يؤكد العيد جلولي، أستاذ التعليم العالي، وعميد كلية الأدب واللغات بجامعة قاصدي مرباح ورقلة سابقا، أنّ الحقيقة التاريخية الواجب ذكرها هي أنّنا أصحاب أقدم جامعة في تاريخ البشرية وهي جامعة “مادور” بمدينة “ماداروش” بولاية سوق أهراس.
ويوضح في حديث لـ«الشعب” بمناسبة الذكرى الـ61 لعيد الإستقلال أنّ هذه الجامعة بنيت في عهد الملك النوميدي سيفاكس حوالي 230/220 قبل الميلاد، وكانت قبلة للطلاب والعلماء، وفيها كتب “لوكيوس اوبوليوس المادوري” أول رواية في التاريخ بعنوان “الحمار الذهبي” وفيها ألقى القديس “أوغسطين” دروسه وتعاليمه.
يعود تاريخ إنشاء جامعة الجزائر إلى في العصر الحديث سنة 1833، أي بعد غزو فرنسا لبلادنا بثلاث سنوات، وكانت مدرسة الطب أول تخصص أنشأه الاستعمار وكان الجزائريون والأتراك واليهود ممنوعين من دراسة الطب، فكان هذا التخصّص حكرا على الأوروبيين وحدهم، يقول أستاذ التعليم العالي.
ويضيف:« في 1909 أنشئت كلية الآداب والعلوم الإنسانية وكلية الحقوق وكلية التجارة والزراعة، وفي 1956 أنشأت فرنسا معهدا للدراسات النووية، وفي 07 جوان 1962، أي قبل استقلال الجزائر بأقل من شهر، نشب حريق داخل مكتبة جامعة الجزائر أتى على الذخيرة الثقافية والعلمية، التي تزخر بها المكتبة ومنها المخطوطات النادرة لحرمان أجيال الاستقلال من معرفة تراثها وتراث الإنسانية جمعاء وقد وُصف الحريق بأنّه “عمل إجرامي”، نفذته “المنظمة السرية الفرنسية”، التي كانت تعارض استقلال الجزائر، علما أنّ هذا الحريق أتى على 400 ألف كتاب ومخطوط من أصل 600 ألف”.
ويبرز محدثنا، أنّه بعد استرجاع السيادة الوطنية بدأت في الجزائر نهضة جديدة، وأخذت البلاد تتغير ملامحها نحو الأفضل، فانتشر التعليم، وانتشرت معه حركة ثقافية حاولت تعويض سنوات التخلف والجهل، الذي تركه الاستعمار.
وكان التركيز يومئذ منصبا على التعليم الابتدائي والمتوسط والثانوي ثم الجامعي، حيث خضعت الجامعة الجزائرية باستمرار لإصلاحات وإعادة هيكلة للانتقال من الجامعة الاستعمارية إلى الجامعة الوطنية، وقد مر تطور الجامعة بمراحل.
شهدت المرحلة الأولى، إرساء أسس الجامعة الوطنية من 1962 إلى 1970 وقد تميزت هذه المرحلة بفتح جامعات في المدن الرئيسية الكبرى، وهي جامعة وهران سنة 1965 وجامعة قسنطينة سنة 1967. ثم جامعة العلوم والتكنولوجيا هواري بومدين بالجزائر، وجامعة العلوم والتكنولوجيا بوهران، وجامعة عنابة وظهرت جامعات كثيرة.
وفي المرحلة الثانية، طبق إصلاح منظومة التعليم والتكوين العاليين سنة 1971 تلاه وضع معالم الخريطة الجامعية في 1982 وتحديثها في 1984. ففي 1971 انطلقت مرحلة الإصلاحات الكبرى، وشرع في إعادة توجيه البرامج الجامعية تستجيب للمرحلة الجديدة من حيث الاهتمام بتكوين الأيادي العاملة من أساتذة وعمال وإطارات لسد الفراغ، الذي تركه رحيل المستعمر وأيضا لمواكبة مشاريع بناء الدولة الجزائرية الحديثة كتأميم المحروقات والمناجم والبنوك وشركات التأمين، وأيضا انطلاق الثورات الثلاث: الصناعية والزراعية والثقافية، وكلّ هذا شكل جزءا لا يتجزأ من إصلاح التعليم العالي.
وشمل الإصلاح أيضا التعريب، بحيث اعتمدت اللغة العربية كلغة تعليم في كثير من المجالات خصوصا في العلوم الإنسانية والاجتماعية، إضافة إلى ذلك تكريس مبدأ ديمقراطية الجامعة، التي أصبحت جامعة وطنية مفتوحة لكل أبناء الشعب وأيضا سياسة الجزأرة، التي تعني تحرير البلاد من التبعية الثقافية والتكنولوجية وهذا بالاستغناء عن العنصر الأجنبي في مؤسسات الدولة وتعويضه بالعنصر الوطني.
كان عدد الأساتذة 82 أستاذا في 1962 ليصل بفضل هذه السياسة إلى أكثر من 57 ألف أستاذا من كلّ الأصناف، وهذا طبقا لإحصائيات وزارة التعليم العالي في الجزائر، التي كشف عنها وزير التعليم العالي والبحث العلمي السابق، يوم 11 جويلية 2022 بالجزائر العاصمة، وأنّ العدد الإجمالي للأساتذة من المصف العالي يقدر بـ 27780 أستاذا، أيّ ما يعادل 47 بالمائة من إجمالي هيئة التدريس الدائمة.
وعدد الطلبة عشية الاستقلال لا يتجاوز 2400 طالبا ليتجاوز عددهم في الدخول الجامعي الأخير (2022/2023) إلى أكثر من مليون و700 ألف طالب جامعي، حيث تشكل نسبة الإناث 66 % وهذا العدد يعكس التطور اللافت لمؤشر التنمية البشرية للبلاد، وكان توجه الدولة الجزائرية منذ الاستقلال نحو سياسة مجانية التعليم في كلّ المراحل وهو توجّه اجتماعي كرسته الثورة الجزائرية التي آمنت بالاستثمار في العنصر البشري، حسبما أوضحه الأستاذ جلولي.
من جامعة واحدة إلى 111 مؤسسة جامعية وطنيا
وسجل عدد الجامعات تطورا كبيرا فمن جامعة واحدة هي تركة استعمارية إلى أكثر من 111 مؤسسة جامعية موزعة على كامل التراب الجزائر، يضاف إلى ذلك 55 مؤسسة للتكوين العالي تابعة لوزارة أخرى تستفيد من الوصاية البيداغوجية لوزارة التعليم العالي.
شكلت المرحلة الثالثة لحظة هامة بحيث دعم نظام التعليم والتكوين العاليين بقانون توجيهي رقم05-99، المؤرخ في 04 أفريل 1999، يقوم على تأكيد المبادئ، التي تنظم التعليم العالي ويحدّد الأهداف الواجب تحقيقها، ويحدد القانون الأساسي للأستاذ والطالب في كلّ مستويات التعليم العالي.
وكانت المرحلة الرابعة مرحلة تطبيق نظام (ل.م.د) وعلى غرار دول العالم شرع منذ الدخول الجامعي 2004/2005 في تطبيق هذا النظام بصفة تدريجية بالتوازي مع النظام الكلاسيكي في العلوم الطبية والبيطرية وبعض المدارس المتخصّصة، وقد طبق هذا النظام من أجل مواكبة التطورات، التي شهدتها المنظومة الجامعية العالمية وأيضا مواكبة التحولات والتغيرات الاقتصادية والاجتماعية والتكنولوجية والعلمية وحتى السياسية، التي طرأت على المستوى الوطني والعالمي.
يهدف هذا النظام إلى ترقية التحصيل المعرفي وتطبيق معايير الجودة العالمية في نظام التعليم العالي، وكان النظام الجديد يندرج ضمن هذا المسعى الذي يستجيب لأهداف الإصلاح ويحقق التناغم المطلوب بين التعليم الوطني في المراحل الأولى وبين التعليم العالي في الجزائر ومع أنظمة التعليم العالي في العالم.
وتميزت المرحلة الخامسة بتحيين الإطار القانوني وضبط القواعد العامة المتعلقة بالتعليم العالي، حيث تمت مراجعة وتحيين الأرضية القانونية التي تطورت في إطارها الجامعة الجزائرية على ضوء التغيرات الجوهرية، التي يعرفها قطاع التعليم العالي والبحث العلمي.
يقول الأستاذ جلولي:« إنّ الجامعة الجزائرية وهي تخطو خطوات جبارة وترصد لها الدولة ميزانية ضخمة لابد أن تأخذ بعين الاعتبار حقيقة أنّ الثروة المادية للمجتمع، لا يمكن أن تنمو إلا إذا صاحبتها زيادة في الرصيد الوطني من الثروة البشرية المزوّدة بالمهارات الفنية وبالوعي السياسي وبالطموح والجدية وأيضا الاهتمام بالعلوم الإنسانية والاجتماعية، التي ينظر إليها البعض أنّها من سقط المتاع”.
ويضيف:« هنا أنقل ما قاله الدكتور محمد العربي ولد خليفة، في كتابه “المهام الحضارية للمدرسة والجامعة الجزائرية” ونحن نحتفل بعيد الاستقلال يقول: “ فالشائع بين الناس في بلادنا هو أنّ العلوم الإنسانية والاجتماعية لا تقدم للمجتمع سوى فلاسفة وأدباء ومؤرخين لا علاقة لهم بعلوم الآلة، التي تصنع الثروة وتستثمرها وهكذا تصور بعض المعنيين بشؤون المؤسسات الجامعية أنّ التقدم يقتضي تقليص الإنسانيات والاجتماعيات واعتبارها ثانوية في استراتيجية التعليم”.
ويقول أيضا ولد خليفة:« فالجامعة في نظرهم ليست أكثر من مخابر وأجهزة يلتف حولها الأساتذة والطلاب للقياس والتجريب، وماعدا ذلك فهو ضرب من الكماليات إن لم يكن من المعوقات، إنّ تنمية الخبرة الوطنية في الانسانيات والاجتماعيات تبدو لنا في هذه المرحلة من تطورنا أكثر ضرورة وإلحاحا لأنّها الأساس، الذي تنبني عليه تنمية الخبرة في الميادين الأخرى.”
ويشير محدثنا، إلى أنّ الجزائر شرعت بالخروج من هذا التصور القاصر لدور الفنون والعلوم الإنسانية والاجتماعية عندما استحدثت وزارة التربية الوطنية “شعبة الفنون” في مرحلة التعليم الثانوي العام والتكنولوجي، وهذا ابتداء من السنة الدراسية 2022-2023.
وحسب ما تضمنه القرار الوزاري رقم 37 المؤرخ في 14 أفريل 2022، الذي يحدّد شعب التعليم الثانوي العام والتكنولوجي، فإنّ استحداث هذه الشعبة يهدف إلى “تنمية وصقل مواهب التلاميذ الفنية وتطويرها وإكسابهم ثقافة تمكنهم من فهم الأبعاد الثقافية، التاريخية والجمالية للإبداعات الفنية وترقية البعد الفني وإعطائه مكانة في النظام التربوي الجزائري، يقول عميد كلية الآدب واللغات بجامعة قاصدي مرباح ورقلة سابقا.