الحديث عن ظاهرة الإدمان على المخدرات ومختلف السموم، لم يعد مجرد حديث على ظاهرة انتشرت في مجتمعنا وتفاقمت مع مرور السنين وإن لم نقل مع مرور الأيام، لدرجة أنها أصبحت ترسم تقاسيم يوميات الكثير من العائلات في مجتمعنا، التي لم تعد أسوار منازلها تحمل صفات العائلات المتماسكة، وإنما تحوّلت إلى قصص وحكايات واقعية غيّرت تفاصيل الحياة ومفهوم المجتمع.
تناول موضوع المخدرات اليوم يقودنا حتما إلى سرد قصص عن منازل تدمرت وعائلات تفككت، ومجتمع لم يعد يقوى على مجابهة مخاطر هذه الظاهرة التي ضربت عمق المجتمع واستهدفت قاعدته الأساسية المتمثلة في شباب وأطفال صغار، الأمر الذي دفع بالمختصين في مختلف القطاعات إلى دق ناقوس الخطر لإنقاذ المركب من الغرق قبل أن يهلك الجميع فيه، فلم تعد المسألة تتعلق بحالات مدمنين فقط، وإنما ألقت بظلالها على مختلف جوانب الحياة في مجتمعنا، لتعطي لنا تفاصيل وتقاسيم مجتمع جديد غريب عن عاداتنا وتقاليدنا وحتى المبادئ والأسس التي تربينا عليها وعهدناها في مجتمعنا.
استنطاق الصمت..
تغوص بنا ظاهرة المخدرات في عالم مخيف، من خلال التقرب من مدمنين عايشوا هذه التجربة المريرة التي قادت كثيرين منهم إلى المؤسسات الاستشفائية المتخصصة في الأمراض العقلية في عديد ولايات الوطن..
توجهت «الشعب» إلى المؤسسة الاستشفائية المتخصصة في الأمراض العقلية «فرنان حنفي» واد عيسي في تيزي وزو، لرفع الستار على بعض جوانب هذه الظاهرة الخطيرة من خلال الحوار الذي جمعنا مع السيدة أوشاعو نسيمة، أخصائية في علم النفس العيادي على مستوى المؤسسة، وخبيرة على مستوى مجلس قضاء تيزي وزو، ورئيسة نقابة النفسانيين بالولاية، من أجل نفض الغبار على بعض الجوانب التي يمكن ان تساعدنا في التحسيس من مخاطر المخدرات والإدمان عليها، ووضع حد لهذه الظاهرة الخطيرة التي أدخلت شبابنا في نفق مظلم لا يجدون له نهاية، وقلّ من يخرج منه بسلامة إلى برّ الأمان.
زيارة سمحت لنا بالاستماع إلى قصص مدمنين عاثت فيهم المخدرات فسادا، وأفقدتهم بوصلة الحقيقة، الأمان والاستقرار، سموم بيضاء زادت من نزيف جراحهم وجعلتها غائرة لدرجة محاولة بعضهم الانتحار للتخلص من حزن قاتل وكسر قيود عبوديتهم للمخدرات.
مخدرات تقودها إلى المجهول..
أدت قصص الإدمان على المخدرات التي كان ضحاياها شباب وفتيات في مقتبل العمر، وجدوا أنفسهم في دهاليز هذا العالم المظلم المليء بالنهايات المؤلمة والقاسية، ولعلّ هذه الواقعة واحدة من ملايين الوقائع التي بدأت بجرعة مخدر بحثا عن النشوة لتتطور إلى قصة حزن أبدية كتبت تفاصيلها دموع ومعاناة فتاة شدت رحالها إلى إحدى الولايات الشرقية، بعدما تحصّلت على شهادة البكالويا في إحدى ثانويات ولاية تيزي وزو، لتبدأ رحلة أحلامها انطلاقا من جامعة إحدى الولايات الشرقية التي قصدتها لاستكمال دراستها، إلا أن حياتها تغيرت في لمح البصر، وانطلقت بعد أن تعرفت على شاب في تلك الولاية جمعتها به قصة حب، وتحت مسمى الحب بدأت المساومة والرغبة في تجربة كل شيء، تحضيرا لمصير مؤلم ونهاية مأساوية.
أقنعها الشاب بأن تتناول السيجارة وبعدها مختلف المشروبات الكحولية، ليتطور الأمر إلى تجربة مختلفة عن السموم والمخدرات التي أدمنت عليها وأفقدتها أعز ما تملك الفتاة.. شرفها، ليتخلى عنها بعدها ويقطع علاقته بها رغم محاولتها العديدة لإقناعه بالزواج بها والتستر عليها، ولكنه لم يعرها أي اهتمام.
تخلت عن حلم استكمال الدراسة الجامعية، وابتعدت عن منزلها الذي لا تقصده إلا مرة في السنة، الأمر الذي أثار شكوك عائلتها ليبدأ والدها رحلة بحث عن ابنته التي تغيرت تصرفاتها وسلوكها، ما دفعه للذهاب إلى الجامعة أين التقى بها صدفة وقام بإرجاعها إلى تيزي وزو، ولأن ملامح وجهها قد تغيرت وعلامات الإدمان بادية على وجهها، رفض عودتها مجددا إلى الدراسة، وقرر تسجيلها في إحدى الجامعات القريبة، ولكنها رفضت مواصلة دراستها بعدما أصابها الاكتئاب الشديد.
حاولت الهروب من المنزل في عدة مرات وقد تعرضت للاغتصاب بعدما تم اختطافها، ولكن عائلتها استنجدت بالمختصين على مستوى المؤسسة الاستشفائية المختصة في الأمراض العقلية بواد عيسي في تيزي وزو، والتي باشرت معهم رحلة العلاج الطويل الذي كشف عن مرض عقلي تعانيه الفتاة والإدمان على المخدرات، فجر ذلك المرض، واليوم هي متواجدة على مستوى المستشفى الجامعي نذير محمد بتيزي وزو لتلقي العلاج الذي سيكون طويلا، خاصة وأنها قد تقدمت كثيرا في حالتها، على أمل أن تنتصر على هذه الآفة وتعود إلى حياتها الطبيعية التي لن تكون سهلة ولكن علاجها هو أول خطوة للعودة إلى أحضان عائلتها ومواجهة الواقع مجددا.
استدرجوه إلى المخدرات طمعًا في ثراء عائلته
القصة الثانية هي قصة طالب ثانوي في السابعة عشرة من عمره، كان بصدد التحضير لشهادة البكالوريا لتحقيق حلمه في دخول الجامعة لاستكمال دراسته والحصول على شهادة تفتح أمامه أبواب المستقبل، ولكن بارونات المخدرات كانوا يترصدونه طيلة تلك الفترة، خاصة وأنه كان من التلاميذ اللامعين في الثانوية، وكان منعزلا لا يخالط أحدا، ولكن ثراء عائلته أسال لعاب صائدي الفرائس طمعا في ملء الجيوب، ليبدأوا باستدراجه من أمام باب الثانوية طالبين منه أن يجرب هذه المخدرات والمهلوسات من باب التجربة فقط، وبعد إقناعه بدأوا بتزويده بمختلف الجرعات لمدة أسبوع حتى يدمن عليها، ويضمنون زبونا ثريا، إلا أن هذا الشاب لم يستطع تحمل التغيرات الحاصلة داخل جسده، ليدخل في مرحلة الهذيان الأمر الذي ساعد في اكتشافه من طرف أفراد عائلته الذين وجهوه إلى مختصين لتلقي العلاج.
وبفضل الدعم الذي تلقاه، استطاع أن يجتاز تلك المرحلة بنجاح والتخلص من تلك السموم خاصة وأنه في بداية إدمانه، ليتحصل على شهادة البكالوريا التي مكنته من دخول الجامعة واستكمال دراسته التي أهلته ان يكون إطارا في المجتمع، هي قصة شاب استطاع بقوته وشجاعته ودعم عائلته أن يتغلب على هذه الآفة التي كادت أن ترديه المهالك وتدخله في نفق مظلم لا نهاية له.
أوشاعو: التواصل الأسري لبنة في جدار التصدي للآفات
قالت أوشاعو نسيمة أخصائية في علم النفس العيادي على مستوى المؤسسة الاستشفائية المتخصصة في الأمراض العقلية «فرنان حنفي» واد عيسى في تيزي وزو في حديثها مع «الشعب»، إن ظاهرة تعاطي المخدرات وانتشار مختلف السموم تفاقمت كثيرا خلال السنوات الأخيرة، وقد ارتفع عدد المدمنين بالمقارنة على ما كان عليه في السنوات الماضية، وهو الأمر الذي وقفت عليه شخصيا خلال جلسات العلاج مع المدمنين.
وأشارت أوشاعو إلى أن الحديث المخدرات يقودنا دائما إلى الغوص في خبايا المجتمع للكشف عن قصص وحكايات واقعية فككت أسرا، وأنهكت المجتمع برمته، مرجعة انتشار هذه الظاهرة إلى التغيرات الحاصلة في المجتمع وعديد المشاكل التي تعيشها العائلات، إلى جانب غياب التواصل بين أفراد العائلة خاصة الأطفال وذلك لغياب المعلومات عن هذه الظاهرة ومخاطر المخدرات، حيث يعتقد الأولياء أن مجرد الحديث عنها يقود أبنائهم إلى اكتشافها، وهذا عكس التوقعات، حيث يعتبر الحديث عن هذه الظاهرة بحسب تصريحات محدثتنا أولى خطوات تنبيه الأبناء حول مخاطرها وتجنيبهم دخول هذا العالم الخطير الذي يكتشفونه بمفردهم في الخارج عن طريق الاختلاط واصطيادهم بطريقة سهلة من طرف مروجي وبارونات المخدرات الذي يجدون في المراهقين لقمة سائغة وربحا وفيرا، فيدفعون بهم إلى عالم الانحراف من أجل الحصول على الأموال بشتى الطرق لاقتناء السموم بعد إدمانهم عليها، وهذا ما أدى إلى انتشار الإجرام وتفاقمه في المجتمع، حيث نسجل يوميا عدة حوادث وجرائم قتل سجلت فصولا قاسية في حياة العائلات.
ضرورة مُلحة
في هذا الصدد، أبرزت المختصة النفسانية أن غياب الوازع الديني، تغيّر النمط المعيشي، عدم النضج الفكري والعاطفي، الانترنيت وسلبياته وكل ما يفرزه من محتوى، كلها أسباب فتحت أبواب الإدمان على مصراعيها للشباب والفتيات، قادهم الفضول من جهة، والحالات المرضية من جهة أخرى، إلى دخول هذا العالم الموحش الذي رسم تقاسيمه بارونات المخدرات والمهلوسات.. عرفوا نقاط ضعفهم واستغلوها لاستدراج أكبر عدد من الضحايا من أجل بناء إمبراطوريتهم على حساب معاناة العائلات والمجتمع الذي أنهكته هذه الظاهرة خاصة وأنها تعرف انتشارا واسعا في مختلف ولايات الوطن، وأصبحت تستهدف أطفالا في عمر الزهور، يصطادون في مختلف الأماكن خاصة أمام المؤسسات التربوية التي أصبحت الوجهة المفضلة لمروجي المخدرات.
تفاقم الظاهرة دفع مختلف الفئات إلى دق ناقوس الخطر، لمجابهة هذا المرض المستعصي الذي نخر المجتمع ووجد ضالته في الانتشار من خلال استهداف البراءة الذين لا يعون مخاطر هذه المخدرات التي غيرت مسار حياتهم-بحسب المختصة-، ليجدوا أنفسهم ضحايا بارونات هدفهم الوحيد الكسب السريع.
في ذات السياق، ترى أشاعو ضرورة تظافر الجهود ومشاركة كل الأخصائيين والفاعلين الاجتماعيين من أجل وضع حد لهذه الظاهرة، في ظل غياب دور الفاعلين الذين تركوا المجال لهؤلاء المروجين الذين استغلوا هذا الفراغ من أجل بث سمومهم في المجتمع، مشيرة إلى ضرورة تكثيف الحملات التحسيسية من أجل توعية البراءة والشباب من مخاطر هذه الآفة التي تنعكس سلبا على حياتهم وتقودهم إلى دخول عالم الانحراف والإجرام الذي ينهي حياة الكثير منهم، ويوقع آخرون بين جدران الزنزانات والسجون.
وعليه، تؤكد محدثتنا على وجوب توحيد جهود جميع الفاعلين والمصالح «من مديريات الأمن، التجارة، التربية والتعليم، الأسرة مديريات الشباب والرياضة إلى جانب المؤسسات الصحية التي ترى أن دورها في التعريف بمخاطرها على الصحة، وليس القيام بالدور الرئيسي في مكافحة هذه الظاهرة، لأن وصول المدمن إلى أروقة المستشفيات تعني وصوله إلى المرحلة الأخيرة من سلسلة مجابهة هذه الآفة والظاهرة الخطيرة التي استفحلت بشكل كبير في مجتمعنا.
الإمام شايب محمد مسـعود: ترويج الآفات.. اعـتداء على المجتمع
يقول الشيخ شايب محمد مسعود، إمام مسجد قرية «تافسة بوماد» ببلدية اقني ايغران دائرة واضية، أنهم كأئمة مساجد ينبذون ظاهرة المخدرات لذلك يسلطون الضوء عليها في كل المناسبات وخطب الجمعة والدروس المسجدية، كون المهلوسات والمخدرات خطر حقيقي على المجتمع لتسببها في جرائم قتل ضحايا أفراد العائلة الواحدة وآفات اجتماعية آثارها وخيمة على المجتمع، وهو السبب في تحريم الإسلام كل ما يذهب العقل.
هذا، وقد أشار إلى ظاهرة الاعتداء على الأئمة التي طفت على السطح خلال الآونة الأخيرة والتي كان مقترفوها تحت تأثير المخدرات والمهلوسات، هذه الظاهرة التي ضيعت خيرة الشباب، وزهرة المجتمع إلى جانب الأطفال الصغار الذين أفلستهم هذه المخدرات التي أصبحت تروّج داخل المؤسسات التربوية، لهذا حرّمها الدين الحنيف كونها تؤدي الى الشرور وفعل المنكرات والتعدي على حرمة المجتمع.
وقال الشيخ شايب ان ديننا الحنيف حرّمها لأنها تؤدي إلى الشرور وفعل المنكرات والتعدي على حرمة المجتمع، لهذا يقوم الأئمة بالدور التوعوي والتحسيسي المنوط بهم من خلال التحدث عن هذه الظاهرة في الخطب ضاربين الأمثلة من الواقع المعاش لإيصال الرسائل وتوعية الاباء والابناء بمخاطر هذه الظاهرة التي استفحلت كثيرا.
وأكد محدثنا ان محاربة الظاهرة تستدعي تجنّد الجميع وتظافر الجهود للحد من هذه الآفة الخطيرة التي تنخر المجتمع، موضحا أنها ظاهرة أفرزتها العولمة، مواقع التواصل الاجتماعي، إلى جانب انعدام الضوابط التي تضبط الأسر في المجتمع، وذلك من خلال تكثيف دورات الاقلاع عن التدخين والمخدرات، والدورات النفسية الاجتماعية والدينية، إلى جانب حملات تحسيسية في الشوارع والأماكن العامة، للحد من انتشار هذه الظاهرة التي أصبحت هاجسا يؤرق الجميع.