لم نكن ندري يومها، أنّ تلك الخطوات المتسارعة والجهود الحثيثة لإدخاله إحدى المصحات المختصة، لتلقّي علاجا سريعا، يعيد أمل البقاء، تكون آخر حلقة وصل، بين الراحل فنيدس بن بلة أو مثلما يفضّل مناداته “بان” ومؤسّسة “الشعب”، حيث قضى أكثر من ربع قرن بين جدران مكاتبها صحفيا ومسيّرا، وعاد إلى أحضانها بعها، وكأنّه أراد أن تكون نهايته بها كما كانت بدايته منها في مهنة أحبّها بل قدّسها.
«أبوجا” – شارع الشّهداء الخط متواصل
شكّلت خلية أزمة تلقائية فور تلقينا طلب المساعدة من عائلته، وقد أشعرنا الرّئيس المدير العام لمؤسسة “الشعب” جمال لعلامي في أمسية السبت في حدود الساعة السادسة مساء، قدّمنا له عرض حال عن الحالة الصحية للفقيد والإجراءات المتخذة، حيث كنا قد أوفدنا الأخ كمال مصطفى العربي كأوّل شخص يتصل به بمسكنه بعين النعجة ليقوم هذا الأخير بجلب وصفة التوجيه الطبية حتى نقدّمها للجهات الوصية، وفي تلك الأثناء على مسافة المقر الاجتماعي لـ “الشعب” ومسكن الفقيد بعين النعجة، كانت عائلة الفقيد قد أرسلت إلينا عن طريق “الفايبر” الوثيقة لنتصّل بعدها مباشرة بوزير الاتصال السيد محمد بوسليماني، الذي كان يتواجد يومها بالعاصمة النيحيرية أبوجا، وقدّمنا له عرضا عن الحالة المستعجلة، ليقوم بإسداء تعليمات من هناك عن طريق الاتصال برئيس ديوانه الأخ ذبيح رضوان للتكفل بالطلب العاجل، وبقينا معه في اتّصال دائم في انتظار تلقّي الرد من وزير الصحة قصد تحويل الفقيد إلى إحدى المصلحتين بيار ماري كيري بمستشفى مصطفى باشا الجامعي أو مصلحة مكافحة أمراض السرطان فرانز فانون بالبليدة.
إطلاق صفارة التّكاتف والتّضامن مع الفقيد
أبلغنا الإخوة الذين التحقوا بقسم الانجاز والإخراج في السّاعات الأولى بعد الزوال، وتمّ تكليف الزميل رؤوف خير الدين بإعادة الوثيقة الطبية إلى بيت الفقيد تحسّبا لموعد نقله صبيحة الأحد إلى مصلحة بيار ماري كيري بمستشفى مصطفى باشا أو فرانز فانون بالبليدة، وكان آخر الموفدين إلى بيت الرّاحل في انتظار زيارات المساندة يوم الأحد، لكن الأقدار أرادت عكس ذلك، ليكون الزميل سليمان بوعروج آخر من زار الفقيد في ساعات متأخرة من أمسية السبت إلى الأحد وجلس معه وصدم لحالته ووضعيته بعدما أبلغني بما وقف عليه، لكن المدهش أنّ الفقيد “بان” كان أكثر فرحا وبهجة برؤيته له دون أي اعتبار منه لأوجاع وآثار المرض.
حين هممت الاتصال بالأخ كمال العربي لأعرف منه كيف هو الوضع الصحي لبن بلة، وجدته قد سبقني بالاتصال لكن وجدت مكالمات الزميلات زهراء بن دحمان، سعاد بوعبوش، مدير ديوان الوزير وزملاء من وكالات الأنباء وشخصيات سياسية، فأدركت أنّ الأمر جلل وتجلّت صورة الفقيد أمامي فاتّصلت بالأخ العربي حتى صدمني بالخبر، وهنا تغيّرت المعادلة والوجهة.
علامة كاملة لجيران الفقيد
انتقلنا إلى بيت الرّاحل قبل منتصف النهار، فوجدنا جيرانه في العمارة قد حضّروا كل شيء، مراسيم الدفن وبيت العزاء وكل ما يتعلق باستقبال المعزّين من زملاء الفقيد وأصدقائه ورفاقه، فتحوّل الفضاء الخارجي إلى مزار هبّ إليه الزّملاء من أجيال مختلفة متقاعدين ومخضرمين على غرار احمد كنزاري، سبع ناصر، اسماعيل شعلال، عبد الرحماني، فرحات، بوملحة، جمال أوكيلي، بوغرارة حكيم، أمينة دباش…إلخ.
عقارب السّاعة تستوقف الحاضر لتنخرط في الماضي
بدأت عقارب السّاعة تسابق الزّمن لتودّع بن بلة وتنهي رحلة مرض أنهك جسده وأطال معاناته، واضعة حدّا لمسيرة صحفي شاب قادم من فيافي الجزائر العميقة، أغرم بمهنة المتاعب فأحبّها وأعطاها كل شيء بل أخلص لها ومنحها أغلى شيء يملكه الإنسان وهي الصحة، فعندما خيّر بين الصحة والصّحافة اختار فنيدس الثانية، وهو ما حدث فعلا حيث كان يقضي أكثر من أربعة عشر ساعة خلف مكتبه بشارع الشهداء لا يبرحه، يمسك القلم يعيد العناوين ثم يفرمها ليعيد صياغة عناوين أخرى وهكذا دواليك في سباق مع الزمن، عينه على برقيات وكالة الأنباء الجزائرية، على خبر نزل لتوّه ولم يكترث له، وعين أخرى أمام علبة البريد يتابع المواضيع التي تصل دواليك من الجهات الرسمية والمراسلات، وأمام هذه الحلقة المقلقة يراقب الفقيد كل الصّفحات، حتى تلك التي أعدّها رؤساء الأقسام وبالرغم من أنّه اطّلع عليها وأعاد قراءتها إلاّ أنّه يعيد النظر كأنّه يقرأها من جديد لتوه.
تستمر رحلته منذ ولوجه مكتبه، فلا يمل ولا يكل ويبقى على عهده بمتابعة كل صغيرة تتعلّق بالمادة الإعلامية، يغادر الفريق الصّحفي قاعة التحرير بعد الانتهاء من إعداد مواضيعهم ثم تبدأ مداومة الدّائرة التقنية في التركيب والإعداد النّهائي للصّفحات قبل إرسالها إلى المطبعة، حيث ينتظرها هناك الفريق المكلّف بمتابعة الطّبع الأخير، يؤشّر الفقيد على “الموراس” لكنّه لا يثق في إمضائه فيعيد مراجعتها مرة ثانية فثالثة، وضغط كبير يترجّل بين قاعة التحرير، لينتهي عدد الغد ويبدأ عدد جديد في اليوم الموالي..لكن هذه المرّة دون فنيدس…