يقدم الخبير الاقتصادي البرفسور محفوظ كاوبي، تشريحا دقيقا ومستفيضا عن مسار انضمام الجزائر لمجموعة “بريكس”، والدور المنتظر أن تقوم به في المرحلة المقبلة، كونها تحظى باهتمام دول المجموعة.
ويتحدث كاوبي عن التحول المرتقب أن تشهده المجموعة على عدة أصعدة مالية واقتصادية وتجارية وجيوسياسية من شأنها أن تفضي إلى تغير النظام العالمي الاقتصادي والمالي.
سيكون للجزائر دورها الفاعل في عملية البناء المستقبلي داخل بريكس
الشعب: أغلبية دول بريكس، تنظر إلى الجزائر على أنها تتقدم بشكل مثير للإعجاب.. هل هذا يعني اقترابها من الانضمام إلى المجموعة؟
البرفسور محفوظ كاوبي: في الحقيقة، إن مجموعة بريكس، تنظر إلى الجزائر باهتمام، علما أنها تتابع تطورها منذ سنوات، على الأقل منذ سنة 2019، ويمكن القول إن نظرة بريكس إلى الجزائر، نظرة متابعة من جهة، ولكنها تتبع التطور الذي تشهده، ولذا هذا التطور مشكل من ثلاثة أبعاد، بعد جيو استراتيجي لا يمكن إغفاله، لأن الجزائر تتمتع بموقع ومصدر مهم للطاقة، وكذا حلقة وصل بين أوروبا وإفريقيا، بالإضافة إلى ذلك، فإن الجزائر دولة محورية على المستوى المغاربي، كونها أكبر دولة من حيث المساحة، وفوق ذلك دولة محورية في القارة السمراء، وتعد صمام أمان لما تلعبه من دور في ضمان الاستقرار في منطقة هامة والمتمثلة في منطقة الساحل الإفريقي الذي له أهمية كبرى، سواء على مستوى استقرار القارة وكذا ضمان الاستقرار على مستوى القارة الأوروبية..
ثانيا: الجزائر شهدت في المرحلة الأخيرة عمليات بناء مؤسساتي مهم يضمن عملية استقرار، كون الاستقرار يعد الركن الأساسي لبناء عملية التنمية وإرساء اقتصاد قوي. علما أن إعادة التنظيم على المستوى القانوني، باعتماد دستور جديد وهيئات منتخبة جديدة ومؤسسات ستلعب دورا هاما خاصة في المستقبل، من أجل إقامة عملية التنمية ومرافقتها وتجسيدها على أرض الميدان..
المستوى الثالث.. لا يفوتنا أن الجزائر قوّة إقليمية، دون أن ننسى ما تملكه من ثروات معدنية كبيرة تستقطب المستثمرين والدول المهتمة بالاستثمار في هذا المجال. علما أن الاقتصاد يعتبر أساس عملية تحويل الطاقة، ويسجل ذلك في ظل وضع صار فيه الأمن الطاقوي هاجسا لكثير من الدول المتقدمة، يقابله ما تزخر به الجزائر من طاقات أحفورية، بل وأيضا الطاقات المتجددة من هيدروجين أخضر، سواء طاقات شمسية وغيرها من الطاقات.. وحاليا تمت صياغة المشاريع وستدخل في عملية التجسيد في القريب العاجل، وللجزائر كل هذه الطاقات تضاف إليها الطاقات الأحفورية الهامة من غاز وبترول وغاز صخري، كذلك تمتلك احتياطات كبيرة في هذا المجال، وهذا يؤهلها أن تكون بلدا لا يمكن تجاوزه على مستوى التموين بالطاقات وبالثروات المعدنية التي تعد حلقة هامة في عمليات الإنتاج والعملية الاقتصادية.
وزيادة على كل هذا، فإن الجزائر تمتلك الطاقات البشرية الرائدة، وهذا ما يؤهلها أن تتوفر على عامل هام من عوامل التنمية، على اعتبار أن التجربة أثبتت على مستوى العديد من الدول، مثل الصين والهند وماليزيا وغيرها.. لأن العنصر البشري يعد الحلقة الأساسية في بناء اقتصاد قوي، فلا ثروة بدون إنسان. ولما نعلم أن المستوى التعليمي في الجزائر في أطواره الثلاثة يتجاوز معدل أغلب الدول النامية، ومستوى وفرة الطاقة البشرية والتحصيل على مستوى التعليمي والتقني في الجامعات في جميع الاختصاصات، فإن الأمر بات يستقطب الاهتمام، وتجعل العديد من الدول، من بينها دول “بريكس”، تنظر إليها باهتمام لما يمكن أن تلعبه الجزائر في المستقبل من خلال إمكانية بعث عملية النمو برقمين.. أي الزيادة في نسب النمو والدخول في شراكات وتعزيز مجموعة “بريكس”، فالهدف إقامة اقتصاد عالمي متوازن غير تابع للأسواق المالية والأطماع الأمبريالية أساسا.. اقتصاد عالمي يعمل على إحداث توازن ما بين الدول واحترام المصالح دون تدخل وهيمنة.
ماهو الدور الذي يمكن أن تقوم به الجزائر في هذه المجموعة؟
يمكن للجزائر أن تقوم بدور هام للغاية في هذه المجموعة لما لها من ثقل على مستوى المؤهلات، يضاف إليها سمعة الجزائر على المستوى الدبلوماسي والدور الذي لعبته في العديد من الأحيان في حلحلة المشاكل الأمنية والسياسية بل وحتى المشاكل المرتبطة بالطاقة، لأن الجميع يعلم أن للجزائر دور كبير جدا على مستوى منظمة “أوبك و«أوبك بلس”، ودورها سيتجسد أكثر من خلال عملها في إقامة مجموعة دولية جديدة على المستوى الخاص، إذ دور الجزائر يمكن أن يكون كبيرا على مستوى مشروعيتها السياسية، أي تكون وسيطا وسفيرا يحظى بالمشروعية من أجل تجسيد أفكار مجموعة “بريكس” وحلحلة المشاكل التي يمكن أن تقع ما بين العالم الغربي والمجموعة. إلى جانب ذلك، فإن ثقل الجزائر من شأنه أن يضيف الكثير إلى التكتل الاقتصادي على المستوى الأمني والمؤسساتي والطاقوي والجهوي، في إفريقيا وأوروبا. لذا، فإن ثقلها ومشروعيتها سيعطي أكثر ثقلا ومشروعية للمبادئ التي تريد مجموعة “بريكس” أن تجسدها على أرض الميدان. والجميع يعلم أن دور الجزائر على المستوى الطاقوي مهم ويمكن أن يلين العديد من المواقف للدول الغربية، ويجعلها تتقبل المرور إلى عالم آخر سمته التوازن الاقتصادي والمحافظة على المصالح المشتركة دون التدخل في الأمور الداخلية للدول، وهذه المبادئ كانت قد دعت إليها الجزائر منذ عهد الرئيس الراحل هواري بومدين، وكانت سباقة حتى على مستوى الأمم المتحدة إلى المطالبة بإقامة نظام اقتصادي عالمي عادل.
كذلك فإن الجزائر بإمكاناتها يمكن أن تكون بوابة لدخول العديد من الدول الكبيرة خاصة الصين والهند وغيرها، وتكون بوابة للاستثمار في إفريقيا، وبالتالي ستكون أكبر منطقة نمو اقتصادي خلال العشريات الثلاث المقبلة. ولأن الجزائر تتمتع بمنظومة قاعدية كبيرة ومتطورة، سواء على مستوى النقل أو الهياكل القاعدية، وكذلك عبر المؤسسات التعليمية والصحية، إذ تتوفر على مجموعة من المؤهلات تستقطب الشراكات، ومن ثم تكون بمثابة القاطرة والمحرك للعديد من التجارب على المستوى الإفريقي. وتتمتع الجزائر بمؤهلات كبيرة يمكن أن تمنحها دورا فعالا في عملية البناء المستقبلي وتدعيم مجموعة “بريكس” حتى تكون تكتلا أقوى في المستقبل، وأن تكون مبادئها قابلة للتجسيد وتتوفر على الوسائل الاقتصادية والدبلوماسية التي توفر كل الشروط لأن تكون مجموعة “بريكس” لاعبا أساسيا بالساحة الاقتصادية مستقبلا.
عدد أعضاء مجموعة بريكس مرشح ليتضاعف في ظل اهتمام عديد الدول بالالتحاق بها.. كيف سيؤثر ذلك على الاقتصاد العالمي، وهل يمكن أن يقف العالم على عملة جديدة لاحتياطي الصرف؟
إلى يومنا هذا، أكثر من 19 دولة أبدت رغبتها في الانضمام إلى مجموعة “بريكس”، الأمر الذي يبين بأن مبادئ هذه المجموعة على المستويين السياسي والاقتصادي، تحظى بإعجاب واحترام العديد من الدول، ومن بين هذه الدول من لديها وزن كبير على المستوى الطاقوي والاستراتيجي والاقتصادي، وعلى سبيل المثال الجزائر ونيجيريا ومصر والمملكة السعودية والأرجنتين والباكستان. علما أن هذه الدول يتوقع أن يكون لها دور فعال ومؤثر، وسيزيد من ثقل المجموعة على المستوى العالمي، ويجعلها مؤثرة وبسرعة أكبر على مستوى التوازنات الجيو-سياسية والاستراتجية. يذكر أن المجموعة إلى يومنا هذا وزنها أكثر من 35٪ من الناتج العالمي الخام، وأكثر من 28٪ من التبادلات التجارية العالمية وأزيد من 50٪ من سكان المعمورة، وإذا أضفنا المملكة العربية السعودية كقوة طاقوية واحتياطاتها الكبيرة، وأضفنا كلا من إيران وباكستان التي تعد قوة نووية في مجال البحث التكنولوجي والجزائر ونيجيريا وغيرها من الدول المهتمة، فإن الوزن الاقتصادي سيكون مؤثرا للغاية، وسيتجاوز حتما 60٪، من الناتج القومي العالمي، الأمر الذي يجعل الكفة تميل لهذه المجموعة وتجعل من إعادة النظر في النظام السياسي والاقتصادي العالمي، أمرا ممكنا جدا في المدى القريب.
ملامح بروز نظام مالي واقتصادي جديد
هناك من ينظر إلى تعزز قوة “بريكس” على أنها بداية لميلاد نظام اقتصادي عالمي جديد.. ما رأيك؟
مرشح أن نشهد في الخمس سنوات القادمة أو يمكن قبل ذلك، ميلاد نظام عالمي جديد، يتميز بالتعددية أو على الأقل بالثنائية القطبية، على المستوى السياسي، وسيؤثر ذلك على ميثاق الأمم المتحدة التي ستكون مرغمة على التأقلم مع المعطيات الجديدة، وسيسير العالم إلى أقل هيمنة للإمبريالية والمؤسسات والأسواق المالية، هذا على المستوى السياسي، وسيؤثر ذلك على الصناديق العالمية، سواء كان على مستوى صندوق النقد العالمي أو البنك العالمي، ولذا سيكون مجبرا على تكييف ميثاقه وقواعده مع المنطق الجديد الذي سوف يسير عليه العالم، لأنه سيكون أقل هيمنة وتدخلا. علما أن المجموعة يمكن أن تتحول مستقبلا من مجموعة إلى منظمة بهياكلها وقانونها الأساسي وميثاقها وبمؤسساتها، لأن بنك “بريكس” وما يسمى بالبنك الجديد للتنمية، موجود أصلا، ويمكن أن يكون له تأثير جديد أكثر مستقبلا، وسيضاف إليها حتما مجموعة من الوسائل المالية أو الصناديق المالية والبنوك التي ستعمل على توفير التمويلات. وتعمل صناديق أخرى على إيجاد المساعدات بالنسبة للدول الفقيرة، في ظل منطق جديد دون تدخل ودون إملاءات سياسية بخلاف صندوق النقد والبنك العالمي.
هذا النظام سيقلل بالتأكيد من هيمنة الأسواق المالية، ومن بين أكبر الثورات التي سيحدثها التقليل من هيمنة الدولار الأمريكي على التعاملات التجارية والاقتصادية والمالية على المستوى العالمي، إذ ستكون السنوات المقبلة مرحلة لتعدد العملات على مستوى التجارة العالمية، وبالتالي لن يكون الدولار العملة الوحيدة كاحتياطي للصرف من جهة، وكعملة للتعاملات. ومثلا، على المستوى النفطي، بدأت الإرهاصات وعملية تنفيذ وتغيير قواعد “البترودولار”، وكذلك تفكير البرازيل والأرجنتين على اعتماد عملة جديدة من أجل التعامل في أمريكا اللاتينية وكذلك التعاملات الهامة الموجودة بين روسيا والصين والهند مع اعتماد اليوان والعملة الهندية في التعاملات، إذا هناك تراجع محسوس على مستوى التعاملات التجارية بالدولار، ولم يعد يشكل احتياطيا إلا بنسبة 54٪، بعدما كان يتجاوز 68٪ خلال السنوات القليلة الماضية، وستتسارع عملية التخلي عن الدولار واعتماد عملات جديدة، ولأن منطق الأسواق العالمية سيتغير، وسنذهب إلى منطق جديد يعطي الأولوية أكثر للاقتصاد الواقعي وليس للأسواق المالية التي كانت في كثير من الأحيان بعيدة كل البعد عن حقيقة وواقع الاقتصاديات، وكرست هيمنة الأسواق المالية، سواء من خلال منطق مضارباتي أعطى الأولوية إلى المؤسسات المالية التي همشت المؤسسات الخالقة للثروة، الأمر الذي جعل أقليّة من الدول تهيمن على أغلبية الثروة، دون أن تكون المساهم الأساسي في خلقها، وهذا هو ما تسعى مجموعة “بريكس” إلى تغييره، من خلال التقليل من هيمنة الأسواق المالية وتأثير أزمات الدول الغربية على اقتصاديات الدول الأخرى والتي هي بعيدة عن هذه الأزمات من ناحية اقتصادياتها التي يجب أن تنمو، دون أن تتعرض إلى تأثيرات سلبية مباشرة من الدول الكبيرة، مثل الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي.
سيشهد ميلاد نظام اقتصادي جديد ومنظمة من المفروض أن تتحول المجموعة اليوم، لأنها تكتل وكارتل اقتصادي، يحاول الحفاظ على مصالح هذه الدول ويطالب بعلاقات سياسية واقتصادية أكثر عدلا في المستقبل.
ماذا تتوقعون أن تكون نتائج اجتماع وزراء خارجية دول مجموعة “بريكس” المقرر انعقاده، بداية شهر جوان المقبل؛ بمعنى هل سيتقرر خلاله التحاق دول جديدة؟
يمكن أن تكون القمة المقبلة مناسبة للإعلان عن التفكير في تحول المجموعة إلى منظمة؛ يعني أن التفكير سيكون منصبا على إنشاء ميثاق للمجموعة وشروط عمل هياكل المجموعة، سواء جمعية عامة أو مجالس متخصصة في الأمن والاقتصاد والمشاكل الاجتماعية، أي مؤسسات تعنى بالشأن الصحي والعمل وغيرها، ومن المفروض أن ينصب العمل أو يجري على هذا المنوال حتى تتحول المجموعة إلى منظمة حقيقية، تفسح المجال لعملية دخول دول جديدة من خلال إرساء معايير لقبول دول معينة ومن خلال تحديد الشروط والمبادئ الأساسية التي يجب أن تعمل عليها الدول المرشحة لدخول المجموعة مستقبلا.
سيكون من بين الأمور التي سيتم دراستها في اجتماع شهر جوان، عملية توسيع المجموعة وتحويلها إلى منظمة والذي يمكن الإعلان عنها خلال سنة 2023 أو بداية 2024، وطبيعي جدا أن هذه القمة ستدرس إمكانية قبول الدول التي طلبت الانضمام، وفي اعتقادي أن هذا الانضمام الرسمي، سيتم إرجاؤه إلى غاية تحولها إلى منظمة، وهذا مرتقب نهاية السنة الجارية.