يفتح خليل بن عزة، أستاذ باحث في علوم الاتصال، وناقد إعلامي، النقاش حول موضوع “الميديا الجديدة مالها وما عليها”، ويسلط الضوء – في هذا الحوار الذي خصّ به “الشعب” – على انعكاسات التكنولوجيات الحديثة على المجتمعات وتأثير وسائل التواصل الاجتماعي على مجال الإعلام بشقيه المكتوب والسمعي البصري، وكذا انعكاساتها على تطوّر المجتمعات..
“الشعب”: يُجمِـع كثير من العلماء والباحثين المتخصصين، والمهنيين الإعلاميين، على أن وسائل التّواصل الاجتماعي أتاحت فرص التعبير، دون مراعاة التّمايز الثّقافي والمعرفي لأفراد المجتمع، وفي ذلك خطورة متعدّدة الأبعاد. كيف تعلّقون على ذلك؟
خليل بن عزة: لا يمكن الإجابة على هذا السٌؤال قبل التّدرج في محاولة فهم الظروف التي نشأت فيها هذه الوسائل الإعلامية الجديدة، والتي تُـعد بتقنياتها المعقدة ووسائطها الاتصالية وبرامجها وتطبيقاتها، ذروة ما توصّل إليه العقل البشري من منتجات تقنية، حوّلت النظريات من معارف مجردة إلى تقنيات مذهلة، ولعلها تذكرنا بمقولة عالم الفيزياء والكهرباء الشهير “نيكولا تيسلا” حين تنبأ واستشرف ذلك منذ أكثر من قرن قائلا: “ستعيشون لتشاهدوا أشياء مذهلة من ابتكار البشر.. قد تفوق قدرتكم على الاستيعاب”.. لكن، استدراكا لما تقدّم، وعلى الرّغم من النّجاح الكبير الذي حققته وسائل التواصل الاجتماعي، إلا أن التحدي الكبير الذي يواجهها كوسائل إعلامية جديدة (نيوميديائية)، يتمثل في تحويلها لمستخدميها من متلقيين سلبيين للمعلومات دون فحص أو تمحيص وتدقيق، إلى جمهور نشط وباحث عن أخبار صحيحة وحقائق موضوعية، أو “معلومة نقية” كما يسميها “بيير بورديو”، فصار الرهان حاليا هو أن يكتسب رواد النيوميديا التّفاعلية، وعياً يدفعهم للاستخدام اللائق والمناسب والآمن لهذه التّقنيات، والبحث عن دقّة المعلومة التي يتلقاها يومياً والتّـأكد من صحتها، خاصة في ظل تحوّل وسائل التواصل الاجتماعي إلى إحدى أهم مصادر المعلومات، مُنافِسةً في ذلك وسائل الإعلام الجماهيري وخاصة التلفزيون كوسيلة “ماس- ميديا” كان لها تأثيرها الكبير ولايزال، رغم المنافسة الشّرسة من فايسبوك وتويتر ويوتيوب وٱنستغرام وأصدقائهم.
اليوم، وفي زمن الحداثة الفائقة، يُمكننا القول إن الإعلام الجديد بأهم وسائله، وعلى رأسها “شبكات التواصل الاجتماعي”، صَنع إنساناً جديدا، يمكن وصفه بـمصطلح “أبناء السٌوشيال ميديا” أو “المتواصلون الجدد”، هؤلاء الذين استفادوا من مكانة وسائل التّواصل الاجتماعي في حياتنا اليومية بعالم اليوم، ونقصد بأبناء السُوشيال ميديا أو المتواصلون الجدد، الجيل الجديد من البشر الذين تزامن نموهم وتطورهم البيولوجي والسيكولوجي والسوسيولوجي مع تطور التّقنيات الإعلامية والاتصالية منذ ظهور الشبكة العنكبوتية إلى غاية تبلور العالم الرقمي الرّاهن، ويمكن القول إن تنشئتهم الاجتماعية ومختلف مراحل نضجهم البيولوجي والسيكولوجي، تماشت وتماهت مع استخدامهم لهذه التقنيات المعلوماتية، حتى صارت جزءا مهمّا في حياتهم، وتحوّلت إلى إيديولوجيا متجاوزة كونها مجرد تكنولوجيا على حد تعبير “مارتن هايدغر”، وأخطر ما في الأمر، هو أن هذه الوسائل وفضاءاتها الافتراضية، أتاحت فرص الكلام والتّعبير لجميع النّاس، دون النّظر إلى اختلاف مستوياتهم التّعليمية والمعرفية، وتمايُـز وضعهم الاجتماعي والاقتصادي، وهنا نتذكر الكاتب والفيلسوف الإيطالي “أمبرتو إيكو” الذي انتقد ذلك في كثير من كتاباته ومؤلفاته، مُنتقدا ومُـتّهما مواقع التّواصل الاجتماعي الشّهيرة بأنها جعلت الجميع يتحدث كمن يحمل جائزة نوبل، وساوت بين المتعلم والأمي، المثقف والعامي..
ما تصوركم العام لطبيعة الصّراع المحتدم بين الإعلام الكلاسيكي والإعلام الجديد، وما هي أبعاده ورهاناته المستقبلية؟
الصّراع بين الإعلاميين، الجماهيري (الماس- ميديا) والجديد (النيو- ميديا)، صار أهم إشكالية يتناولها الخبراء والباحثون الإعلاميون والسٌوسيولوجيون، وكذلك رجال مهنة الصحافة والإعلام راهنا، ومن الواضح بجلاء، تراجع دور الإعلام التّقليدي “الماس- ميديا” بمختلف وسائله (التلفزيون، الإذاعة، الصّحافة المكتوبة والمطبوعة، السّينما، دور النشر والطبع، مؤسسات الإشهار..)، بعدما فقد كثيرا من قوته وتأثيره بصورةٍ تدريجيةٍ أمام الغريم الجديد المسمى “النيو- ميديا” ووسائلها المختلفة، أهمها شبكات ومنصات التّواصل الاجتماعي، والتي اكتسحت المشهد السوسيوإعلامي مؤخراً. ولئن تميز هذا الاكتساح بالطابع الهاوي من حيث الممارسة الإعلامية، والشّعبوي من حيث المضامين ومعالجتها، إلا أنه جعلنا نخسر الاثنين معاً.. فلا وسائل الإعلام الجديدة تقدمت بالممارسة الإعلامية وحسَّنت مُستواها، ولا الإعلام القديم حافظ على مكانته التّأثيرية وقوته التّوجيهية.
ما الحلول الممكنة لفض هذا الصراع أو كيف السبيل إلى توازنات تنصف المتلقي للأخبار بالدرجة الأولى؟
الآن، صار لزاماً منع تمدّد سيطرة وسائل التّواصل الاجتماعي على المشهد الإعلامي الرّاهن، وإيقاف زحفِها نحو مكانة تكون فيها بديلاً نهائياً عن الوسائل الإعلامية التّقليدية الجماهيرية، فالعلاقة بينهما يجب أن تظلّ تكاملية لا إلغائية، وذلك رغم تراجع الإقبال عن الوسائل التقليدية التي يجب أن تكونا ملاذا معلوماتيا آمنا خاصة أثناء الأزمات، وفي معالجتها للقضايا الجوهرية التي تنهض بالدول والمؤسسات، وهي كذلك مهمة منوطة بالحكومات، نقول ذلك ونحن ندعوها لدعم إنشاء وتأسيس مؤسسات إعلامية حقيقية، تقدّم نشاطا إعلامياً محترفاً ومنتجاً، يلبي الحاجات الإعلامية للمجتمع ويخدم القضايا الوطنية للدولة ويحفظ أمنها القومي.
أما فيما يخص الصحافة المكتوبة (المطبوعة) على سبيل الحصر، وفيما يخص الجانب المهني والاحترافي، فحلها الوحيد راهناً هو مواكبة المبتكرات والمستحدثات الاتصالية الرّاهنة، وذلك بغزو الفضاءات الافتراضية بطرق منظمة وممنهجة، لقطع الطريق أمام أخطار صحافة المواطن من ناحية، وملء الفراغ المعلوماتي الذي صارت تستغله وتملؤه وسائل التواصل الاجتماعي من ناحيةٍ أخرى.
يدور جدل كبير على مستوى مختلف الفضاءات الأكاديمية، السّياسية، والإعلامية.. حول التأثير السّلبي والمتزايد لوسائل التّواصل الاجتماعي على النّسيج الاجتماعي في الدول المعاصرة، هل تعتقدون حقا أن هذه الوسائل الإعلامية الجديدة بلغت هذا الحد من الخطورة في السّياقات الرّاهنة؟
دعيني هنا أستحضرُ مقولةً لـ«سوفوكليس”: “لا يدخل شيءٌ ضخمٌ إلى حياة البشر من دون لعنة”، من خلال ذلك يمكن أن نناقش سؤال التأثير السّلبي لهذه الوسائل على الأمم والمجتمعات والأجيال الجديدة، فمواقع التواصل الاجتماعي لا تقل خطورة عن الكوارث الكبرى التي تهدّد عالمنا في وقتنا الراهن، نقول ذلك ونحن نفكر في الكوارث الإيكولوجية أو الجيولوجية أو الكيميائية أو البيولوجية.. وغير ذلك. فالحق أنها بلغت حدّا مُخيفاّ من العنف والسّيطرة اللذين أصبحت تمارسهما على حياة الأفراد والجماعات كأمر واقع ومؤلم في نفس الوقت، ويدفعنا لمساندة وصفِها بـمصطلح “الخوارزميات الشَّيطانية”، رغم ما قدمته للبشرية من إنجازات وآفاق لا يُمكن إنكارها، وللإنسانية من خدمات وتسهيلات نحترمها ونُجِلـّها.
فمن كوارث السُوشيال ميديا على سبيل المثال، أنه وبحلول عام 2011 تزايدت حالات الانتحار بين المراهقين، وتراجع مستوى تحصيلهم الدراسي بسبب إدمانهم على مواقع التّواصل الاجتماعي وتطبيقات الذّكاء الاصطناعي، وهو ما أشارت إليه العديد من الدراسات بالبحث العلمي والمنهجي، أبحاث معتمدة وتابعة لجامعات عالمية، ومنشورة في مجلات علمية مرموقة. كما تمّ رصد ظاهرة استفحال الأمراض النّفسية كـ«الاكتئاب” و«النيفروز” والاضطراب ثنائي القطب”.. وغيرها من الأمراض البسيكولوجية الخطيرة والمهدّدة للأجيال الجديدة، وذلك بفعل “الإدمان”، وكذلك بفعل تحوّل كل شيء إلى سلع قابلة للبيع عبر سوق إلكترونية كبرى تسمى “سوق السٌوشيال ميديا”. وهنا نعود إلى الخوارزميات الشيطانية التي تضطلع بمهمة نشر المعلومات والأخبار والقضايا التي تبثها هذه المواقع لمستخدميها، والأهم من ذلك هو تحكّمها في عملية توزيع تلك المعلومات وانتشارها داخل الشّبكات الاجتماعية والمنصات الإلكترونية، والهدف هو صناعة تأثير موجه ومقصود، هدفه إبقاء المستخدمين في حالة انتباه كامل لإشعارات هذه المواقع طوال الوقت، فخوارزميات التّطبيقات والشّبكات النيوميديائية، تعمل على تغذية الأخبار والمعلومات المختلفة، باستخدام بيانات ملايين المستخدمين وبيعها للشركات المعلنِة. وبنفس الأسلوب، عثرت هذه المنصات على الأدوات التي تستطيع بواسطتها التأثير السّياسي أو التّجاري أو الإيديولوجي المباشر في العديد من البلدان بما في ذلك بلادنا، ومن تمظهرات ذلك في الجوانب السّياسية، تقليص حدود الممارسة الدّيمقراطية من خلال الاستقطاب السّياسي والمجتمعي في الانتخابات بعدة دول غربية وشرقية، وكذلك نشر الاحتقان وخطابات الكراهية على أسس دينية أو لغوية أو إيديولوجية أو عرقية.. وقد تصل إلى حد التّحريض على التّطهير العرقي أو ازدراء الثقافات والأديان واللغات ومختلف المستويات الأنثروبولوجية للثقافة والمعرفة.
كذلك، من أهم الإشكاليات التي دار حولها الجدل البحثي والأكاديمي مؤخرا، وخاصة في السوسيولوجيا وعلوم الاتصال، تلك المتعلقة بالتأثير السّلبي المتزايد لوسائل التّواصل الاجتماعي على النسيج الاجتماعي، وتشجيعه للحركات الاحتجاجية على وجه الخصوص.. ومما لا شكّ فيه أن هذه الوسائل صارت من أهم العوامل التي تُساهم في الحشد الجماهيري، متجاوزة في ذلك الماس ميديا الكلاسيكية، والتي تميزت بذلك منذ منتصف القرن الماضي، قبل أن تستسلم في الوقت الراهن، فمعظم الأحداث السّياسية والاقتصادية والاجتماعية والثّقافية التي طرأت في العالم، ومسّت النّسيج الاجتماعي وحتى الوحدة الوطنية والأمن القومي للكثير من الدول راهناً، كان عـرّابوها الرئيسيون وسائل التواصل الاجتماعي أو جهات مستخدمة لها، وهنا نشير إلى موقف الباحث وعالم السوسيولوجيا الإسباني “مانويل كاستليس” الذي يؤكد بأن المنصات الرّقمية التّفاعلية أنتجت أنواعا جديدة من الحركات الاجتماعية، وبدون قيادة أو زعامة رأي، ولا حتى قضايا رئيسة وواضحة في بعض الأحيان! وهنا مكمن الخطر الكبير، على عكس الحركات الاجتماعية التّقليدية التي كانت تتطلّب وجود قادة رأي وزعماء تجديد أو إصلاح، وتجمهرات دورية متَّفِقة على قضية واضحة وأهداف مرسومة، ومما لا شك فيه أن تفعيل الصّلات بين جماعات غير مرتبطة في الأصل، يزيدها قدرة على الحشد بنفس زيادة حجم خطرها على التّماسك الاجتماعي.
أمنيا، لا يمكن أن ننكر التأثير والخطر المتزايد لوسائل التواصل الاجتماعي على النّسيج الاجتماعي، وذلك بفعل التّشجيع المُبالغ فيه للحركات الاحتجاجية على وجه الخصوص، والتي صارت عاملاً مثبِّطا للسَّير الحسن للمؤسسات في الدُّول الوطنية، فحتى النّظريات التي تُموضِع وسائل الميديا الجديدة كعناصر رئيسية في فهم حركات الاحتجاج المعاصرة، تواجه العديد من الانتقادات في الوقت الراهن، ذلك أن ظهور أنماط جديدة من المشاركة المدنية والسّياسية والحقوقية والنّقابية.. والتي تميل إلى الغموض في كيفية تواصلها – كحركات إلكترونية – مع الأنظمة السّياسية الحاكمة ومؤسسات الدّولة الرّسمية التي ترسم السّياسات العامة.. يبقى يشكل خطراً وتهديدا لا يمكن إنكاره، كما أن الخطر الأكبر هو سهولة اختراقها من طرف جهات معادية داخليا أو خارجيا، لكونها تشتغل عبر وسائط إلكترونية، كذلك يسهل عليها التّواصل مع الأطراف المُعادية أو تلقي معلومات، بيانات، توجيهات، أموال.. وغير ذلك. وقد وقفنا بجلاء على استخدام الجماعات الإرهابية مَثلا لهذه المنصات وخاصة “تويتر”، “فيسبوك”، “يوتيوب” و«واتس آب”.. وذلك في محاولاتها لنشر أفكارها المتطرفة وتشجيع الشباب على اعتناقها، ومن ثم سهولة تجنديهم في صفوفها، فشأنها شأن أي وسيلة تكنولوجية جديدة، هناك دائما إمكانية إساءة استخدام هذه المبتكرات والمستجدات كما يسميها “روجيرز”، وذلك بعد توفرها ثم انتشارها، ويبقى في ذلك خطر كبير على الأمن القومي للدول من جهة، ونسيجها الاجتماعي من جهة أخرى.
هل للتأثير السّلبي لمواقع التّواصل الاجتماعي، نفس الوقع على المجتمعات في العالم، أم أنّ تداعياته تكون أخطر على المجتمعات المحدودة معرفيا وتقنيا؟
لا شكّ أن تأثير المبتكرات والمستحدثات بمختلف أشكالها، يختلف من مجتمع إلى آخر، ومن طبقة اجتماعية إلى أخرى في المجتمع الواحد كذلك، فأما بالنسبة للمجتمعات، لم تكن تأثيرات التقنية عموما والميديا الجديدة بشكل خاص، شديدة الضّرر على المجتمعات المتقدمة، باعتبارها مجتمعات مرّت وتطوّرت وفق مراحل مُنظمة ومتدرجة منذ الشّفهي، مُرورا بالكتابي المطبوع، وصولاً إلى التقني الرقمي، على عكس المجتمعات المتخلفة علمياً، والتي وجدت نفسها في عصر التقنية وعالم الرقم عارية، وهي القادمة من الشفهي، وحارقةً مرحلة الكتابي والمكتوب.
كذلك الأمر بالنسبة للطبقات الاجتماعية، فعوام النّاس من ذوي الثقافة البسيطة والمستوى المعرفي المتواضع، يكونون أشد تأثرا بصورة سلبية من استخدام هذه الوسائل الاتصالية الجديدة أو تلقي مضامينها، مقارنة بالفئات المتعلمة والرّاقية ذوقيا ومعرفيا وفكريا، نقول ذلك بكل حذر بعد ما شاهدناه مؤخرا من نقاشات أبعد ما تكون عن الأخلاقيات الهابرماسية، خاصة تلك المتعلقة مثلا بقضايا السّياسة، الثّقافة والهويات التاريخ.. فبعض المحسوبين على النّخب المتعلمة والمثقفة كانوا – مع كل الأسف – من مُهندسي خطابات الكراهية والإقصاء والعنصرية، وهو ما يدفعنا لطرح الكثير من الأسئلة التي تخصّ استخدامنا للوسائط الرقمية وتداولاتنا وأخلاقيات النّقاش عبر الفضاء العمومي الافتراضي في بلادنا.
إن تعاظم دور فايسبوك وأصدقائه في الآونة الأخيرة، والذي لم يعد مجرد فضاء للتّواصل بين الأفراد، وإنما تحول إلى أحد أهم أدوات صناعة وتشكيل الرأي العام وتوجيهه والتّحكم في مفاصله، وكذلك من أهم وسائل التنشئة الاجتماعية وصناعة الوعي، إضافة إلى سرقتِه للوظائف الكلاسيكية للإعلام الجماهيري مُمثلةً في الإِخبار، التّثقيف، والتّرفيه، يجعلنا أمام خطر كبير يقتضي كثيرا من التأني والحذر الذي يجب أن ينعكس على إجراءات تتراوح بين الضّبط والتّشريع والجوانب القيمية والأخلاقية، خاصة بعدما استحالت منصاتٍ مثاليةٍ للتنظيمات المتطرّفة، وملاذاتٍ آمنة للفكر الإرهابي أو العنصري أو الإقصائي والتضليلي بشكل عام.
ينبغي التأكيد على أن مختلف نظريات الاتصال والإعلام والجماهيري الحديثة تُجمع على تنامي دور الإعلام الجديد وسيطرة وسائل التواصل الاجتماعي على السّاحة الإعلامية الدّولية، مُستفيدة من الثّورة الرّقمية التي عرفها العالم راهناً، لهذا صار من الضّروري العمل على الاستفادة من إيجابياتها قدر الإمكان، وبالموازاة مع ذلك تقليص أخطارها بمختلف الوسائل الممكنة والمتاحة، عن طريق ضرورة ضبطها وتنظيمها، وذلك وفق خطوات هامة نقترح منها:
– التركيز على التّربية الإعلامية في المؤسسات التربوية من أجل إكساب المراهقين والشباب مهارات وجدانية ومعرفية تتيح لهم الاستخدام الجيد والآمن لمختلف وسائل الإعلام والاتصال الجديدة.
– التّصدي لـ«الفايك نيوز” والشّائعات والأخبار المغلوطة التي تَصدر عن أفراد أو جماعات أو تنظيمات عبر وسائل التّواصل الاجتماعي، وتطبيق عقوبات ردعية صارمة ضد مروجيها، مع الاستعانة ببرامج ذات جودة عالية تعتمد على خوارزميات التّعقب أو الحجب أو الرّصد الرقمي.
– استخدام وتوظيف وسائل التّواصل الاجتماعي من طرف الدولة وعبر مؤسسات رسمية، تعتمد على خبراء ومتخصصين، يقومون على تنفيذ مشاريع وبرامج تستهدف التّصدي للأفكار الهدامة والأيديولوجيات المتطرفة، وكل ما من شأنه تهديد الأمن الفكري والوحدة الوطنية والنّسيج الاجتماعي.
كيف يمكن التّعامل مع خطر تحوّل كل مستخدم لهذه الوسائل الذكية والتفاعلية إلى إعلامي وصانع للمعلومة، وذلك تحت ذريعة ما يسمى بـ«صحافة المواطن”؟
يمكن وصف هذا السؤال بـ«التحدّي الأمني الأكبر” للدول والحكومات من أجل حفظ أمنها القومي والنسيج الاجتماعي داخلها، على أن لا تتحوّل هذه المخاوف التي تعتري الحكومات إلى سلطة رقابة وحجب مبالغ فيها، بل سلطة ضبط قائمة على قوانين وتشريعات إعلامية ومواثيق أخلاقية متكئة على المسؤولية الاجتماعية كحلول متوازنة، فالقمع والتّضييق في التّعامل مع قطاعات عريضة من الجماهير المستخدمة لهذه الوسائل يضع الحكومات أمام جُملة من المسؤوليات والاتهامات التي ستقض مضجعها، أهمها اتهامِها المباشر بالتّضييق على الحريات، والباترياركية على الأفكار، وسيرها في طريق قمع الآراء وتكميم الأفواه، نقول ذلك ونحن مدركين يقيناً أن الحكومات ليس بمقدورِها فرض سيطرة على مواقع التّواصل الاجتماعي تُماثلُ كفاءة سيطرتها على وسائل الإعلام الأخرى، ذلك أنها وسائل عالمية ومعولمة، فضلاً عن اتسامها بالطابع الرّبحي، ففي الوقت الذي تنظر إليها الدول والحكومات بوصفها خروجا عن السّيطرة وانتهاكا للأمن، تمضي تلك الوسائل دون هوادة نحو الليبرالية بكل ما تحمله الكلمة من حمولة متعددة الأوجه الإيجابية والسلبية.
هل من حلول ناجعة تقلّص خطر الإعلام التّفاعلي ومواقع التواصل الاجتماعي على الوحدة الوطنية والنّسيج الاجتماعي؟
ينبغي على الدٌول والحكومات الالتزام بمعايير تَكفلُ عدم التّلاعب بالمعلومات وتضمن حمايتها، وقد تستعين في هذا الشأن بمؤسسات البحث العلمي وكذلك المجتمع المدني، إلى جانب ممثلين عن القطاع الحكومي، فكثير من الحكومات لا تستثمر كمّا هائلا من المعلومات التي توفرها وسائل التّواصل الاجتماعي وما تقدمه المبتكرات الرقمية، وبعضها تساوي أموالا وبرامج ومشاريع هامة واستراتيجية، غالبا ما تُستغل من خواص، ويتم تحويلها إلى فرص ربحية ومكاسب اقتصادية منتجة، وهنا تتجلى أهمية ضبط العلاقة بين الجمهور من جهة، والقطاعين العام والخاص من جهة ثانية، وذلك وفق منظومة قائمة على إنتاج منظومة تشريعية رصينة، والعمل على التّربية الإعلامية لتحقيق التّعامل المنتج والفعّال مع التّواصل الاجتماعي وفضاءاته، وتكليف جهات ومؤسسات لتشغَل دور المنظِّم والمنسق.
لا يختلف اثنان من المتخصصين والمهتمين، على أن الثورة الرقمية الحاصلة في عالم اليوم، هي فرصة وتحدٍ في الآن ذاته، يجب استثمارها إيجابيا من طرف الحكومات والمجتمع المدني والقطاعات الخاصة على حدّ سواء، وكذلك بناء علاقة تكاملية بين الحكومات والقطاع الخاص، تستهدف تحقيق الأمن الرقمي، وتحسين السّياسة الرّقمية، فمن الضروري أن تواكب الحكومات كل ما يجري على صعيد تكنولوجيا الإعلام والاتصال ومختلف وسائلها وتطبيقاتها الذكية، وذلك من أجل أن تتمكن من إنتاج خطاب مُضاد لما توظفه بعض الجهات والجماعات التي تهدّدها، على غرار أصحاب الأفكار الهدامة والعنصرية والمتطرفة والإرهابية.. كما ينبغي إيجاد آليات وحلول يتمّ من خلالها إشراك المواطن في صناعة القرارات، وذلك باستحداث منصات تنصت لرأي الشارع إزاء قرارات الدولة وتشركه فيها بالإنصات لانشغالاته والإجابة على تساؤلاته والرّد على شكاويه، فلا يمكن الوصول إلى المواطنين، وخاصة فئة الشباب منهم، دون التّواصل معهم عبر الوسائل المتاحة لهم حاليا، وبعيدا عن قنوات الاتصال التقليدية، وهنا تظهر أهمية تعزيز الواقع الرّقمي من طرف الدّول وحكومات المستقبل، فلا يجب أن ننكر واقع كوننا أمام تحديات يفرضها مستقبل البيانات المفتوحة والذكاء الاصطناعي كمفتاح لمستقبل الاتصال السّياسي والحكومي، والقائم على أسس التّواصل اليومي مع الشّعب عبر الفضاءات الواقعية والافتراضية على حدّ سواء، من أجل تحقيق السّلم والرضا الاجتماعي، وتسهيل بلوغ التنمية في مختلف القطاعات، إضافة إلى تطوير المعرفة والابتكار وتحريك الشعوب نحو المزيد من التقدم والتحضر والازدهار، فعالم اليوم صار مُتغيرا ومتسارعا على حدّ وصف الفيلسوف والناقد الاجتماعي الفرنسي “إيدغار موران”، ومعه تتسارع وتتغير قضايا الناس وانشغالات المواطنين، وهو ما يتطلب تواصلاّ مرِنـاً وسلساً ودؤوباً بين الحكام والمحكومين.. الشعوب والحكومات.
كذلك لا يمكن أن نتجاهل الدّور الهام للذكاء الاصطناعي كثورة صناعية رابعة في عالمنا الراهن، ساهم في تحسين عمليات التواصل التي كانت تقوم بين الدّول وشعوبها، وكذلك سهلت أنظمتها المعقدة والدقيقة من عمليات الاحتواء الأمني لبعض أخطار تكنولوجيا المعلومات، فالذكاء الاصطناعي كمحاكاة واقعية وعملية لذكاء الإنسان، يعتمد على مقومات تقنية مبتكرة في غاية التّطور والتّعقيد، قد تستفيد منها الدول لحماية نسيجها الاجتماعي أولا وأمنها القومي ثانيا وأخيرا.