النقاش الواسع الذي أثارة الروائي الكبير واسيني الأعرج، حول سيرة الأسطورة الراقية «حيزية»، قدّم برهانا جديدا على أن الساحة الثقافية عندنا في حاجة إلى أطروحات جادة، يمكن أن تحرّك الراكد وتمنح المفاهيم المغمورة ما ينبغي لها من وضوح يمكّن لها في الواقع المعيش، فتصبح دوافع حقيقية للأعمال الأدبية الاحترافية، عوضا عن أعمال الهواة و(بوتيكات) الخواطر التي أرهقت «المقروئية».. بل بدّدتها، ووضعت أرقامها في أسفل سافلين..
ولقد حاول كثيرون الخوض في معامع قصة «حيزية»، فأصدروا كتابات منوّعة (ألوانا وأشكالا)، غير أن قصيدة بن قيطون بقيت وحدها التحفة الفنية بامتياز، وكل ما جاء بعدها لم يتجاوز مستوى الهوامش، ولم يضف شيئا يستحق النظر في الحياة اليومية، فلما تولى أمر القوس باريها، وتصدّى الأعرج للموضوع بخبرته ومعارفه وقدراته التخييلية الرهيبة، استعاد له بريقه، وحوّله إلى نقاش جدّيّ يستدعي النظريات العلمية والرؤى المعرفية، ويحرّك – في الوقت نفسه – حاسّة القراءة، بل يستفزّ الرغبة في الاطلاع، ويوقظ الحاجة إلى المعرفة..
وليس يشغلنا اختلاف من خاضوا في النّقاش، فالآراء عادتها أن تختلف، و»الرواية التاريخية» ستظل موضوع جدل ما دامت النظريات المؤسسة غير واضحة، وما دام كثير من الهواة متسلطين على المشهد الأدبيّ، مهيمنين على المشهد الثقافي، غير أن ما يهمّ فعلا، هو أن «حيزية» عرفت كيف تستأثر بالعناية، وتمكنّت من فرض وجودها بكلّ ما تتضمّن من المعاني الإنسانية السامية، ثمّ مهّدت لتحقق مقروئية عالية..
أمّا الحاجة إلى سموّ الأخلاق في النقاش، فهي ما تزال تراوح مكانها، إذ ليس يعقل، ونحن في عصر المعارف، أن يطلع فينا خطاب القرون الوسطى، ويطلق أحكاما إطلاقية تجعل الواحد من الناس يضرب الأخماس للأسداس أسفا..