من أنتِ؟..ومن أتى بك؟”..هكذا كانت بدايتي مع معلّمي وأوّل من لقّنني أبجديات الصّحافة، أستاذي الرّاحل فنيدس بن بلة، وأنا القادمة من مدرسة القانون وعلومه المقيّدة بالقواعد ومبادئ الحق، لأجد نفسي أمام عالم آخر يقدّس الخبر ويترك الحرية للتعليق، وبفضل المسؤول الإنسان تدرّجت في مهنة لم تكن يوما في مخيالي كمسار مهني أصبو إليه.
احتضنني كمتربّصة في أفريل 2009 وهو الذي كان رئيسا للقسم الوطني، حيث كانت “الشعب” آنذاك قلعة تكوينية لطلبة الإعلام ومختلف التّخصّصات، وبعدما تأكّد من قاموسي اللغوي وسلامة اللغة والأسلوب، بدأت معه أولى الخطوات نحو الممارسة الصُّحفية من خلال معالجة أخبار وكالة الأنباء الجزائرية، وبيانات مختلف المؤسسات الوطنية، ومع الإصرار والإلحاح من قبله على الإعادة والإعادة، بدأت تدريجيا بالتحكم أكثر فأكثر في تقنيات التحرير.
بعد شهر كنت أنا المحظوظة التي اعترف لي بقدرتي على الكتابة الصحفية تحت عينه الحريصة التي لا تفلت أي خطأ، بل وأكثر من ذلك سمح بنشر مواضيعي الصّغيرة، حيث كان أوّل مقال لي حول قطاع العدالة، وهو المجال الذي كان من المفترض أن أعمل فيه، غير أنّ إرادة الله أرادت غير ذلك، وتوالت المقالات شيئا فشيئا في قطاعات عديدة وبألوان صحفية عديدة، وبعد مرور السنتين، لقّبني بصاحبة الأسلوب “السهل الممتنع” أو كما يقولها بالعامية “درتيها بطريقة الشيطان وما يقدرش يبدلها”.
ثقته الكبيرة فيّ وإيمانه بقدراتي جعلتني أقوم بتغطيات كانت حصرا على الصحفيين القدامى والأكثر تمرّسا، وشعاره في ذلك..”الميدان أحسن معلّم”، وبالفعل كلّما أخطأت تعلّمت أكثر وتحكّمت أكثر، وأصبحت أكثر مناعة ضد الانتقادات الهدّامة، وأكثر اقتناعا بالبنّاءة التي لم تزدني إلاّ تعلّما، وكوّنت اسما في ساحة الإعلام أصبح فيما بعد مطلوبا، ويسبقني في ذلك سمعتي والتزامي اللذين كثيرا ما روّج لهما قبلي كمسؤول لأنه كان يؤمن بأنّ الصحفي مرآة المؤسسة التي ينتمي إليها، ولم أخيّب ظنه فيّ أبدا.
مساري المهني معه لم يخل من المناوشات والخلافات المهنية البحتة إما أن يقنعني أو أقنعه، ورغم ذلك لم تتأثّر علاقتي به كإنسان التي كانت راقية جدا، فكان الأب الحريص والأخ الأكبر الحنون، والصديق العزيز الذي لم يبخل عليّ بشيء لا بالتوجيه والإرشاد ولا بالتعليم، كما نقل إليّ ذاك الالتزام المهني والصرامة في التعامل مع المهام الموكلة إليّ انطلاقا من كونه المسؤول الأول، سواء كصحفية أو مسؤولة فيما بعد، وأي خلاف كان ينتهي في آخر النهار بتقبيل الرأس والاعتذار والضحك مع بعض، ونعيد المرة في اليوم الموالي، وكأنّنا لم نعش ذلك قبلا.
خصاله التي عرفتها فيه سواء كان صحفيا ومسؤولي الأول بالقسم الوطني فمديرا للتحرير، وأخيرا رئيسا مديرا عاما لجريدة “الشعب”، لم تتغير بتغير المناصب والمسؤوليات التي تقلّدها، بل على العكس كان قريبا جدا مني، فالتشاور والحوار كانا أساسي العمل في كل شيء حتى بعد أن أصبح مديرا.
وجاءت مرحلة كورونا حين انزوى الكل في منازلهم كان الرّفيق والمؤنس في العمل، فعلى عكس المتوقع وبدل أن يَحْجُر على نفسه بمكتبه ويلتزم بعمله وصلاحياته الإدارية فقط، ينزل بكل وقار إلى قاعة التحرير، فكان معي في وضع خطة العمل، واختيار أحسن أعمال الصحفيين التي تتناول الوضع الصحي وتطوّره بالجزائر، فكانت “الشعب” تطل يوميا بمختلف المواضيع من عدة زوايا، قاومت من خلاله الحجر الصحي الذي فرض على الجميع، وأخضع الكل لقوانينه وبروتوكولاته الوقائية.
وفي ماي 2020 غادرنا فنيدس بن بلة كمدير، لكن بقي الإنسان وفيّا للعلاقة التي ربطته بالمؤسسة وأبنائه وبناته، الذين سهر معهم الليالي وطوال ساعات العمل التي قد تمتد إلى ٢٤ ساعة فأكثر، في التصحيح والتنقيح، فلم يغب صوته عن أذني في أي مناسبة ودونما مناسبة، لتكون آخر مكالمة بيني وبينه قبل أربعة أيام من وفاته، وكانت وصيته لي هو أن أهتم بصحتي قبل كل شيء، وأن لا أغفل عنها أو أتنازل عنها بسبب ضغوطات العمل، ففي النهاية نحن بشر، ليأتي الخبر الصّادم “..فنيدس..مات..لا حول ولا قوّة إلاّ بالله”، حتى وفاتك كانت درسا في العطاء والتفاني ومواجهة النّكران، هذا الأخير الذي آلمني كثيرا وأنت الذي أفنيت عمرك في مهنة المتاعب لتكون القلم الذي انطفأ بعد صراع طويل مع المرض لتترجّل وتركن للرّاحة أخيرا، وتترك كل المتاعب للأحياء لعلّهم يعتبرون…