يُثير تطور الاستخدامات الرقمية وتوسع استعمالاتها مسائل غاية في الأهمية لدى الدول والحكومات، بالنظر إلى ما أفرزته من ظواهر وتداعيات على الأفراد والمجتمعات والمؤسسات.
هذا التطور السريع في السنوات الأخيرة، يستدعي أدوات وآليات مواجهة و”ترشيد” الاستخدام في أطر مسؤولة وآمنة..
بقدر ما تقدمه الاستخدامات الرقمية من تسهيلات في مناحي حياة الإنسان، تطرح إشكاليات معقدة مرتبطة بالأمن الرقمي، تزداد تعقيدا، في غياب وعي مجتمعي والاستخدام اللامسؤول لهذه الأدوات ما يضاعف المخاطر والأضرار.
هذه الجوانب المذكورة وأخرى، كانت محل مؤتمر علمي دولي “الأمن الرقمي في الجزائر بين وعي المجتمع وهشاشة المستخدم”، بجامعة الشهيد أحمد زبانة بغليزان، من تنظيم مخبر الدراسات الاجتماعية والنفسية والأنثروبولوجية لجامعة الشهيد أحمد زبانة بغليزان، وبالتنسيق مع مديرية الأمن الولائي، يومي 9 و10 ماي الماضيين.
تناولت محاور المؤتمر إشكاليات عديدة، وشارك فيها باحثون من الجزائر وخارجها.
تقول رئيس اللجنة التنظيمية الدكتورة بن عمار سعيدة خيرة، لـ”الشعب أونلاين”، أنه تنظيم هذا الحدث العلمي، في ظل تزايد استخدام الانترنت وتطبيقات الويب وغياب آليات الحماية الرقمية من جهة (أي كل ما هو تقني) وما يستلزمه من وعي وترشيد استخدامات الفرد، نتجت عن كل هذا، العديد من المخاطر والتهديدات الأمينة الرقمية على المستوى الفردي (الخصوصية)، المجتمعي (الجرائم الالكترونية) والمؤسساتي (النصب والاحتيال مثلا في التجارة الالكترونية)، وفق المتحدثة.
وسجل المؤتمر مشاركات نوعية في تخصصات مختلفة وتنويعا في طرح المحاور بين الأبعاد التقنية، المجتمعية، النفسية، الدينية، الأخلاقية، السياسي وحتى الفلسفي.
المواطنة الرقمية
بالنظر إلى التداعيات الخطيرة التي تفرزها الاستخدامات الرقمية، وما تتطلبه من وعي مجتمعي، ترى الباحثة أنه من الواجب والضروري تفعيل دور جهات فاعلة في جميع مؤسسات التنشئة الاجتماعية، بدء بالأسرة، المحيط المجتمعي، المدرسة، الجامعة، وسائل الإعلام، الى وسائط الاتصال.. الخ، مثلما هو مطلوب أيضا من وسائل الإعلام “تسليط الضوء على هذا النوع من المواضيع في البرامج التلفزيونية أو حتى في المسلسلات المتحركة الموجهة للأطفال”، مثلما تقول الدكتورة بن عمار سعيدة خيرة.
في الجانب التربوي والتعليمي، ينبغي الإسراع في إدراج مناهج تربوية مكيّفة مع ما يتطلبه المجتمع اليوم، خاصة فيما يرتبط باستخدام الوسائط الاتصالية الرقمية، وتنفيذ برامج تدريبية للطلاب والتلاميذ متعلقة بالاستخدام الآمن والأخلاقي للوسائط التكنولوجية والتطبيقات الرقمية.
وفي رد عن سؤال حول مفاهيم جديدة ارتبطت بالظاهرة وتداعياتها، مثل المواطنة الرقمية، تشرح المتحدثة أن المواطنة الرقمية هي “المصطلح المفتاحي في مشروعنا البحثي، وتعني بها الاستخدام المسؤول للتكنولوجيا الحاسوب، الانترنت وكل الوسائل الرقمية للتواصل مع باقي أفراد المجتمع، ويقوم هذا المصطلح على مجموعة من العوامل ليتحقق منها: الوصول الرقمي، التجارة الالكترونية، الأخلاقيات، الحقوق والواجبات الرقمية.. الخ”.
وفي نظر المتحدثة، يمكن إرساء تربية معلوماتية في مؤسسات تربوية والوصول إلى عدد كبير من أفراد الأجيال المستقبلية المهتمة باستخدام التكنولوجيا “لا يكفي إدراج دروس في المناهج التربوية، بل يجب وضع مواد متخصصة يقدمها تقنيون يساعدون على تعليم الجيل الناشئ على اكتساب المهارات الاتصالية الرقمية.”
تحديات أخلاقية..
في ورقة بحثية، حول الموضوع، ركزت الباحثة عائشة لصلج من جامعة سطيف2، على جانب التحديات الأخلاقية لاستخدام وسائل الاتصال، اذ تشكّل – حسبها – وسائل الإعلام وتكنولوجيات الاتصال حلقة أساسية في رسم حدود العلاقة وفهمها بين الجماهير وبناء التصورات والمواقف المختلفة.
وأضحت هذه الوسائل، حسب الورقة البحثية، مصدرا مهما للتحكم في بسط وشد حدود الضوابط الأخلاقية والقيمية والمرجعية المقومة للإنسان، وزاد من شدة هذا التحكم ميلاد وسائط جديدة مكّنت من إنشاء فضاءات جديدة لممارسةٍ اتصالية وإعلامية بأبعاد مختلفة، وبصفة أكثر ديموقراطية لم تكن من ذي قبل.
وتعمل الميديا الجديدة على تأطير أشكال جديدة من الممارسات الاجتماعية، بسماحها للأفراد بالتعبير عن هوياتهم وعوالمهم الذاتية.
وجاء في الوثيقة: “عززت المنصات التكنولوجية عملية الانفتاح الهوياتي وشكلت فضاءات خاصة تشكلت فيها حالات تواصلية يتفاعل فيها المستخدمون عبر أنواع مستحدثة من الكتابة والتدوين، وبفتحها للفضاءات التبادلية التشاركية أضحت الانترنت فضاء للمداولات والنقاشات العمومية شكّل ما يسمى بالمجال العام الافتراضي”.
“وبهذا الشكل، أضحى الإعلام يشكل منظومة جديدة تختلف عن المنظومة المشهدية، وتحقق مجالا شبكيا يتحول الفرد فيه باستمرار بين موقعي الإرسال والتلقي، وتنصهر في داخله العوالم الفردية، وتمثّل شبكة الانترنت فضاء جماعيا يشترك المستخدمون في إنتاجه.”، وفق المصدر.
وتُشير الباحثة في مقدمة ورقتها إلى أن الإعلام الجديد ” بهذا المعنى يمكن النظر إليه على أنه أنموذج تواصلي جديد، لا يتعلق بعملية بث مركزية، ولكن يتفاعل داخل حالة ما، يسهم كل فرد (مرسل- مستقبل) في اكتشافها بطريقته أو تغييرها أو الحفاظ عليها كما هي، ولقد أحدث الانترنت، بوصفها العنصر الرئيس في هذه المنظومة تغييرات بنيوية في خريطة الإعلام بشكل عام، وفسحت المجال لتعددية إعلامية افتراضية.”
حدود الخصوصية
وفي ورقة بحثية أخرى قدمت في هذا المؤتمر، تناول الباحثين الدكتور جمال شريف من جامعة أكلي محند اولحاج (البويرة)، والدكتور رمضان بن منصور جامعة مولود معمري (تيزي وز)، مسألة هامة تتعلق بأخطار انتهاك الخصوصية الرقمية للمستخدم وأثرها على الرابطة الأسرية دراسة في المسببات والحلول.
ويشير الباحثان، في ملخص الدراسة إلى أن الوسائط الاتصالية الجديدة في الجزائر، وعلى غرار دول العالم، شكلت “بيئة تواصلية جديدة وفرصة للتواصل والتماسك الأسري، إذ مع تزايد أعداد المستخدمين لهذه الوسائط في السنوات الخمس الأخيرةفي المجتمع الجزائري، البالغة أكثر من 22 مليون مستخدم بفايس بوك وحده حسب آخر الإحصائيات – عرفت البلاد كذلك تزايد مشكلات ارتبطت عموما بأخطار انتهاك البيانات الشخصية للمستخدمين وتقويض الأمن الرّقمي.”
وبالحديث عن المخاطر، يتطرق الباحثان إلى ما أوجده تزايد الاستخدامات قلق مشروع حول كيفية حماية بيانات المستخدمين من الاختراق والقرصنة والتهديدات الالكترونية المرتبطة بالجرائم الالكترونية عموما في بلدان العالم الثالث.
ورغم ما لها من ايجابيات، إلا أن البيئة الرقمية في الجزائر عزّزت من مخاوف المستخدم من الأخطار المرتبطة بهاته الوسائط وآثارها على الفرد وعلى الأسرة عموما:
” ساهمت هذه الوسائط الالكترونية في تهديد المجتمع من خلال تزايد حالات الطلاق في المجتمع الجزائري في العقد الأخير من الزمن، إلى جانب تنامي جرائم التشهير والقذف والابتزاز والتحرّش الالكتروني والخيانة الزوجية الرّقمية والتفكّك الأسري-وغيرها من السلوكيات المهدّدة للرابطة الأسرية بكلّ تجلّياتها.”
وتبرز إشكالية الورقة البحثية تزايد أعداد مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي في السنوات الأخيرة في الجزائر(أزيد من 22 مليون مستخدم خلال العام 2022)، ما ساهم في مضاعفة التحدّيات والمخاطر المتعلّقة بانتهاكات الخصوصية وبسوء استخدام واستغلال تلك المواقع كونها “بيئة رقمية مفتوحة توفّر الكثير من المعلومات عن المستخدمين كبياناتهم الشخصية وأرائهم وسلوكياتهم وهوياتهم وعاداتهم وحتى تفاصيل حياتهم الدقيقة، وكذلك نتيجة للحرية الكبيرة التي توفّرها هذه المواقع للمستخدم في اختيار وتصفّح كل ما يريد تصفّحه.”
وتكمن أهميّة الدراسة المقدمة في المؤتمر، في إثراء موضوع حق الخصوصية الرّقمية في البيئة الاتصالية الجديدة والمخاطر على الفرد والمجتمع، إلى جانب التطرق إلى بعض المفاهيم، نذكر منها:
- الحق في الخصوصية: حق الفرد في أن يقرّر بنفسه من وإلى أي حد يمكن أن يطّلع الغير على شؤونه الخاصّة في ظل الاعتداءات التي أصبحت تطال حياتها لخاصّة)
- الخصوصية الرّقمية: حق المستخدمين بالحفاظ على سرية البيانات المتعلقة بهويتهم أو سلوكهم أثناء استخدام الأنظمة، بما يتعارض مع قدرة هذه الأنظمة على أداء وظائفها.
وختمت الدراسة بتناول مخاطر مرتبطة بالموضوع، منها تنامي جرائم الكترونية تستهدف مؤسسات عمومية، والتشهير وتشويه سمعة الأفراد وجرّهم إلى التورّط في أعمال إجرامية، إلى جانب قرصنة المعلومات والبيانات.
بالعودة إلى موضوع المؤتمر، استهدف هذا الحدث العلمي تحديث المعارف القاعدية والممارسات الأمنية الرقمية السائدة وإعادة تقييمها، بما يضمن قدرتها على مواجهة مستوى المخاطر الحالية، وتقييم المخاطر والتهديدات الأمنية الرقمية في الجزائر والوطن العربي، مع اقتراح حلول واستراتيجيات للحد منها.
ومن ضمن التوصيات التي خلص إليها المؤتمر، القيام بندوات وملتقيات وأيام توجيهية من أجل تنوير المواطنين بضرورة حماية معطياتهم الشخصية وإمكانية وقوعهم كضحايا الجريمة المعلوماتية، وبناء وتعميم برامج إرشادية الكترونية للتحكم في مفعول المحتويات الالكترونية خاصة الموجهة إلى الأطفال والمراهقين.
إلى جانب الانتقال من النظريات الخالصة إلى التطبيق العملي في تكوين الطلبة، ما يسمح بفهم كيفية استخدام التقنية بشكل آمن ومسؤول، وتنمية مهاراتهم الرقمية، وإدراج مقياس الأمن الرقمي في التكوين الجامعي حتى يكون الطالب ملما بالمخاطر التيستواجهه مستقبلا في المجال الصحفي.
إضافة إلى تكثيف المبادرات والنشاطات التحسيسية والتوعوية والإعلامية الخاصة بمخاطر العالم الافتراض ي وما ينجر عنه من انتهاكات للخصوصية الرقمية للمستخدمين، وإنشاء فرق متخصصة في الأمن السيبراني في كل جامعة تدير وتراقب أمن الخدمات الرقمية وتتعاون بينها.
وجاء في التوصيات أيضا ضرورة إدراج مادة التربية الرقمية و تعليم المواطنة الرقمية في مختلف الأطوار التعليمية كجزء من الثقافة القانونية.