من الصّعب الحديث عن مناقب وخصال فقيد القلم والكلمة الرّصينة والهادفة، الزميل ورفيق مهنة المتاعب الرّاحل فنيدس بن بلة، الذي صنع اسما لامعا في عالم الصحافة الجزائرية منذ أن اقتحم هذا الميدان مطلع الثمانينيات عبر بوّابة جريدة “الشعب” أو مدرسة الاعلام في الجزائر التي صنعت أسماء كبيرة ساهمت في إثراء المشهد الاعلامي منذ الاستقلال، وساهمت في مواكبة برامج التنمية التي عرفتها البلاد في شتى المجالات الاقتصادية، السياسية والاجتماعية.
من صدف الحياة العملية المختلطة المشاعر وأنا أخطو أوّل خطوة لي في عالم الصّحافة بجريدة “الشعب” الغرّاء، أن يكون لي أوّل تعامل إعلامي مباشر مع الفقيد والراحل الصحفي القدير فنيدس بن بل، حينما كان رئيسا للقسم الوطني متزامنا مع كارثة فيضانات باب الواد الأليمة شهر نوفمبر من سنة 2001، حيث كلّفني آنذاك الأستاذ وعميد الصّحافة الوطنية مدير التحرير سعيد غرايت، بمهمة تغطية فعاليات الدورة الاستثنائية للمجلس الشعبي الولائي لولاية الجزائر، التي خصّصت جلسة طارئة لمناقشة تداعيات ذلك اليوم الأسود، ومتابعة عملية التضامن مع العائلات المنكوبة بتسخير إعانات مالية للبلديات المتضرّرة بهدف تجاوز المحنة.
وإلى تاريخ اليوم لا أزال أتذكّر وأنا أحرّر المقال توجيهاته القيّمة، وكيف كان يقوم بتعديل أفكاري المشوّشة، ومعلوماتي المبعثرة التي وجدت في الأخير طريقها إلى التوليفة النهائية في قالب هرمي منظّم ومقال جاهز للنشر، وأنا فقط أنظر وأتساءل عن سر المهنة ومدى احترافية هذا الرّجل الهادئ، الذي كانت تحيط به كومة من الأوراق ومقالات الزّملاء الصحفيين، وحينها فقط تأكّدت أنّ طريق مهنة المتاعب ليس مفروشا بالورود إنما فقط الإرادة والمثابرة هي من تنمّي فيك روح العمل الجاد، وتحدي صعوبات الطريق الكثيرة، دون أن ننسى فضل ومكانة الزّملاء وأصحاب التجربة من أمثال الرّاحل فنيدس في التشجيع، وتقبّل أخطاء البدايات الأولى التي تعتبر أصعب انطلاقة.
من ذلك اليوم، ظلّت علاقة الود والاحترام لهذه القامة الإعلامية هي السائدة رغم قلة احتكاكي العملي به بعد التحاقي بالقسم الثقافي ثم المحلي، وهو نفس الإحساس لجميع الزّملاء في جريدة “الشعب” من صحفيّين، تقنيّين، إداريّين وحتى الأعوان تجاه فقيد القلم، لأنّ شخصية الراحل الرّصينة، الهادئة والراقية جعلت الجميع ينحني أمامه احتراما واعترافا بمكانته داخل هيئة التحرير من خلال كتاباته وأسلوبه الراقي في تقديم المعلومات وبنائها التسلسلي، ومتابعته الدائمة لرجع الصدى لدى القارئ والهيئات، وهي النّقطة التي كان يحرص عليها كثيرا، حيث كان يستغل كل تواصل معي للسؤال عن مقالاته، خاصة الافتتاحية التي حرص على كتابتها يوميا منذ أن أصبح رئيسا مديرا عاما سنة 2019.
كما يشهد له الجميع بالجد والتفاني في العمل، وحرصه الشديد على المتابعة الدقيقة لكل مراحل إعداد الجريدة من الصفحة الأولى الى الأخيرة، وأحيانا كنّا نلمس تدخّله ولمسة قلمه في بعض المقالات خصوصا في المقدّمة بعبارة شهيرة “مثلما عاشته الشعب في عين المكان”، مع إصراره الدائم على ضرورة ذكر اسم “الشعب” في التغطيات والحوارات، وأحيانا كان يضطر للاتصال بي شخصيا في ساعة متأخرة من المساء للاستفسار على بعض المعلومات الواردة في التغطية المحلية من بومرداس خصوصا إذا كانت ذات بعد وطني حتى يطمئن على صحة المعلومة، ويتأكّد منها وبأسلوب تحس منه شدة الضغط الذي كان يحيط به، وهو سرّ نجاح هذا الإعلامي الكبير.
إضافة إلى حضوره المستمر بتوجيهاته القيّمة التي كنّا نسمعها دائما على لسانه بتأكيده “لا بد على صحفي أو مراسل جريدة “الشعب” أن يثبت وجوده وحضوره الفاعل في مختلف التغطيات خصوصا الرسمية منها من خلال السؤال وإعطاء الكلمة للمحاور”، وهو ما يثبت احترافيته العالية وحبّه لمؤسّسة “الشعب” التي ترعرع فيها إعلاميا، وعايش الكثير من المديرين والمسيّرين إلى غاية تقاعده ورحيله المفاجئ عن هذا العالم، وهو الرّحيل الذي ترك حزنا كبيرا لدى كل من عرفه من قريب أو من بعيد. ولا يسعنا في هذا المقام إلا الترحم على روحه الطّاهرة، ولعائلته الكريمة الصبر والاحتساب على قدر الله ومشيئته، ويبقى فنيدس بن بلة الصحفي، الأخ والزّميل ذكرى جميلة لا تمحى، واسما خالدا في عالم الصّحافة الوطنية.