هو الصمت مشحونٌ بعناق الأرض، وغضب التاريخ، وهو انكسار الغرق ما بين كاميرا الشهيدة وبندقية الثائر حيث لم تَعدْ قناصة التلمود قادرةً على التميز بين الفدائي وبين كاميرا الإعلامي، لتسقط شرين مع كاميراتها فوق الأرض التي احتضنتها لحظة الوداع الأخير وتصعد شهيدةً إلى ملكوت أعلام السماء، وكاميرا الرقيب الإلهي الذي يُمهل ولا يُهمل :…لقد فجعنا جميعاً عندما أفقنا من نومنا في صُبح الجريمة لنجد أن صاحبة الخبر العاجل التي لا طالما غطت أخبار القتل والاغتيالات لمئات الشهداء من رفاق دربنا في (انتفاضة الأقصى المجيدة) هي بذاتها أصبحت الخبر والحدث!!..
بقلم الأسير: ناصر الشاويش
بكيناها كما لم نبكِ أحداً من قبل، حيث نجحت قناصة التوراتيين الجبناء هذه المرة بالفعلِ أن تحرقَ قلوبنا على خسارة واحده من أعظم وأنبلِ الإعلاميين والإعلاميات العرب، فقد تأثرنا نحن الأسرى على وجه الخصوص أكثر من غيرنا باغتيالها لكثرة ما عايشناها عن قرب في العديد من المواقف الخطرة والاشتباكات المسلحة بيننا وبين جيش الاحتلال والتي كانت شرين تصر على تغطيتها إعلامياً رغم ما كان يحيط ذلك من مخاطر كبيرة على حياتها حيث كانت ترافقنا كمقاتلين ومطاردين لقوات الاحتلال في كافة مراحل انتفاضة الأقصى عبر كاميرتها التي كانت تنقل عبرها الصورة للعالم بمهنية مطلقه.
وإنني في الذكرى السنوية الأولى لاغتيالها استذكر ذلك اليوم الذي صرختُ بها عليها بصوتٍ عالٍ طالباً بالابتعاد عنا قليلاً ونحن في خضم اشتباك مسلح عنيف مع فرقة من القوات الخاصة الصهيونية كانت قد حاصرت إحدى المباني التي تعود للمخابرات الفلسطينية العامة في منطقة أم الشرايط على أطراف مدينة رام الله عام 2002، وبعد أن وصلنا للمكان لفك الحصار عن ذلك المبنى وتوزعنا على ثلاث جهات واستطعنا محاصرة القوى الخاصة الصهيونية في محيط ذلك المبنى، إلى أن وصل الدعم العسكري للوحدة الخاصة من قوات الجيش الصهيوني وبدأت أرتال من الدبابات والمصفحات تتقدم نحونا وهي نفتح بنيران رشاشاتها الثقيلة والمدفعية، وكانت شرين يومها ترتدي كعادتها زي الصحافة الحربية وتعطي تعليماتها للمصور الذي كان برفقتها مطالبةً إياه بأن يبقى منبطحاً على الأرض خلف إحدى السواتر الحجرية المطلة مباشرةً على موقع الاشتباك الذي استمر حوالي ساعة ونصف تقريباً،وفي خضم ذلك كله، كانت شرين تقفز من فوق السلاسل الحجرية وتتنقلُ معنا وحولنا من مكان الى آخر ولا هم لها سوى تأمين المصور الذي يرافقها بمكان آمن لضمان استمرار نقل الصورة والحدث مباشرةً غبر شاشة التلفزيون.
صرخت بها يومها أنا و(عبد الكريم عويس) والشهيد محمد الشوغاني مطالبين إياها بالابتعاد عنا حرصاً على حياتها بعد أن وقع عن طرفنا العديد من الإصابات، لكنها رفضت ذلك وظلت في محاذاتنا ولم تتوقف على النقل المباشر، وبعد انسحاب الجيش الصهيوني برفقة الوحدة الخاصة من المنطقة توجهت أنا ومجموعة من الشباب إلى مستشفى رام الله الحكومي لنتفقد الجرحى والمصابين، وهناك في ساحة المشفى التقيت مجدداً بشرين وكنت أنا ومن معي تبدو علينا مظاهر التعب والإعياء قلت لها ممازحاً (أنت أكثر واحده مجنونة بالدنيا) وكيف لكِ المخاطرة بحياتك لهذه الدرجة؟!
ردت غليّ بسخريةٍ تصحبها ابتسامة ساخرة (وهل أنتم ما شاء الله العُقّال يعني) فقلت لها: (نحن مجبرون على جنوننا يا شرين) لأننا إن لم نُجنّ وبقيينا عقلاء كالآخرين فمن سيقاوم الاحتلال إذن؟! قالت: إذن نحن متفقون على الجنون، أنتم تجنون كمقاتلين على طريقتكم الثورية، ونحن نجّن كإعلاميين على طريقتنا الإعلامية، ثم أضافت: تخيلوا لو أن كل صحفي تجنب المخاطرة والمجازفة حفاظاً على حياته، فمن عندها سينقل للعالم حقيقة ما يجري هنا على الأرض.
نعم، كهذه الروح الوثاّبة نحو العطاء والانتماء للوطن والإنسان قد عرفتنا شرين أبو عاقلة. وهذه قصة من بين عشرات القصص التي جمعتنا بشرين خلال انتفاضة الأقصى حيث لا يوجد شهيداً أو أسيراً لم تكن لديه حكايته الخاصة مع شرين لذلك فإنني اليوم في الذكرى السنوية الأولى لاغتيالها أقول لها باسمي وأسم كل بقي على قيد الحياة من أبناء وقادة كتائب شهداء الأقصى، بأن نار التراجيديا لن تبرد أبداً وأن نار الثأر لن تطفئ ولن يبقى الموت في بلدنا اعتيادياً، وسيبقى اغتيالك يا شرين فاجعاً وموجعاً حتى نقتنص لك من قتلة الجمال والإنسانية والحقيقة ولكِ المجد ولكِ دموعنا ودموع أمهات الشهداء والأسرى تنهمر لتقرؤكِ ما يكفي من الصلاة التي تغسل جبينك المشع بضوء القدس وجنين التراب الذي عانقتيه عناق المحبين، ولأنك رفيقة درب الشهداء والأسرى فإننا سنرفع اسمك اليوم (صلاتنا الموحده إلى الله لكي لا تظل أرواح نساؤنا وأطفالنا وشبابنا، مطارده من أصحاب بنادق الخرافة التوراتية الذين يتخذون من دمائنا وأرواحنا لعبة مُسليه لقناصة جندهم المعبئون بالحقد على كل ما فينا من جمال وشمس وسلام وحقيقة،وانقلي عنا تحايانا للشهداء الذين أحبوك كما أحببناكِ دوماً وسنبقى.