حينما بلغني خبر وفاتك يا أستاذي الفاضل فنيدس بن بلة، شعرتُ بكومة تنهيدات حزينة استقرّت في صدري، حاولت أن أبعثرها بأدعية مرتجفة، ولكن تلك التّنهيدات لم تتلاش وأحدثت فوضى وضجيجا ما زال لحد كتابة هذه السّطور داخل محيط قلب، لسان حاله يقول نرثيك يا عزيزا توارى ذِكرهُ، بين الأنام وهل يفيد بيان، زميل برتبة أخ لن يجد الزمان بمثلهِ، شهماً شريفاً طيفه أشجان.
أستاذي..كنت مسؤولا برتبة أخ، جمعتنا الكثير من المواقف التي تتزاحم الآن في ذاكرتي، والتي لن أتمكّن مهما حاولت، من رصدها جميعا في هذه المقالة التي تقف مع مقالات الزّملاء وقفة عرفان وترحّم واحتساب لله تعالى في فقدانك والتحاقك بجواره الأعلى.
لن أنسى ذلك اليوم الذي توجّهتُ فيه إليك بمقال حول “الرّسكلة”، وكان ذلك أوّل لقائي بك في شهر جويلية سنة 2001، أذكر أنّني حينما طرقتُ باب القسم الوطني (كانت تلك هي تسمية قسم تحرير التغطيات الوطنية والمحلية)، ودخلتُ وألقيت التحية على الزملاء، وسألت من فضلكم من هو السيد فنيدس؟ إلاّ ووجدتك تقف بكل احترام وطلبت منّي أن أتقدّم إليك..، وقفت أمامك وأنا أقول: أنا متربّصة في القسم الثقافي والمجتمع..ولكن مقالي هذا الذي أحمله يندرج ضمن التقارير الوطنية، ولقد طلب منّي الأستاذ عمر دلاَّل (رئيس القسم الثقافي آنذاك) أن أسلّمك إيّاه لتفيدني ببعض التفاصيل عن كيفية كتابة مقالات من هذا القبيل، ابتسمتَ وطلبت منّي أن أجلس في الكرسي المحاذي لك، فلم تكن سوى دقائق معدودة إلاّ ونظرت إليّ وقلتَ عبارة لن أنساها ما حييت: “ يعطيك الصّحة، بإذن الله سيتم نشره في عدد الغد”، لتضيف “أتمنّى أن تستفيدي في فترة تربّصك من كل الأقسام..”.
كما لم ولن أنسى يوم سلّمك رئيس التحرير آنذاك الأستاذ محمد نجيب بوكردوس روبورتاجا حول الكارثة الوطنية عن فيضانات باب الواد، حينها كنتَ مع معظم الزّملاء تعتقدون أنّه ربما قد أصابني مكروه، نظرا لغيابي مدة ثلاثة أيام بعد الكارثة، إلاّ ووجدتك مقبلا علي وسعدت جدّا برؤيتي، وكانت بقربك الزميلة فضيلة بودريش وهي تقول لك: “لقد ذهبنا أنا وبعض المتربّصات لنسأل عنها وهذا بمبادرة من الأستاذ عمر دلاَّل، والحمد لله طمأنتنا شقيقتها بأنّها بخير”، وأنا في خضم هذا الموقف ووسط عمّال “الشعب” من تقنيّين ومحرّرين سألتك: أستاذ هل قرأت الروبورتاج؟ لتجيبني بحنان الأب والأخ والزّميل: بعدما اطمأننا عليك وعلى سلامتك، يجب أن أشكرك فهو أول روبورتاج رصد الفاجعة، فشكرا مرة أخرى على الصور التي وثّقتي فيها الحدث”.
لحظات وجودك بيننا شهادتنا فيها مجروحة، كنت تلقّبنا جميعا “بالدّكتور والدكتورة”، وما تزال تلك العبارة التي كنت تقولها بكل عفوية لتخفّف عنّا ضغط العمل “عاونوا خوكم”، وما تزال تلك النكت محفورة في ذاكرتنا، لاسيما مشاركاتك اللّطيفة والطيبة لأفراح عمّال جريدة “الشعب”، ناهيك عن مواساتك لكل من ألمّت به مصيبة، ولعل آخرها عندما اتّصلت بي إثر وفاة والدي في جانفي 2022 لتقدّم واجب العزاء، بل ووضعت منشور تعزية على صفحتك، وشاركت به أصدقاءك ليدعوا لوالدي بالرّحمة والمغفرة.
المواقف تتعدّد وتتجدّد ولن تندثر من صفحات الأيّام، أيّام وضعتَ فيها بصمتك على عناوين المقالات، وأشدت من خلالها على المواضيع المقترحة، وتكرّمْتَ بتثمين الجهد المبذول فيها، ولم تبخل أبدا بشكر أي عامل، لقد كنت متواضعا وأخا للجميع، فمعاملتك بقيت هي هي سواء كنت صحفيا أو رئيس قسم أو مدير تحرير أو مديرا عاما للجريدة، فكيف سننسى هذه الالتفاتات الصّادقة والخالصة؟ وكيف لنا أن لا نرثي عزيزا فقدناه للأبد؟ وكيف لي أن أكمل سرد حضور تواجدك في تفاصيل حياتي، وغيابك المحتّم كبَّل جماح الكلام، وأجبرني وأجبر كل من عرفك أن نستذكر روحك الطيبة بين ثنايا أدعيتنا؟ آملين أن تصلك من يوم مماتك إلى يوم لقائنا بك في الجنّة بإذن الله، فرحمك الله يا أستاذي الطيب فنيدس بن بلة.