يؤكّد البروفيسور محمد بزينة، مدير جامعة سعد دحلب بالبليدة، أنّ تحسين تشغيلية المتخرجين مرتبطة بإصلاح المنظومة الاقتصادية، من خلال تفعيل القطاع الخاص الذي ينبغي أن يلعب دورا كبيرا في احتضان الطلبة بعد تخرجهم، كما أنّ زرع روح المقاولاتية في الوسط الجامعي وتطوير اقتصاد المعرفة، سيجعل من الطلبة خلاّقين للثروة، من خلال تشجيعهم على الابتكار العلمي والبحث، وتطرّق – في هذا الحوار الذي نقترحه عليكم – إلى التعليم عن بعد وتعميم استعمال اللغة الإنكليزية ضمن سلسلة من الإصلاحات يعرفها القطاع.
الشعب: في البداية نود تشخيص واقع الجامعة الجزائرية خاصة في العقدين الأخيرين، حيث أصبحت الديناميكية الجامعية تسير بسرعة قد لا تتوافق مع الحركية الاقتصادية، فكانت المحصلة ارتفاعا كبيرا في نسبة البطالة بالنسبة للطلبة المتخرّجين، كيف تُفسّر ذلك؟
البروفيسور محمد بزينة: حتى نضع الأمور في سياقها، نقول إنّ الجزائر تمسّكت بالطابع الاجتماعي للدولة منذ الاستقلال إلى وقتنا الحالي، وتجسّد ذلك باعتمادها على النظام الاشتراكي الذي يُعنى كثيرا بالطبقة الهشة، وحتى بعد التحول نحو الرأسمالية أو الليبرالية، بقيت بلادنا تحرص على ضمان الحقوق الاجتماعية لمواطنيها، ومن بين هذه الحقوق، التعليم في كل الأطوار بما فيه الطور الجامعي، وأعتقد أنّنا من الدول القليلة في العالم التي فيها التعليم إجباري ومجاني. فيما يخص الطور الجامعي، الجزائر من الدول القليلة، إن لم تكن الوحيدة، فيما يخص التكفل التام بالطلبة ومن كل النواحي، وهناك مادة في القانون تنص على أن كل طالب حاز على البكالوريا له الحق في مقعد بيداغوجي بالجامعة، ويُوجّه نحو التخصص بحسب معدله، لكن حصوله على الدبلوم مضمون بقوة القانون. لقد كان الالتحاق بالجامعة هاجسا بالنسبة للدولة غداة الاستقبال، فعملت جاهدة على توفير الإطارات لمختلف المؤسسات، وتوفير الكفاءات التي يمكنها تسيير المرفق العام، مثلما كان هذا الحق مطلبا اجتماعيا لفئة الشباب الراغبين في العمل والترقية الاجتماعية. وعملت الدولة أيضا على تكوين المكونين مثل الباحثين وأصحاب الدرجات العلمية العليا. في اعتقادي، استطاعت الجزائر أن تحقق هدفها بتوفير الإطارات، وفي العقدين الأخيرين، شعرنا أنّنا بلغنا مرحلة التّشبع، حتى إننا وصلنا إلى تواجد عدد كاف من الأساتذة لتكوين الطلبة، وحتى المؤسسات والمرافق والإدارات أيضا أصبح لديها ما تحتاجه من إطارات، لكن ما يُميز الفترة الأخيرة هو المكانة التي أصبح يحظى بها البحث العلمي حدث تغير أيضا سنة 2004 بعد الإصلاح الجامعي باعتماد نظام “أل.م.د”، فلم يعد الهاجس هو تحقيق الكم، بل أصبح الكيف هو الشغل الشاغل، وهذا لمواكبة التطور التكنولوجي المستمر.
أعداد كبيرة من الطّلبة تتخرّج من الجامعة، ويكون مصير الأغلبية البقاء في البطالة، وتؤكّد الإحصائيات المنجزة من قبل مراكز متخصّصة، أن هناك انخفاض في مستوى التحصيل العلمي والعزوف عن البحث، ما رأيك؟
التشغيلية هاجس آخر بالنسبة للدولة، لكن بالعودة إلى الماضي أي قبل 20 سنة خلت، فقد اعتمدنا نظام
«أل.م.د” للتوافق مع المتطلبات الاقتصادية، أي بهدف تكوين الإطارات والموارد البشرية اللازمة التي يمكن استغلالها في القطاع الاقتصادي. وكان ينبغي لهذا النظام، لكي يُحقق مفعوله، أن تقابله منظومة اقتصادية قابلة لامتصاص منتوج الجامعة، ومعناه أن تتوفر لدينا شركات خلاقة للثروة ومبدعة، وتحتاج لكفاءات ومبتكرين، وأظن أن المنظومة الاقتصادية لم تكن في المستوى لامتصاص منتوج الجامعة، حتى إن نسبة المتخرجين التي حظيت بالحصول على مناصب، لم توضع في ظروف كي تبدع، وماعدا بعض الشركات العمومية الكبرى مثل “سونلغاز” و«سونطراك “، لم نر إلا قلة قليلة من المتخرّجين حصلوا على مناصب عمل في القطاع الخاص على الرغم من أن نظام “أل.م.د” كان مبنيا في الأصل على التكامل بين الجامعة والتنظيم الاقتصادي، بمعنى أن هذا النظام إن لم يعط نتائج جيدة، فهذا ليس لخلل فيه، بل يكمن الخلل في المنظومة الاقتصادية التي لم يكن بمقدورها استيعاب الأعداد الكبيرة للمتخرجين، لذا أرى من الضروري تفعيل دور القطاع الخاص الذي تبني عليه كثير من دول العالم، خاصة المتقدمة، منظوماتها الاقتصادية، فالقطاع الخاص مُطالب بخلق الثروة وتوفير مناصب عمل، ويمكنه أن يتيح فرص الإبداع أمام المتخرجين من الجامعة، فهو يلعب دورا في تشغليهم، سيكون صعبا على الدولة توظيف كل المتخرجين من الوظيفة العمومية؛ لأن ذلك يتطلب أموالا كبيرة جدا، وبالتالي أرى أن معركة المستقبل ستكون تطوير اقتصاد القطاع الخاص.
زرع الفكر المقاولاتي في الوسط الجامعي سيكون من بين أهم أهداف إصلاح القطاع، كيف كانت تجربتكم في هذا الإطار؟
فكرة المقاولاتية ليست وليدة أمس، بل مرّ عليها ما يقارب عقدين من الزمن، وكانت في بادئ الأمر بإنشاء دار المقاولاتية في كل جامعة، وذلك بهدف تغيير الذهنيات فكان الطلبة جلهم يفكرون في إنهاء دراساتهم ثم التوجه نحو العمل، ومن خلال تأسيس دار المقاولاتية حاولنا تشجيع تأسيس روح المقاولاتية لدى الطلبة كي يؤسسوا شركات خاصة بهم بعد التخرج، ويمكنهم النجاح وتوظيف عمال لمصلحتهم بدلا من أن يكونوا موظفين عند الدولة أو عند الخواص، ولأجل ذلك، وضعت الدولة صناديق لمرافقتهم في تجربتهم بتسهيل كل الإجراءات الإدارية، وتمويلهم كما هو الحال للصندوق الوطني للتأمين على البطالة، والصندوق الوطني لدعم وتشغيل الشباب، لكن هذه التجربة لم تعط ثمارها كما ينبغي، واستمرت ظاهرة البطالة في وسط المتخرجين من الجامعة. وقبل سنتين، وفي إطار الإصلاحات التي أقرّها رئيس الجمهورية، السيد عبد المجيد تبون، أعطى قيمة كبيرة لفكر المقاولاتية بتخصيص وزارتين لها في الحكومة، وهي وزارة اقتصاد المعرفة والمؤسسات الناشئة، ووزارة المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، وهذا التوجه بعدما اتّضح بأن الحل الوحيد هو تشجيع الشباب على تأسيس شركات ناشئة. وفي رأيي بأن فشل التجربة الأولى للمقاولاتية راجع إلى عدم وضع ضوابط اقتصادية تسهل عمل الشباب، لكن الأمر تغير في السنوات الأخيرة بمنع الاستيراد العشوائي من خلال فرض قوانين تمنع استيراد منتوجات محلية، وهذا ما شجّع الشركات الناشئة؛ لأن القانون يضمن لها تسويق منتجاتها، كما لم تكن هناك تشريعات أو تنظيمات تفرض المناولة المتعاملين الاقتصاديين، فـ«المناولة” تسمح لأصحاب المشاريع الصغار من القيام بجزء من الأشغال ضمن نظام بيئي يساعدهم على العمل.
بحسبك.. تجربة المقاولاتية لم تقدّم مفعولا فيما يخص تشجيع الابتكارات العلمية، ما الذي تغير بمفهوم الشركات الناشئة التي يبدو أنها أعادت الرغبة وشجّعت الطلبة على البحث العلمي؟
فكرة الشركات الناشئة جاءت لتغير الذهنيات أيضا، والوزير الحالي، كمال بداري، أعطاها دفعا إضافيا، وهذا بعدما اقتنع بأنّ الجامعة من غير المعقول أن يتخرج منها البطالون، وقرّر أن يقوم ببعض الإصلاحات لدفع الطلبة نحو تأسيس شركات ناشئة خاصة بهم، خاصة بعد إصدار القرار الوزاري 1200/75 الذي يمنح الطلبة شهادات شركة ناشئة وبراءة اختراع مكافأة لهم على القيام بابتكارات علمية يمكن تحويلها إلى شركات ناشئة، فمثلا نحن في جامعتنا لدينا 140 مشروع يمكنه الحصول على هذه الشهادة لفائدة طلبة السنة الثانية ماستر بعد تخرجهم هذه السنة. ولتأسيس شركة ناشئة، يمر الطالب بمراحل، فبعد قبول مشروعه، يُحتضن على مستوى حاضنة الأعمال، ويشرف عليه أساتذة لتلقينه ميكانيزمات تأسيس الشركة من كل الجوانب مثل الجانب القانوني والمالي والتسويقي، كما يتم تسجيل المشاريع البحثية للطلبة بأرضية رقمية وضعتها لهم وزارة اقتصاد المعرفة والمؤسسات الناشئة، والتي تقوم بدراسة هذه المشاريع وتمنح الموافقة لمرافقتها من الناحية المالية، ونحن في الجامعة، نقوم بوضع كل التسهيلات لحاملي المشاريع مثل توفير مكتب لأي طالب يحصل على اعتماد مشروعه من قبل الوصاية، واستخراج سجلات تجارية لهم حتى يتمكنوا من بدء التسويق من الجامعة. وما يجب الإشارة اليه، هو أن هذا القرار الوزاري أصبح يُشجع الطلبة على الابتكار والتنافس فيما بينهم لأجل قبول بحوثهم كي تحوز على شهادات شركة ناشئة، ومنهم من يتمكن من التخرج بشهادة الماستر مع دبلوم شهادة شركة ناشئة، ومنهم من يحوز على براءة الاختراع لحماية مشروعه البحثي، والذي يقوم مركز خاص على مستوى الجامعة بتسجيله على المستوى الوطني للملكية الفكرية.
ماذا عن تمديد الفترة المسائية من أجل الدراسة والبحث؟
لدينا إحصائيات بأن نسبة الطلبة الإناث في جامعة سعد دحلب هو 72 بالمائة، أي أن عدد الذكور هو 28 بالمائة فقط، ما يعني عزوف فئة الذكور عن الدراسة، ويعتبر ذلك ظاهرة اجتماعية من الضروري إخضاعها للبحث من قبل مختصين في علم الاجتماع، ويمكن أن نربط نجاح الإناث في الوصول إلى الجامعة بأسباب اجتماعية، وهي أن أغلبهن يجتهدن في الدارسة لتفادي المكوث في البيت، خاصة وأن مجتمعنا ما زال محافظا لأبعد الحدود، ولهذا نجد أن البنات لا تستفدن من إجراء تمديد الفترة المسائية، رغم أننا أمرنا بالإبقاء على المكتبة مفتوحة وكذلك الحاضنة إلى ساعة متأخرة؛ لأن لا أحد من الآباء سيقبل عودة ابنته ليلا إلى المنزل، ويجب الإشارة أيضا إلى أن هناك عوامل اجتماعية أخرى تحول دون استفادة الطلبة من إجراء تمديد الفترة المسائية للبحث أو الدراسة، كعدم توفر النقل العمومي، لأنّ بعض الطلبة يقطنون في أماكن معزولة، خاصة مع الازدحام الكبير الذي يعرفه الطريق الوطني رقم 29 المؤدّي إلى الجهة الشرقية للولاية.
من بين الإصلاحات التي تريدها الوصاية، ترقية التعليم الهجين وتعميم استعمال الإنجليزية في التعليم والبحث، إلى أي مدى وصلتم، في هذا الإطار ، بمؤسّستكم الجامعية؟
بالنسبة لفترة جائحة كورونا التي عشناها قرابة ثلاثة مواسم في الفترة الممتدة بين سنتي 2019 و2022، ينطبق عليها المثل الذي يقول: “ربّ ضرة نافعة”؛ لأنها بقدر ما أضرّت بنا من عدة نواحي، فقد نفعتنا بخوض تجربة مهمة جدا باعتماد نظام التعليم عن بعد الذي كان لزاما علينا استعماله، لكن لتدريس المواد العلمية الثانوية فقط، فيما كانت الدارسة حضوريا بالنسبة للمواد الأساسية، وقبل الأزمة الصحية وفرض القيود والحجر، لم يكن كثيرون يؤمنون بفكرة تطبيق التعليم عن بعد، لكن بعد خوض التجربة باستعمال التطبيقات الشائعة مثل “ zoom conférence” و “ Google Meet” أخذ هذا النظام مكانته في الجامعة الجزائرية. وبعد التعافي قررت الوصاية الإبقاء على هذا النظام ليكون مكملا ومساعدا على ربح الوقت، فاعتماد النظام الهجين يسمح للأستاذ مثلا أن يجري لطلبته امتحانين حضوريا، وإذا استنفذ الوقت يستطيع تكليفهم بتمرين ثالث عن بعد. وبفضل هذا النظام، أصبح الأستاذ يُحاضر لطلبته عن بعد، زيادة على الدروس التي تقدم لهم حضوريا، وهذا أمر إيجابي جدا سيعطي نتائج إيجابية فيما يخص التحصيل العلمي ورفع المستوى.
وزيادة على ذلك، قرّرنا أن يكون التعليم عن بعد وباستعمال اللغة الإنجليزية في إطار تعميمها في البحث والابتكار، ولذلك أمرنا الأساتذة بضرورة تحسين مستوياتهم في هذا المجال، لأنه بعد سنة سيكون لزاما عليهم التدريس بها، وفي هذا الإطار خصصنا لهم دروسا حضورية في الإنجليزية بمركز التعليم المكثف للغات المتواجد داخل مؤسستنا، وزيادة على ذلك يستفيدون من تعلم هذه اللغة أيضا عن طريق أرضية وضعتها لهم وزارة التعليم العالي والبحث العلمي خصيصا لهم. وبالعودة إلى التعليم عن بعد، فهو نظام مهم، لكنه مكمل ولا يمكن الاعتماد عليه بمفرده، ولإنجاحه يجب تحسين سرعة تدفق الأنترنيت، وتوفير السكن للأستاذ الجامعي حتى يمكنه تقديم دروس من منزله، لكن إنجاح نظام التعليم عن بعد مرتبط أيضا بوضعية الطالب من الناحية الاجتماعية، فهل الطالب يملك كمبيوترا محمولا وخدمة أنترنيت متوفرة بمقر إقامته؟ على كل حال، يمكن للطالب أن يجد الحل بالقدوم إلى الجامعة أين هيأنا لهم قاعات مخصصة لتلقي الدروس عن بعد، وبالتالي فالحل هو تحسين الظروف الاجتماعية للأستاذ كي نضمن تقديم أداء جيد من طرفه.
مؤسّستكم محظوظة بتوفّرها على مركب رياضي يسمح بتطوير الرّياضة الجامعية التي أمر رئيس الجمهورية بوضع مخطّط لإصلاحها بداية من السنة المقبلة، لكن هذا المركّب لم يدخل حيّز الخدمة رغم مضي أكثر من سنة على تدشينه..لماذا؟
المركّب الرّياضي لم يستلم لحد الآن، وننتظر مع مصالح الولاية رفع بعض التّحفّظات المسجّلة لتوقيع محضر الاستلام النهائي، وقمنا بالإعلان عن مناقصة لتوفير الحراسة والنظافة بهذا المركب والتي ستقوم بها شركة خاصة، لكن مع الدخول الجامعي القادم سنقوم بافتتاحه في كل الأحوال، ليكون في خدمة الطلبة، ولدينا مرفق آخر لفائدة الرياضيين الجامعيين، ولقد اتصلنا بالوزارة الوصية للقيام بإعادة تهيئته، ويتمثل في القاعة الرياضية المغطاة بكلية العلوم الفلاحية، والتي سبق لها احتضان مسابقات في الرياضات القتالية والرياضات الجماعية عند النخبة، في كرة السلة وكرة الطائرة وكرة اليد، وقد نستطيع إقامة مباريات لكرة القدم داخل القاعة، غير أنّ هذه القاعة تضرّرت بأسطحها التي يجب إعادتها، مع تهيئة غرف تغيير الملابس أيضا، وإذا ما لقيت التهيئة الدعم من قبل الوزارة، يمكننا أن نجسّد مشروع تهيئة هذه القاعة في أقرب وقت، وإدخالها هي الأخرى في شهر سبتمبر المقبل، وأنا أوافق رأيك تماما وهي أنّنا إذا أردنا الطّالب أن يبتكر، يجب أن نوفّر له ظروفا تكفل له ما يُفجّر طاقاته في الرياضة وللقيام بأنشطة ثقافية أيضا، فـ “العقل السّليم في الجسم السّليم”.