال، وضمان تمتع الشعب الصحراوي بحق تقرير المصير، وفي عدم القيام بأي عمل من شأنه الاعتراف بأن هذا الاحتلال قانوني، أو من شأنه أن يتعارض مع التمتع بهذا الحق”.
إضافة إلى قراري المجلس التنفيذي للإتحاد الإفريقي الذي دعا فيهما اللجنة الإفريقية لحقوق الإنسان والشعوب إلى زيارة أراضي الجمهورية الصحراوية المحتلة من أجل الاطلاع على حقيقة الإنتهاكات المغربية لحقوق الإنسان والشعوب، المرتكبة في حق الشعب الصحراوي بدون عقاب ولا حساب، بالإضافة إلى العمل على الافراج عن كافة السجناء السياسيين الصحراويين واسترجاع حريتهم وضمان كامل حقوقهم كمدنيين ونشطاء حقوقيين وسياسيين وإعلاميين لهم الحق في إبداء الرأي، والدفاع عنه بما يكفله القانون الدولي الإنساني والمواثيق الدولية ذات الصلة.