تحلّ الذكرى الـ 61 المخلّدة لعيدي الاستقلال والشباب، والجزائر بصدد تعزيز المفهوم الشامل للسيادة الوطنية، من خلال خطط اقتصادية ضخمة وعبر سياسة خارجية واضحة المعالم، مع التمسّك بقيم ومبادئ الثورة التحريرية، وترسيخ دور عدم الانحياز.
يأخذ تاريخ الـ 5 جويلية، هذه السنة، منحى وقفة التأمل والتقييم، ليس للماضي، وإنّما للمستقبل، القريب منه والبعيد، بما يقود إلى السؤال، كيف ستكون جزائر الاستقلال والسيادة سنة 2030 فما فوق.
تفرض هذه الرؤية نفسها، في ظلّ سياسيات رئيس الجمهورية، عبد المجيد تبون، المستمدة من التزاماته الـ 54، والتي يمكن اختزالها، في هدف بناء الجزائر التي حلم بها الشهداء والمجاهدون، في ثورة الفاتح نوفمبر 1954.
ويحمل تصريح الرئيس تبون، لدى تفقّده جناح الجيش الوطني الشعبي، في معرض الجزائر الدولي، والذي قال فيه: “يا ليت الشهداء كانوا بيننا، ليشاهدوا إنجازات سليل جيش التحرير”، تعبيرا عن ارتياحه لما بلغته الصناعة العسكرية اليوم.
لكنّ المغزى العميق، هو اتخاذ الماضي الثوري، كقاعدة مرجعية لتقييم مسيرة البناء والعصرنة التي تعرفها البلاد، وما إذا كانت ترتقي إلى طموحات الشعب الجزائري وتضحيات الشهداء والمجاهدين.
من هنا، أيضا يتضح جليّا، أنّ المقاربة لا تتوقف عن الاحتفال بعيد الاستقلال وطرد المستعمر الفرنسي، وإنّما مواصلة المسيرة في بناء دولة قويّة، تعزّز استقلالها السياسي بالاستقلال الاقتصادي وتبرهن عن سيادة قرارها الاستراتيجي الخارجي.
تحت هذا العنوان، جاءت الاحتفالات العام الماضي بستينية الاستقلال، أين تم الإعلان عن الانطلاق وبسرعة نحو استكمال تحقيق الأمن الغذائي، والصحي والمجتمعي والارتقاء بالبلاد إلى مدار الدول السائرة في طريق النمو.
وخلال الفترة، أيّ سنة كاملة، فصل رئيس الجمهورية، في عديد الأهداف الكبرى، والتي تعدّ بمثابة الاتجاه الذي ستقطعه البلاد خلال الفترة المقبلة، إذ شدّد على رفع مستوى إنتاج الزراعات الاستراتيجية (الحبوب)، وتحقيق الاكتفاء الذاتي منها تدريجيا، وتم في ماي الماضي، إنتاج أول قارورة زيت المائدة جزائرية 100 بالمائة من الحقل إلى المستهلك، بينما ينتظر رفع تحقيق معدل يفوق الـ 30 قنطار في الهكتار بالنسبة لشعبة الحبوب في المناطق التي لم تتضرر من الجفاف.
بناء القدرات الاقتصادية للبلاد، يمضي أيضا بالشروع في استغلال الإمكانيات الطبيعية التي ظلت حبيسة تحت التربة لعدة عقود دون مبرر مقنع، فالاتجاه نحو مناجم بمخزونات استراتيجيات مثل غار جبيلات وبلاد الحدبة وواد أميزور، سيغير البناء الهيكلي للاقتصاد الوطني خاصة مع رفع الصادرات خارج قطاع المحروقات.
على صعيد آخر، أعلنت الجزائر رغبتها المستعجلة، في الانضمام لمنظمة البريكس، “بغرض ولوج نظام اقتصادي آخر”، أيّ أنّها تقرن تعددية الشراكات الدولية التي تنتهجها كمبدأ بالتعددية الاقتصادية، خاصة وأنّ العالم يسير بخطى متسارعة للإفلات من الهيمنة المطلقة للدولار واليورو، والوقت مناسب جدّا للتحرك بشكل استباقي.
وفي سياق متصل، يأتي احتفال الجزائر بالعيد الـ 61 للاستقلال، بصفر مديونية خارجية، وهي من الدول القليلة جدا في إفريقيا التي لا ديون عليها لدى صندوق النقد الدولي.
وضعية مماثلة، تحسد عليها الجزائر، ولا يجب أبدا الاستهانة بها، خاصة وأنّ البلاد صمدت أمام هزّتين عنيفتين جدّا على الاقتصاد العالمي، هزّة كوفيد-19 وهزّة انهيار أسعار البترول إلى ما دون الدولار الواحد، في فترة من الفترات.
كل هذا سمح بالعودة المبهرة على الساحة الدولية، بإعادة نسج الشراكات البناءة، والتموقع في منابر مرموقة كمجلس الأمن الدولي، وأهم من ذلك التعبير عن المواقف حيال مختلف القضايا بكلّ استقلالية.
وحتى في المجال الدفاعي، كان رئيس الجمهورية، صريحا جدّا، في تأكيده العقيدة العسكرية للبلاد، أثناء إشرافه التمرين التكتيكي بالذخيرة الحية “فجر 2023” بولاية الجلفة.
وقال في كلمته التوجيهية “الجزائر كانت ولا تزال قلعة سلم وأمان، لم يسبق في تاريخنا أن كانت مصدر تهديد أو اعتداء منطلقها في ذلك مبادئ حسن الجوار، والسعي إلى الأمن المشترك الذي ينبع من صميم تاريخنا السياسي والعسكري”.
قبل أن يضيف قائلا: “غير أنّه لا يخفى في عالم اليوم أنّ اكتساب موجبات القوّة والتحكم في عناصرها يعدّ من أولوياتنا لحماية سيادتنا الوطنية أمام محاولات زرع الاضطرابات الأمنية في جوارنا”.
وليس أوضح من هذه الرسالة للتعبير عن العقيدة المتشبّعة بقيم الثورة والمكرّسة لشخصية الجزائر الخارجية، إذ أنّها فاعل في صناعة الأمن والاستقرار لكنّها تتطلع وبكلّ سيادة لبناء موجبات القوّة التي تمكّنها من صون سيادتها وأمن شعبها.
هذا التوجّه الذي لا تكتنفه أيّ ضبابية، يحدّد بدقّة المسار المستقبلي، لجزائر 2030، حيث ينتظر أن يبلغ عدد السكان حوالي 55 مليون نسمة، مثلما عبر عن ذلك رئيس الجمهورية في زيارته إلى روسيا.
وأكّد في منتدى سانت بطرسبورغ، وضع سياسيات تحسّبا لهذه الآفاق، خاصّة ما تعلق بتطوير قطاع الطاقة وتنويعه وجعله مموّلا لعمليات التنمية خارج المحروقات.