تألّمتُ كثيرا لوفاة أخي وزميلي فنيدس بن بلّة، وآلمني أكثر أنّني لم ألتقيه ولم أكلّمه منذ مدّة طويلة، فآخر اتّصال بيننا يعود إلى عيد الأضحى من السنة الماضية، حيث هاتفني وتحدّثنا طويلا، عن الصحة والعمل وظروف الحياة.
وبكثير من روح الدعابة والنكتة، رحلنا بحديثنا إلى سنوات الجامعة والتحاقنا بمهنة المتاعب التي تسرق منك أجمل سنوات عمرك، ولا تتركك تغادر إلا معتلاّ أو إلى مثواك الأخير، وكم هي طويلة قائمة الزملاء الذين فاجأهم المرض، وأجهز عليهم بمجرّد أن أحيلوا على التقاعد.
في آخر اتّصال، سألت فنيدس عن صحّته فطمأنني بأنه بخير، فالمرض الخبيث لم يكن قد عاوده، وسألني هو الآخر عن صحّتي، فأجبته بأنّني أتعايش مع ثلاثة أمراض مزمنة بينها مرض القلب والسكّري في الطريق، فحزن للخبر وخلص إلى أنّ متاعبنا الصحيّة هي نتيجة منطقية للجهد الكبير الذي قدّمناه للصحافة، وللمراحل الصّعبة التي عايشناها، و على رأسها مرحلة الإرهاب، ونصحني بأن لا أجهد نفسي كثيرا فالصحّة لا تقدّر بثمن.
تشخيص فنيدس كان صائبا، وينطبق كلّ الإنطباق على حالته، فمهنة الصحافة التي خدمها بكل حبّ وإخلاص وجدّ، سرقت منه أحلى أيّام عمره، فهو منذ أن عرفته قبل أزيد من ثلاثة عقود يمضي جلّ وقته في الجريدة، ولا تراه إلا وهو وراء مكتبه يكتب مقالا أو يصحّح أخبارا أو يدير مسائل التحرير من أبسطها كتعيين سائق لنقل صحفي، إلى دعوة خبراء ومختصين لحضور منتدى الجريدة، إلى الإتصال بالمراسلين وتوجيههم، وفي الغالب كان ينسى حتى تناول الطعام، كما كان يتجاهل متاعبه الصحيّة ويغالب آلامه حتى غلبه المرض وقضى عليه.
أوّل ما اشتغلت مع فنيدس كان في بداية التسعينيات، عندما جاء من أسبوعية “أضواء” ليرأس القسم الدولي، ثم انتقل إلى القسم الوطني صحافيا فمسؤولا، وقدّم الكثير للجريدة في فترة حسّاسة هدر فيها الإرهابيّون دم الإعلاميين، ووضعوهم على رأس قائمة التصفية الجسدية التي طالت الكثير من الزملاء، ورغم الأخبار التي كانت تفجعنا يوميا باغتيال زميل ما وبأبشع الطّرق، فإنّ فنيدس وكلّ طاقم الجريدة، تحدّى مخاوفه وأصرّ على أداء واجبه الوطني قبل المهني في حقل ألغام مريع، ولم تذهب التّضحيات.
فنيدس، وخلافا لكثير من الزملاء كان طموحا، إذ لم يكن يرى نفسه محرّرا فقط، بل كان يؤمن بأنّه قادر على التسيير، وفعلا لقد ارتقى إلى أعلى منصب في جريدة “الشعب”، وحتى إذا كان قد واجه بعض المصاعب والتحديات كمدير عام، فإنّه نجح إلى حدّ كبير على مستوى إدارة التحرير، ومكمن توفيقه أنّه كان مهنيّا ومتخلّقا.
يؤلمني اليوم أن أتحدّث عن أخي وزميلي فنيدس في الماضي، فهو كان محبّا للحياة، لكن، أقرّ بفخر بأنّ هذا الرّجل الذي قدّم عمره لجريدة “الشعب”، التي لا يكاد عدد من أعدادها يخلو من بصمته يستحقّ تكريما خاصّا، كأن يطلق اسمه على مؤسسة معيّنة، فهو بالفعل كان محبّا للوطن، مدافعا عنه بقلمه الذي سيبكيه طويلا. تغمّدك الله برحمته أيّها الزّميل، لن ننساك فأنت جزء من ماضيا.