تشنّ قوات الجيش الصهيوني حربا شنيعة ضدّ الفلسطينيين في الضفة والقطاع. حرب وصفت بأنّها حرب إبادة لإفناء الشعب الفلسطيني، بعد أن سلب المستوطنون أراضيهم ومنازلهم وشاركوهم السكن ظلما وضيما.
يحدث ذلك وسط صمت دولي مناقض للانتفاضة التي صنعها عبر الإعلام الغربي على خلفية العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، رغم أنّها جاءت ردّا على تمدد حلف شمال الأطلسي إلى حدود روسيا وإخلاله بالتزاماته غداة انهيار الاتحاد السوفييتي سابقا. هذه الحرب الشعواء لم تأت من فراغ، فالاحتلال الصهيوني يواجه خطرا وجوديا لأول مرة منذ أكثر من سبعة عقود، انقسام داخلي وانكشاف استراتيجي خارجيا. فما كان له إلا أن يحاول صرف الانتباه داخليا باختلاق نزاع مسلح ضد الفلسطينيين في الضفة والقطاع، لتوحيد الصف الداخلي ولو مؤقتا.
يتخبط الكيان الصهيوني في حالة لا يقين، بسبب المظاهرات الحاشدة والسخط الشعبي غير المسبوق إثر قرار حكومة اليمين بإدخال إصلاح على القضاء، من جهة واشتداد المقاومة الفلسطينية والصلح بين الفرقاء الفلسطينيين بعد توقيع اتفاق الجزائر، من جهة أخرى، إضافة إلى النزيف الاجتماعي مجسدا في الهجرة العكسية. إلى جانب عوامل أخرى نفصلها في النقاط الموالية.
تشهد الساحة السياسية الداخلية للكيان الصهيوني غليانا غير مسبوق، وكان قرار الإصلاح القضائي القطرة التي أفاضت الكأس. فمنذ شهر جانفي من السنة الجارية خرج المستوطنون الصهاينة في مظاهرات حاشدة جاوزت نصف مليون متظاهر احتجاجا على القرار، الذي يرمي إلى الحد من سلطة المحكمة العليا، وتمكين الحكومة والبرلمان من سلطات أكبر من المحكمة العليا، والحد من حماية الفئات الضعيفة. مع العلم أنّ المقترح جاءت به حكومة، نتن ياهو، المتحالفة مع الأحزاب اليمينية المتطرفة الأخرى. إلى جانب توفير الأساس لحصانة نتن ياهو، من الملاحقة القضائية على الفساد، كما أنّ الإصلاحات مست المراجعة القضائية وإجراءات التعيين والتعديلات على وضع وصلاحيات المستشار الحكومي.
لكن الدوافع الحقيقية لهذه الانتفاضة تعود إلى التمزق الحاصل في المجتمع اليهودي نفسه، وعدم الانسجام الاجتماعي والثقافي والديني. ويمكن إجمال هذا التمزق في عنصرين هما الفصل العنصري والهجرة العكسية.
بالنسبة للفصل العنصري نجد نوعين، الأول بين الفلسطينيين والمستوطنين، والثاني بين طوائف المستوطنين أنفسهم. فالفلسطينيون في الأراضي المحتلة يمثلون 21 بالمائة من السكان، ومع نسبة الولادات المرتفعة في أوساط عرب 48، سيتجاوز عدد الفلسطينيين عدد المستوطنين. ومع ما تمارسه السلطة الصهيونية من تمييز ضد الفلسطينيين بحرمانهم من إقامة دولتهم من جهة وحرمانهم من الجنسية، فإنّ هذا يشكل فصلا عنصريا، ويتحول الكيان إلى كيان فصل عنصري مكشوف أمام العالم ولن يكون له الادعاء بعد ذلك بكونه “ الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط”.
التمييز الثاني يحدث داخل المجتمع الصهيوني نفسه، بين الصهاينة العلمانيين واليهود الأرثوذكس، وهم الأكثر تطرفا في المجتمع، فالأولى تتمتع بمستوى معيشي لا بأس به، أما الثانية فتعيش عادة على مساعدات الحكومة، ويساعدها في ذلك، أنّ حزب الليكود الحاكم متحالف مع الفئات المتطرفة. ناهيك عن التمييز العنصري بين المستوطنين أنفسهم، بين الفلاشا( المستقدمين من أثيوبيا) والسفارديم ( يهود الأندلس الذين استقروا في شمال أفريقيا)، والاشكناز( المستقدمون من أوروبا الشرقية)
وأدّت هذه التصدّعات العميقة في المجتمع الصهيوني إلى هجرة صهيونية عكسية من الأراضي المحتلة إلى خارج فلسطين. فعلى خلفية الاحتجاجات على قرار الإصلاح القضائي، أجري استقصاء داخل المجتمع الصهيوني، شمل ألفي مستوطن، عبر فيه 25 بالمائة منهم عن رغبتهم في المغادرة إلى الخارج و6 بالمائة منهم شرعوا فعليا في إجراءات الهجرة. وهو ما يشكل تهديدا وجوديا للكيان القائم أساسا على استقدام مستوطنين من البلدان الأخرى، الذين لم يعودوا متحمسين للقدوم بسبب فضائع الكيان ضد الفلسطينيين، واللا أمن المتزايد بسبب اشتداد وتيرة المقاومة.
وإثر المظاهرات العارمة المذكورة أعلاه، كتب المحلل العسكري في الجيش الصهيوني، ميخائيل ميليشتاين، في صحيفة “يديعوت أحرونوت” تحت عنوان: “هل ستمر العاصفة أم أننا سنشهد بداية الدمار” أنّ الخطورة تكمن في استمرار هذه الأزمة الداخلية من دون حل بين الطرفين، وخاصة بعد أن ولّدت سابقة ظهرت علناً على شكل احتجاج مباشر من ضباط صهاينة هددوا بالامتناع عن الخدمة في الجيش إذا لم تحترم الحكومة موقفهم الرافض لمشروع التعديل القضائي، وحذر من أنّ بعض الأطراف العربية تمنى أن يزداد هذا الانقسام ويفجر الوضع من الداخل، ولذلك توجه ميليشتاين إلى مطالبة الحكومة والمعارضة بالتوصل إلى اتفاق ينهي الأزمة وينتقل بالكيان إلى التركيز على مهام جدول العمل الخارجي.
لكن يرى محللون أنّه حتى وإن تراجعت حكومة نتن ياهو، عن قرار الإصلاح القضائي، فإنّ الصدع الاجتماعي المترسخ لن يندمل بهذه السرعة، هذا إن لم يشتد أكثر في السنوات المقبلة.
اشتداد أسلوب المقاومة
على مدار العقود الثلاث الماضية على الأقل، أيّ منذ حرب الخليج الثانية، انتهى التهديد الآتي من المحيط القريب للكيان الصهيوني، ووجد نفسه في فسحة سلام طويلة الأمد، مكنته من الاستفراد بالفلسطينيين، وزاد من قوته الانقسام الداخلي الفلسطيني بين حركة فتح وحركة حماس، وسرى مفهوم الجيش الذي لا يقهر. لكن حرب “تموز 2006”، التي مني فيها بهزيمة من حزب الله اللبناني، كسرت المعتقد، وحمست المقاومة للعودة أكثر. وكرد فعل على تلك الهزيمة، شنّ الجيش الصهيوني عدوانا شنيعا على قطاع غزة شهر ديسمبر 2008، وتوالت الاعتداءات على القطاع، ونتج عنها مئات الشهداء. غير أنّ ذلك لم يثن المقاومة الفلسطينية المحاصرة عن الاستماتة في القتال، ما شكل هاجسا أمنيا للسلطة الصهيونية والمستوطنين على حدّ سواء. وكان سببا إضافيا للهجرة المعاكسة وعدم الرغبة في الاستيطان.
وفي عدوانها الأخير على مدينة جنين، تكبد المحتل الصهيوني خسائر لعلها الأكبر والأكثر مهانة، حيث تداول رواد مواقع التواصل الاجتماعي في فلسطين مقاطع فيديو توثق تدمير مدرعات الجيش الصهيوني، بأسلحة المقاومة الفلسطينية. وبدت المقاطع ساخرة جدا تكسر أسطورة الجيش الذي لا يهزم. ودفعت العملية النوعية للمقاومة الفلسطينية في جنين الإعلام الصهيوني إلى استرجاع ذكرى حرب لبنان 2006، بوصفها “ذكرى أليمة”. ومثلت عملية المقاومة في جنين “ وحدة ميدانية” لصفوف المقاومة، وبداية مشجعة لمزيد من التنسيق.
اتفاق الجزائر
جاء اتفاق الجزائر للم الشمل الفلسطيني في وقت حساس بالنسبة للكيان الصهيوني، الذي كما أشرنا يعاني انقساما داخليا، وتعريا على الصعيد الدولي. فباجتماع الفرقاء الفلسطينيين في الجزائر شهر نوفمبر 2022، والتوقيع على اتفاق ينهون به انقسامهم، ويتعهدون بتوحيد الجهود لمواجهة العدو المشترك، يكون العدو الصهيوني قد وضع نصب عينيه إفشال المصالحة الفلسطينية على أساس مبدأ فرق تسد. ومن هذا المنطلق يمكن تفسير التصعيد الصهيوني ضد مختلف القطاعات المحتلة التي تخضع للسلطة الفلسطينية أو حركة حماس على حدّ سواء. في محاولة لمعاقبة الأطراف على نهجها طريق المصالحة، وثنيها عن الالتزام به مستقبلا.
العوامل الخارجية
تشير دراسات لكتاب صهاينة ويهود، أنّ استمرار الكيان في الوجود مرتبط بالعوامل الخارجية أكثر منه بالعوامل والتماسك الداخليين. إذ يتغذى الكيان ويستمد قوته من دعم الدول المؤسسة على رأسها بريطانيا وفرنسا، ثم الولايات المتحدة الأمريكية راعي الكيان الأول التي بلغ نفوذ اللوبي الصهيوني فيها مبلغه.
لكن يبدو أنّ هذا العامل بدأ في التراجع، بفعل انكفاء الولايات المتحدة الأمريكية على نفسها، مع تراجع مكانتها في الشرق الأوسط، ولعلّ من أهم مؤشرات هذا التراجع الموقف السعودي الخليجي من أزمة الطاقة العالمية الناتجة عن الحرب الروسية الأوكرانية، عندما رفضت السعودية طلب أمريكا برفع الإنتاج لخفض أسعار الطاقة، ثم عودة العلاقات السعودية الإيرانية، ورغبة هذين الأخيرين في التوجه شرقا، بطلب الانضمام إلى مجموعة “بريكس”، التي تضم كلا من البرازيل والصين وروسيا والهند وجنوب أفريقيا.
كما أنّ هذا الانكفاء الأمريكي ناتج عن التحولات الحاصلة على الساحة الدولية، والتي بدأت تُبلوِر نظاما دوليا جديدا، تكون أمريكا فاعلا فيه، وليست الفاعل الوحيد. وبالتالي بدأت أقطاب جديدة بالظهور تتمثل في روسيا والصين وكتلة دول العالم الثالث التي عانت من نظام الأحادية القطبية، وهذه الأقطاب تسعى لإرساء قواعد نظام دولي جديد مبني على العدالة واحترام سيادة الدول وحق الشعوب في العيش في سلام حسب ما يعلنه قادتها.
فقدان الغطاء السياسي والعسكري
تهدّد خسارة الغرب الحرب ضد روسيا بوكالة أوكرانية، بزوال الغطاء العسكري والسياسي، الذي تمتع به الكيان الصهيوني منذ تأسيسه العام 1948، لأنّ هذه الهزيمة، ستعني هزيمة أشدّ للكيان، الذي لن يجد دعما كافيا من الغرب ضد خصومه في المنطقة خاصة إيران وسوريا التي بعد حصار عشر سنوات عادت إلى الجامعة العربية، وما قد يمثله تحالفها مع إيران- التي طبعت علاقاتها مع السعودية مجددا- من تهديد وجودي. وفي السياق، قال رئيس حكومة الكيان الصهيوني، الأسبق إيهود باراك، أنّ “الكيان تلقى ضربة شديدة قبل حرب أوكرانيا والغرب على روسيا لم تحسب حساب نتائجها ومضاعفاتها حين لم تحقق أيّ هدف لها ضد سوريا وإيران خلال عشر سنوات، وتمكن هذا المحور من البقاء قادراً على التصدي لها وفرض استحقاقاته عليها.”
بوادر الزوال
بوادر الزوال تتمثل في الأصل في تأسيس دولة تجمع شتات اليهود، إذ تعتبر قضية تأسيس دولة لليهود مسألة دينية مرفوضة من طرف طائفة كبيرة من اليهود المحافظين، وعلى رأسهم اتباع طائفة “ناطوري كارطا”، ويقارب عددهم المليون أو يزيد، حيث ترى هذه الطائفة أنّه لا يمكن أن تقوم دولة لليهود، وأنه كتب عليهم الشتات، إلى أن يأتي المسيح المخلص ويقودهم إلى جبل صهيون. وهم من المدافعين، أيضا عن عدالة قضية الشعب الفلسطيني. ويعتبرون أنّ تجمع اليهود في دولة واحدة هو بداية انتهاء اليهود من الأرض.
كما أنّ كتب التاريخ دوّنت أنّ دوافع الصهيونية العالمية لإقامة دولة دينية في فلسطين، يجمع فيها اليهود، هي الرغبة في التخلص من اليهود في دولهم الأم، بسبب ما يشكلونه من خراب وأعباء. وفي هذا الصدد، قال ثيودور هرتزل، مؤسس الحركة الصهيونية العاليمة، “ إنّ المعادين للسامية سيكونون أكثر الأصدقاء ويمكننا الاعتماد عليهم، وستكون الدولة المعادية للسامية حلفية لنا.” (من كتاب الأعمال الكاملة لهرتزل، الجزء الأول). ويعني ذلك أنّ تأسيس كيان صهيوني في فلسطين لم يكن حبا في اليهود، بل رغبة في التخلص منهم.
وعن قرب نهاية وجود الكيان يقول، أبراهام بورج، وهو صهيوني شغل منصب رئيس الكنيست، في مقال نشر بتاريخ 19 سبتمبر 2003، في جريدة واشنطن بوست: “ الأمة (الصهيونية) ترتكز الآن على سقالة من الفساد وأسس من القهر والظلم، لذا فقد أصبحت نهاية المشروع الصهيوني على أبوابنا، وهناك احتمال أن جيلنا هو الجيل الصهيوني الأخير. وربما تبقى دولة يهودية في هذا المكان لكنها ستصبح دولة مختلفة وقبيحة وغريبة.
ويذكر المفكر عبد الوهاب المسيري في كتابه” البروتوكولات واليهودية والصهيونية”، أنّ اليهود لم يكونوا أمة ذات هوية مشتركة ليؤسسوا دولة، ولم يكن مشروع إقامة دولة يهودية يوما في شرعتهم، ووصف الكيان الصهيوني بأنه وظيفي ومرتزق. ذلك أنّ اليهودي الذي يحصل على حقوقه الدينية والسياسية والاقتصادية، لن يغادر دولته، لذلك فإنّ كلّ من هاجر إلى فلسطين لدى إعلان قيام الكيان الصهيوني هم مرتزقة مضطهدون في بلدانهم الأم، لذلك يهاجرون ويتحولون إلى مستوطنين، وهو الأساس الذي تقوم عليه الاستراتيجية الصهيونية في الاستعمار الاستيطاني.
هذه الحقائق والظروف الدولية الجديدة قد لا تخدم استمرار الكيان الصهيوني القائم أساسا على التوسّع إلى حدود دول مجاورة، لتأسيس دولة تمتد من النيل إلى الفرات. وبذلك فإما أن يكون الحلّ هو زوال هذا الكيان مستقبلا، أو إقامة دولتين على أرض فلسطين.